مع العناء With the pain - 1
الفصل الأول
أزالتِ الستائر، وفتحتِ النافذة، ودخلَ النسيمُ العليلُ، ليجعل شعرها يرفرف..
“أوه! الجوُ جميلٌ اليوم!”
“لقد سمعتُ أنّ والدتي قد غادرتَ منذُ الصباحِ الباكرِ للقاءِ صديقتها؛ من أجلِ بعضِ الأعمال، لذا هي غيرُ موجودةٍ الآن..
لمَ لا أستغلُ هذه الفرصةَ للخروجِ والتنزهِ قليلًا في حديقةِ قصرِنا؟ تبدو فكرةً رائعة .”
فخرجتْ خلسةً من النافذة، بدونِ إصدارِ أي صوتٍ، تجنبًا لملاحظةِ أحدٍ ما …
أخذ شعرُها الكستنائيُّ الطويلُ، يطيرُ بفعلِ الرياح الصباحيةِ الناعمة، وتلألأت عُيونها الذهبيةُ تحتَ ضوءِ الشمس .
وكانت أوراقُ الأشجارِ تتلاطمُ مِنَ حولِها مصدرةً حفيفًا هادئًا، وصوتُ العصافيرِ التي تطيرُ من غصنٍ لآخر وتُغردُ بأعذبِ الألحان، حديقةٌ بهيةُ الطلةِ، واسعةٌ وجميلةٌ، مليئةٌ بالزهور الملونةِ، التي يُغطيها النّدى، بها أنواعٌ شتًا من الزرعِ تجعلُها تبدو كجنةٍ مُخَضَوضِرة، تُدخلُ الصفاءَ في أعماقِ النفس ..
أخذتِ “فيونا” تتنزهُ بينَ زوايا هذهِ الحديقةِ وتتمتمُ ببعضِ الألحانِ فينةً، وببعضِ كلماتِ الفرح فينةً أخرى.
كانتَ نادرًا ما تخرجُ من القصرِ؛ لأن والدِايها قد حظرا عليها الخروجَ من القصرِ، لذا قضتْ عُمرها كلهُ محبوسةً في القصر، معزولةً عن العالمِ الخارجي .
وكانتَ أحيانًا تستغلُ فرصةَ غيابِ والديها في الخروجِ والتنزهِ في حديقةِ قصرِهم. الواسعةِ، لكي تُجددَ جُزيئاتِ الهواءِ التي تدخلُ رئتيها…
“وااااه يا لجمالِ هذا الجو!، أنا سعيدةٌ حقًا لأنني استطعتُ الخروجَ أخيرًا واستنشاقَ بعضِ الهواءِ النقي، لقد تعبتُ من الجلوسِ في غُرفتي طوالَ الوقت آآآه .”
أخذت تستنشقُ عطرَ إحدى الأزهارِ التي كانتَ أمامها.
“واااه يا لها مِنَ رائحةٍ زكيةٍ .”
جلست قليلًا تحت إحدى أشجارِ الحديقةِ وأخذتَ تتأملُها وتفكرُ قليلًا..
“أتمنى لو أستطيعُ الخروجَ ورؤيةَ العالمِ الخارجِي، كيف يبدو الناسُ من حولي؟ وهل هم أناسٌ طيبُون؟ هل سيرحبونَ بي؟ هل سأغادرُ يومًا ما هذا القصرَ، أم أنني سأبقى هُنا حتى يومِ مماتي؟”
لقد استولت على وجِهها ملامحُ الحزنِ .
“لطالما كنتُ أتمنى الخروجَ والتعرفَ على المُجتمعِ من حَولي، لكنّ والداي كانا يرفُضانِ خروجي بحجةِ أن جميعَ مَن حولِنا لا يكنونَ لنا المودةَ ويمقتُوننا ويتمنونَ اختفائَنا مِن هذا العالم..
لذا هُما يخافانِ أن أخرجَ ويطولني مكروهٌ أو يفرغَ أحدُهم حقدهُ تجاهَ والداي علي، أيوجدُ مثلَ هؤلاءِ الناسِ في الخارج؟ ناسٌ لا يتمنونَ الخيرَ لِغيرهم، ناسٌ يحاولونَ بكلِ ما بِوسعِهم إيذاء غِيرِهم؟”
ولأنَ صغيرتنَا غريبةً عن العالمِ الخارجي، كانت لا تزال بريئةً،
لا تعرفُ أن من حولها -من يُدعون بالبشر- هم وحوشٌ يتسابقونَ إلى أكلِ بعضهِم الآخر، يتوقونَ إلى تشويهِ سمعةِ الآخرين ويتنافسونَ على المراكزِ الأولى للجشعِ والحقد .
