ليديا : الغابة المنسية - 1
بعد أن غطت ليديا في نوم عميق، بدأت أحلامها تتداخل مع ذكريات مبهمة. رأت نفسها تركض بين الأشجار، تطارد ظلاً غامضاً. كانت الأرض تهتز تحت قدميها، والسماء ملبدة بالغيوم السوداء. فجأة، توقفت عن الركض عندما رأت ضوءًا خافتًا يتسرب من بين الأشجار، فاقتربت منه بخطوات مترددة.
استفاقت ليديا فجأة من حلمها، وتسلل شعور بالقلق إلى قلبها. نظرت حولها في الظلام الدامس، متذكرة ما حصل لها في اليوم السابق. كان الوقت منتصف الليل تقريبًا، وأصوات الحشرات الليلية تملأ الأجواء. شعرت بالعطش الشديد، فقامت من الفراش متوجهة إلى المطبخ الصغير في الكوخ. شربت بعض الماء وهي تتساءل عن معنى حلمها الغامض.
في صباح اليوم التالي، استيقظت ليديا على صوت زقزقة العصافير. شعرت بتحسن طفيف بعد ليلة من الراحة، لكنها كانت لا تزال تفتقر إلى الوضوح بشأن وضعها. قررت أن تسير إلى القرية كما اتفقت مع هيروشي، لكنها أرادت أن تتحدث معه أولاً وتسأله عما إذا كان يستطيع تدريبها كما خططت الليلة الماضية.
بعد أن جمعت أفكارها، فتحت ليديا باب الكوخ وتوجهت إلى الخارج، لتجد هيروشي جالسًا بجوار نار صغيرة يشعلها لتحضير فطوره. عندما رآها تقترب، ابتسم وقال: “صباح الخير، ليديا. كيف كانت ليلتك؟”
“كانت هادئة، شكرًا لسماحك لي بالمبيت هنا”، ردت ليديا بابتسامة مترددة.
“هذا أقل ما يمكنني فعله. هل قررتِ ما ستفعليه اليوم؟”
أخذت ليديا نفسًا عميقًا قبل أن تجيب: “في الواقع، كنت أفكر في طلب منك. قلت أمس أنك محارب، صحيح؟”
“نعم، هذا صحيح. لقد تدربت في فنون القتال منذ صغري”، أجاب هيروشي بنبرة هادئة.
“هل تستطيع تدريبي؟ أشعر أنني بحاجة إلى أن أكون أقوى، وخاصة في ظل ما يحدث معي الآن. لا أتذكر كيف وصلت إلى هنا، ولا أعرف كيف سأعود إلى حياتي السابقة، ولكنني أشعر أنني بحاجة إلى الدفاع عن نفسي.”
نظر هيروشي إليها بجدية وقال: “هذا طلب جاد، ليديا. التدريب ليس سهلاً، وسيتطلب منك الكثير من الجهد والصبر. هل أنتِ مستعدة لذلك؟”
“نعم، أنا مستعدة. أريد أن أكون قادرة على مواجهة ما قد يأتي.”
ابتسم هيروشي وقال: “حسنًا، سأساعدك. ولكن قبل أن نبدأ، يجب أن تتغذي جيدًا. سنذهب إلى القرية للحصول على بعض الإمدادات، وسأريك الطريق.”
بدأ الاثنان رحلتهما نحو القرية، وكانت الغابة حولهما لا تزال هادئة، كما لو كانت تراقبهما بصمت. بينما كانا يسيران، شعرت ليديا بأن هيروشي شخص يمكنها الوثوق به. كان هادئًا، ولكن كان لديه حضور قوي يوحي بالثقة والخبرة.
عند وصولهما إلى القرية، كانت الحركة فيها قليلة، إذ لم يكن الوقت قد تجاوز الصباح الباكر. مروا ببعض البيوت الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، ثم توقفوا عند متجر صغير يبيع كل ما يحتاجه القرويون من مواد غذائية وأدوات.
دخل هيروشي المتجر وبدأ يتحدث مع صاحب المتجر، وهو رجل مسن يعرفه جيدًا. بينما كانت ليديا تتجول في المكان، شعرت بشيء من الراحة عند رؤية الحياة اليومية العادية للناس. كان الجميع هنا يبدو بسيطًا ومتواضعًا، وكانت الحياة هادئة وخالية من التعقيدات.
بعد أن اشتروا ما يحتاجونه، جلسوا على مقاعد خشبية خارج المتجر، حيث قدم لهم صاحب المتجر بعض الشاي الأخضر. بينما كانوا يشربون الشاي، تحدث هيروشي إلى ليديا عن خططهم للأيام المقبلة.