….
فيونا بريستون، وهي ابنةُ الفيكونت إدغار بريستون، فتاةٌ جميلةٌ جدًا بشعر بنيٍ بلون الكستناء وعيونٍ ذهبيةٍ لامعة، كانت ملامحُها لطيفةً وناعمة، وكذلك أخلاقها، وكانت مواصفات النبالة تنطبق على كل شبرٍ منها.
فيونا فتاةٌ طيبةٌ وبريئة جدًا، ورغم ما تمرُّ به إلا أنها تُحافظ على الابتسامِ دائمًا وتُحاولُ أن لا تتأثرَ سلبًا بما يدورُ حولها مهما بلغتَ صعوبته.
وفي المقابل، الفيكونت إدغارَ بريستون المعروفُ بثرائهِ الفاحش وأموالهِ الكثيرة، يمتلك قَصرًا واسعًا شاهقًا، ويطلُ على مناظرٍ طبيعيةٍ خلابةٍ، مليئةٍ بالزهورِ والخضار، وكلُ هذا بسببِ أعمالهِ ومشاريعهِ التي لا تُعدُ ولا تُحصى. ولكن!…
لم تكُن سمعةُ الفيكونت طيبةً أبدًا؛ فلقد اشّتُهرَ بسوءِ تعاملهِ مع الآخرين، والتقليلِ من شأنِهم.
وأما الفيكونتيسة بريستون فقد كانتَ امرأةً بدينة، وقصيرةً ذاتَ ملامحٍ حادةٍ بشعرٍ أشعث أسودَ وعينانِ كحليتان .
ولم تكُن ذاتَ مظهرٍ حسن، وكذلك أخلاقُها، فلم يكُن لديها أسلوبُ حوارٍ أنيق، وكان الجميعُ يتجنبُ الحديثَ معها لتعاليها وتجاوزِها على الآخرين بكلماتِها اللاذعة، وفمِها الذي لم يكُن يخرجُ منه أي خيرٍ .
لقد كان لها ابنٌ وسيمٌ ولطيف؛ ولكنه قد تركَ والديه منذ الصغرِ وذهبَ ليعيش مع جدهِ بعيدًا عنهما، لذا كانَ هؤلاءِ الثلاثةُ فقط يعيشون في هذا القصِر الشاهِق معًا.
….
مع بدايةِ المساء عادتِ الكونتيسةُ وكان قد حلّ موعدُ الغداء لذا أمرتِ الخدمَ باستدعاءِ فيونا إلى غرفةِ الطعام، لأن لديها ما تناقشهُ معها.
“آنستي، إن السيدةَ تطلبُ منكِ الحضورَ إلى غرفةِ الطعام.”
“هاه؟! أنا؟! هذا ليس من عادتِها!”
“لقد قالت أن هُنالكِ أمرًا مهمًا تريدُ مناقشتهُ معكِ.”
“اه إذن هكذا الأمر، حسنًا أنا ذاهبةٌ، لذا يمكنكِ الانصرافُ الآن.”
لقد جهزت نفسَها وذهبت إلى غرفةِ الطعام، جلس الثلاثةُ حولَ المائدة، وسادَ الصمتُ لبضعِ دقائق حتى بدأتِ الفيكونتيسة بالتحدثِ كاسرةً حاجزَ الصمتِ الذي يحيطُ المكانَ .
“فيونا، سأحضرُ لكِ مدرِّب رقصٍ، ومعلمَ أدابٍ لأنكِ اقتربتِ من سنِّ الرشدِ، وعليكِ تعلمُ هذه الأمور.”
تمتمت فيونا بداخلها.
“وما الفائدةُ من كُلِ هذا إن لمَ أخرج مِن هذا المكان، إنها لمضيعةٌ وحسب!”
ثم أجابت.
“كما تشاءُ والدتي.”
“أجل، كوني مطيعةً فهذا أفضلُ لكِ… عليكِ التعلمُ جيدًا حتى نزوجكِ لشخصٍ جيد حينما يحينُ وقتُ ذلك..”
فجأةَ ضربَ الفيكونتُ المائدةَ بيده بقوةٍ وصرخَ في وجهها قائلًا .
” ألم أقُل لكِ أنه لم يحن أوانُ ذلكَ بعد؟”
“وما خطبك؟، أنا فقط أريُد أن أهيئها لذلك الوقت، فحينما يحلُ الوقتُ المناسب ستكونُ جاهزةً على الأقل!”
لقد سكت قليلًا ثم قال.
“فلورا، إن قمتِ بأي شيءٍ من خلفِ ظهري، وبدونِ إعلامي فسيكون عقابكِ عسيرًا.”
فأجابته بامتعاض “ما هذا الذي تقولهُ، متى قمتُ بفعلِ شيءٍ بدونِ إخباركَ عنه؟”
فقهقه مستهزئًا.
“أجل فالمشكلةُ ليست في إخباري، بل بتصرفاتكِ الطائشةِ التي تدمر ما أبنيهِ دائمًا… لا تفعلي أي شيء دون الرجوعِ إلي لأنهُ لا يأتي من خلفِ تصرفاتكِ الجنونيةِ إلا المصائب.”
تأففت و أجابته “حسنًا لقد فهمت.”
بعدها أدارتَ وجهها نحو فيونا ويبدُو أنها تنوي إفراغَ جامِ غضبِها عليها الآن.
فصرخت بحدة ” لماذا لا تزالينَ جالسةً إلى الآن أم أعجبكِ التنصتُ على محادثتنا؟ كفي عنِ الأكل، واغربي عن وجهي!”
فأجابت فيونا وبصوت منخفض.
“و.. ولكنني لم أُنهي طعامي بعد!”
” ما الذي قلتِه؟ ألا تشبعين؟! أنظري إلى نفسكِ كم أصبحتِ بدينةً من أكلِ الطعام هيا انهضي ولا تناقشيني يا قليلةَ الأدب و تتجرئين على الرد علي؟”
فأجابت فيونا وبصوت منخفض.
“و.. ولكنني لم أفعلَ أي شيء-…”
“وتستمرِين بالردِ يبدو أنكِ مشتاقةٌ إلى الضرب .”
تملكها الهلع واستغاثت بوالدها.
“أ أنا… والدي!”
ولكنه كالعادةِ ظل صامتًا يشاهدُ دونَ أن ينبسَ ببنتِ شفة . أحضرتِ الفيكونيسةُ العصا وبدأت تضربُ ابنتها بلا رحمةٍ ولا شفقة، كأنها وحشٌ ينفسُ عن نفسهِ بالتهامِ الآخرين .
فأتعب الفيكونت نفسه ليقول لزوجته
“لا تضرِبيها كثيرًا يا فلورا فنحنُ لا نريدُ أن نتركَ على جلدِها أيةَ ندوب.”
وبعد أن أكلتِ فيونا من الضرباتِ ما يردعُها عن الحركة، عادتْ إلى غُرفتِها وقدماها غير قادرَة على حملِها كما العادة، في الحقيقة تلكَ لم تكُن المرَة الأولى، التي تُضرَبُ أو تُعاقبُ فيها فيونا. يومُها لا يكادُ يخلو من هذهِ المواقف!
تمددت على الفراشِ والآلامُ تعتصرها، وهي تعضُ شفتها تحاولُ كتمَ دموعها من الألمِ وتقول مهونةً على نفسها:
“لا بأس.. لا بأس.. ليس عَلي أن أبكي، أنا بخير، إنهُما والداي في النهاية وبالتأكيد هُما يُحبانني بعد كلِ شيء، رُبما فقط يَتظاهرانِ بالقسوة.”
لكنها لم تَستطع منعَ دمُوعها من الانهمار، حاولتَ أن تبكِي في صمت؛ كي لا يسمعَ أحدٌ أنينها، فهي ستُعاقب لو بكت أو شكت .
وبعد أن كادت تهدأُ، صرخت بِها والِدتُها مناديةً: “فيونا، تعالي إلى هنا، لقد جاءَ مدربُ الرقص.”
لقد استاءتِ فيونا لأنَها لم تكُن بحالةٍ مزاجيةٍ تجعلُها مستعدةً للدراسةِ أو الرقص، لكن ما باليدِ حيلة، نهضت وغسلت وجهها وبدلت ثيابها، وعدلت مظهرها، ثم خرجت إلى غرفةِ استقبالِ الضيوف.
دخلتْ وألقتِ التحيةَ على المدربِ بكل تهذيب، ولقد كان المدربُ شابًا في مقتبلِ العمرَ، وكان يبدو منزعجًا قليلًا من المكانِ قبل أن تدخلَ فيونا. ولكن تعبيراته قد تغيرتْ فجأة، وقف وظل يحدقُ بها، وفمه مفتوحٌ، وعيناهُ متسعتانِ كأنه رأى شيئًا غريبًا.