“سنبدأ بالتدريب الأساسي غدًا. سيكون عليك أن تتعلمي السيطرة على جسدك وتقوية عضلاتك قبل أن ننتقل إلى المهارات القتالية. هذا سيتطلب منك الانضباط والتفاني.”
“أنا مستعدة لكل شيء”، أجابت ليديا بثقة.
ابتسم هيروشي وأكمل: “بعد ذلك، سنتعلم كيفية استخدام الأسلحة البسيطة، مثل السيوف والعصي. ستحتاجين إلى أن تكوني قادرة على الدفاع عن نفسك في أي موقف، سواء كنتِ مسلحة أم لا.”
شعرت ليديا بالحماس يتزايد بداخلها. كانت تعرف أن هذا التدريب سيكون صعبًا، لكنه كان ضروريًا. كانت تشعر أنها بدأت تجد طريقًا للخروج من الغموض الذي يحيط بها.
مرت الأيام سريعًا، وأصبحت ليديا أكثر قوة وثقة بفضل تدريب هيروشي. كانت تتدرب لساعات طويلة كل يوم، تتعلم كيفية التحمل والصمود أمام الصعاب. تدريجياً، بدأت ذكرياتها تعود ببطء، لكنها كانت متقطعة وغير واضحة.
في إحدى الليالي، بينما كانت تجلس بجوار النار مع هيروشي بعد يوم طويل من التدريب، سألته: “لماذا قررت مساعدتي؟”
نظر هيروشي إلى النار وقال: “لأنني أرى فيكِ القوة والشجاعة التي تحتاجينها لتجاوز هذه المحنة. كما أنني أعرف كيف يكون الشعور بالضياع.”
“هل سبق لك أن واجهت شيئًا مشابهًا؟” سألت ليديا بفضول.
“نعم، ولكن كان ذلك منذ وقت طويل. كنت شابًا عندما فقدت كل شيء. عائلتي، منزلي، وحتى هويتي. كانت تلك التجربة قاسية، لكنها جعلتني ما أنا عليه اليوم.”
شعرت ليديا بالتعاطف مع هيروشي. كانت تعرف الآن أن هناك قصة وراء هدوئه وثقته. كانت تشعر أنه يمكن أن يكون لها معلمًا، وربما حتى صديقًا.
في اليوم التالي، استمرت ليديا في تدريبها مع هيروشي، وكان يشعر بالتقدم الذي تحققه. كانت قوتها الجسدية والذهنية تتزايد، وكانت تتعلم كيفية مواجهة الخوف وعدم اليقين.
لكن الأمور لم تبقَ هادئة طويلاً. في أحد الأيام، بينما كانت ليديا تتدرب في الغابة، سمعت أصواتًا غريبة تأتي من جهة القرية. توقفت عن التدريب واستدارت لتستمع، لكن الأصوات كانت غامضة وغير واضحة. شعرت بشيء من القلق، فقررت العودة إلى الكوخ على الفور.
عندما وصلت إلى الكوخ، كان هيروشي ينتظرها بوجه جاد. “هناك شيء يحدث في القرية. يجب أن نتحقق من الأمر.”
ركض الاثنان نحو القرية، وعندما وصلوا، وجدوا أن القرية كانت في حالة من الفوضى. كان هناك رجال مسلحون يهاجمون القرويين، وكان الدمار في كل مكان. لم تفهم ليديا ما الذي يحدث، لكنها شعرت بالخوف والقلق على الناس.
هيروشي لم يتردد، إذ سحب سيفه وتوجه مباشرة نحو الرجال المسلحين، وهو يصرخ بأوامر للقرويين للدفاع عن أنفسهم. حاولت ليديا أن تظل هادئة، لكنها شعرت بالخوف يتزايد بداخلها. هل هي مستعدة لمواجهة هذا الخطر؟
أخذت ليديا نفسًا عميقًا وقررت أن تستخدم ما تعلمته. أخذت عصا خشبية كانت ملقاة على الأرض، وركضت نحو أحد المسلحين الذي كان يهاجم امرأة مسنة. بضربة واحدة، أسقطت العصا على ذراعه، فسقط سلاحه من يده. استغلت الفرصة ودفعته بعيدًا عنها، ثم ساعدت المرأة على الهرب.
بدأت المعركة تشتد، وكان القرويون يقاتلون بشجاعة ضد المهاجمين. كانت ليديا تشعر بالقوة تجري في عروقها، لكنها كانت تدرك أيضًا أن هذا ليس تدريبًا، بل هو قتال حقيقي.