وهذا جعل فيونا تشعُر بالغرابةِ وعدمِ الارتياحِ قليلًا، فقالت له:
“أرجُو المعذرةَ أيها المُدرِب؟”
فوجئَ وبدا أنه كان سارحًا لبرهة، فتوردا خداهُ واعتذر: “أوه، أنا آسف، لقد شردتُ للحظة، سررتُ بلقائكِ، أدعى آرثر كرُوس، وأنا هنا لمساعدةِ الآنسةْ في تعلمِ الرقص.”
“سررتُ بلقائكَ سيدِ كروس، أرجو أن تعتنيَ بي مستقبلًا.”
نظرت الفيكونتيسة إليها باشمئزاز، ثم قالت: “إذن سأغادر الآن، أرجو أن تعلِمها الرقصَ بشكلِ جيدٍ سيد كروس.”
“بالتأكيد يا سيدتي.”
ثم غادرت.
كان الجوُ موترًا قليلًا، وكانتَ فيونا تشعرُ بعدمِ الارتياح قليلًا، ربما لأنها المرةُ الأولى التي تقابلُ فيها أحدًا من الخارج، حاولت كسرَ الصمت قائلة: “إذن سيدِ كروس، هلا بدأنا الآن؟”
“نعم، بالتأكيد.”
وبدأ يُعلمُها الحركاتِ الأساسية، وكما هو مُتوقع مِن بطلتِنا، كانت سريعةَ البديهة، وتتعلمُ بسرعة، وقد أثنى على مهارتِها في الرقص.
“بالمناسبة يا آنسة، حينما طلبت مني الفيكونتيسة تعليمَ ابنتها الرقص، كنتُ منزعجًا وغيرَ مسرور، وأنا لا أكنُ المودةَ للفيكونتيسة، لأنها شخصٌ صعبُ المِراسِ قليلًا. عذرًا لو كنتُ وقحًا بقولي ذلك.. اعذري فظاظتي، لكن أعتقدُ أنه ليس لدي مشكلةٌ الآن، فأنتِ تبدين مختلفةً عن والدتكِ.”
“أممم، أشكركَ على الإطراء..”
لقد أغمضَ عينيه وبدأ يتحدثُ بنبرةٍ ودية ٍقليلًا:
“بصراحة كنتُ أتخيلُ أن ابنةَ الفيكونتيسة ستكونُ بشعةً وتعامِلني بازدراء، ولكن الآنسة فاقتْ كُل توقعاتي، فأنتِ غايةٌ في الجمال، ولا يمكنُ للكلماتِ أن تصف جمالكِ، حتى أنني شككتُ في هويتكِ حينما نظرتُ إليكِ لأولِ مرة، آه أعتذرُ لقد ثرثرتُ كثيرًا وتجاوزتُ حدي، كيفَ أجرؤ على التحدثِ عن والدتكِ بتلكَ الطريقة؟ أنا أعتذرُ، أرجوكِ اغفري لي وقاحتي.”
“حسنًا، لا بأس، وأشكركَ على لطفكَ .”
وظلت تتساءل في داخلها: “لماذا يحدقُ بي بتلكَ الطريقةِ المريبة؟ أشعر أن نظراتهِ تخترقني…
ثمَّ ما مناسبةُ كلِ ذلكَ الكلام؟”
“هذا كلُ شيء لهذا اليوم، اسمحي لي بالمغادرةِ الآن.”
“نعم، شكرًا جزيلًا لجهودك، أراكَ لاحقًا.”
ثم غادر.
“إذن، هل تعلمتِ جيدًا؟”
“نعم، يا والدتي.”
“ابذلي جهدكِ، فأنا سأعاقبكِ بشدة لو لم تبلُغي توقعاتي!”
“حاضر.”
عادت إلى غُرفتِها بحكمِ أنها محرومةٌ من الطعام، لذا أخذت تقرأ كتابًا ثم خلدت إلى النوم.
استمرتِ الحالُ على هذا المنوالِ لعدةِ أيام، وفي أحدِ الأيام، سمعتِ فيونا صرخةً من بعيد:
“فيونااااااا، تعالي إلى هنا، أيتُها الحقيرة.”
لقد سيطر القلق على بطلتنا:
“هاه، ماذا حدثَ يا ترى…؟”
يتبع..
تأليف: فاطمة البدوخي