بينما كانت تحارب بجانب هيروشي، بدأت تتذكر المزيد من ذكرياتها. تذكرت وجهًا غامضًا يلاحقها في الغابة، تذكرت صرخة مدوية، ثم شعرت بألم حاد في رأسها. تذكرت أن هناك شخصًا ما حاول الإمساك بها، لكنها هربت.
لكن الآن لم يكن الوقت مناسبًا لاستعادة الذكريات. كان عليها أن تركز على القتال. استطاع هيروشي أن يسيطر على الوضع، وبمساعدة القرويين، تمكنوا من صد المهاجمين. لكن الخسائر كانت فادحة، وكان هناك الكثير من المصابين.
كان التعب واضحًا على وجهيهما، لكن كان هناك أيضًا شعور بالرضا لأنهما استطاعا حماية القرية.
“لقد فعلتِ ما يجب أن تفعليه اليوم، ليديا. لقد أثبتتِ أنكِ قوية وشجاعة.”
بعد المعركة التي خاضتها ليديا بجانب هيروشي، بدأ الشعور بالإرهاق يتسلل إلى جسدها، لكنها كانت ممتنة لأنها استطاعت الدفاع عن القرويين ومساعدة هيروشي في صد الهجوم. وبينما كان الجميع منهمكين في تضميد جراحهم وإعادة ترتيب ما دمره المهاجمون، جلست ليديا على جذع شجرة قريب من النار، محاطة بصمت ليلي يخفي وراءه آثار القتال.
نظر إليها هيروشي وقال بنبرة هادئة: “لقد أظهرتِ شجاعة كبيرة اليوم، ليديا. أنا فخور بك.”
ابتسمت ليديا ابتسامة متعبة لكنها صادقة، وقالت: “لم أكن أعتقد أنني سأتمكن من مواجهة هذا النوع من الخطر. ولكنني كنت أشعر بأنني بحاجة إلى أن أكون قوية، ليس فقط من أجلي، بل من أجل الآخرين أيضًا.”
“هذه هي الروح الحقيقية للمحارب. القوة ليست في القتال فقط، بل في الدفاع عن من تحب وحماية الأبرياء.”
بينما كانا يتحدثان، بدأت ذكريات ليديا تتسلل ببطء إلى عقلها. تذكرت بشكل أوضح الرجل الذي كان يلاحقها في الغابة قبل أن تفقد وعيها وتجد نفسها في هذا المكان الغريب. تذكرت وجهه المشوه بالغضب، وكيف أنه كان يصرخ باسمها. حاولت ليديا أن تربط بين ما تذكرته وبين ما حدث لها، لكن الأمور لا تزال غامضة.
“هيروشي، هل يمكنني أن أسألك سؤالاً؟”
“بالطبع، تفضلي.”
“هل تعرف أي شيء عن شخص قد يكون مرتبطًا بما حدث لي؟ أتذكر الآن وجهًا لشخص ما كان يلاحقني قبل أن أفقد وعيي. هل تعتقد أن له علاقة بما يحدث هنا؟”
نظر هيروشي إلى ليديا بجدية وقال: “ليس لدي معلومات مؤكدة، ولكن من الممكن أن يكون هناك شخص أو مجموعة يسعون وراءك لأسباب لا نعرفها بعد. من الممكن أيضًا أن يكون هناك رابط بين المهاجمين اليوم وما تتذكرينه.”
شعرت ليديا بالخوف يتسرب إليها مرة أخرى، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها وقالت: “إذا كان هناك من يسعى ورائي، فأنا بحاجة لمعرفة السبب. ولا أستطيع الوقوف مكتوفة اليدين بانتظار أن تحدث الأمور.”
“أنت على حق، ليديا. سنحتاج إلى البحث عن إجابات. لكن يجب أن تكوني حذرة. العالم مليء بالتهديدات التي قد لا تتوقعينها.”
في تلك اللحظة، اقترب أحد القرويين من هيروشي وهمس في أذنه. عقد هيروشي حاجبيه ووقف بسرعة، متجهًا نحو قائد القرية الذي كان يراقب الموقف عن كثب.
“ماذا يحدث، هيروشي؟” سألت ليديا وهي تلحق به.
“لقد وصلتنا أخبار عن تحركات مشبوهة في الغابة. ربما يحاول المهاجمون إعادة تنظيم صفوفهم. يجب أن نكون مستعدين لأي هجوم آخر.”
شعرت ليديا بتيار من الحماسة يتدفق داخلها. “هل يمكنني مساعدتك؟”
تردد هيروشي للحظة، ثم قال: “نعم، لكن عليك أن تكوني حذرة. سيكون من الأفضل أن تراقبي الوضع من بعد وتبلغينا إذا لاحظتِ أي شيء غير طبيعي.”
أومأت ليديا بالموافقة، وبدأت تتحرك نحو الحافة الغربية للقرية، حيث بدأت تجمع بعض الأسلحة البسيطة التي يمكن أن تستخدمها للدفاع عن نفسها إذا لزم الأمر. كانت الغابة هادئة بشكل غير طبيعي، ما جعل ليديا تشعر بالقلق أكثر. لكنها كانت مصممة على مساعدة القرويين وهيروشي بأي وسيلة.
بينما كانت تراقب المنطقة المحيطة بالقرية، بدأت تشعر أن هناك شيئًا ما يتبعها. التفتت حولها ببطء، وعيناها تبحثان عن أي حركة غير طبيعية بين الأشجار. لم يكن هناك شيء واضح، ولكنها شعرت بوجود غامض يراقبها من بعيد.
“من هناك؟” قالت بصوت مرتفع، محاولةً إخفاء خوفها.
لم يكن هناك رد، لكن الرياح التي كانت تهب بهدوء حملت معها صوتًا ضعيفًا يكاد يكون همسًا. حاولت ليديا التركيز على الصوت، لكنه اختفى في لحظة، وكأن شيئًا ما كان يلعب بأعصابها.
قررت العودة إلى هيروشي وإبلاغه بما شعرت به. عندما وصلت إليه، كان يقف مع بعض القرويين وهم يناقشون خطط الدفاع.
“هيروشي، أعتقد أن هناك شيئًا أو شخصًا يراقبنا من الغابة. لم أتمكن من رؤية أي شيء، لكنني شعرت بوجود غريب.”
نظر هيروشي إليها بجدية وقال: “هذا مقلق. علينا أن نتخذ احتياطات إضافية. سنزيد من دوريات الحراسة حول القرية، وسنكون على استعداد لأي هجوم محتمل.”
كان التوتر يزداد في القرية، والجميع كانوا يشعرون بأن هناك خطرًا أكبر يقترب. لكن ليديا كانت مصممة على البقاء قوية والاستمرار في التدريب حتى تتمكن من مواجهة أي تحدٍ قد يأتي.
مرت الأيام التالية ببطء، وكانت ليديا تقضي وقتها بين التدريب والمراقبة. شعرت بارتباط قوي بين ما يحدث وبين ماضيها الغامض، وكانت تعرف أن الإجابات قد تكون قريبة. لكن كان عليها أن تتحلى بالصبر والقوة لتكتشف الحقيقة.
في إحدى الليالي، بينما كانت تتأمل النجوم فوق الغابة، شعرت بشيء ما يسحبها نحو ذكرياتها. جلست على الأرض، مغلقة عينيها، وحاولت التركيز على تلك الوجوه والأصوات التي تلاحقها في أحلامها.
وفجأة، تذكرت شيئًا مهمًا. تذكرت أنها كانت تحمل شيئًا مهمًا، شيئًا كان يريده الشخص الذي كان يطاردها. فتحت عينيها باندهاش، وبدأت تلمس جيوبها وحقيبتها الصغيرة التي كانت معها منذ أن استيقظت في الغابة لأول مرة.
وبالفعل، وجدت شيئًا كان مدفونًا بعمق في إحدى الجيوب. كان قطعة من الورق القديمة، مطوية بعناية. فتحتها بحذر، واكتشفت أنها تحتوي على رموز غريبة ورسالة مكتوبة بلغة لم تكن تفهمها.
“ما هذا؟” همست لنفسها.
شعرت بأن هذا الاكتشاف قد يكون المفتاح لفهم ما يحدث لها. كانت متأكدة أن هذه الورقة تحمل إجابات عن ماضيها وربما عن الأشخاص الذين يطاردونها.
في صباح اليوم التالي، عرضت الورقة على هيروشي. نظر إليها بتمعن وقال: “هذه رموز قديمة، إنها لغة لا يعرفها إلا القليلون. قد تكون هذه الورقة دليلًا على شيء أكبر مما نتصور.”
“هل تعرف أحدًا يمكنه ترجمة هذا النص؟” سألت ليديا بقلق.
“نعم، أعرف شخصًا في القرية المجاورة يُدعى السيد وينغ.
إنه عالم متخصص في اللغات القديمة والرموز الغامضة. يجب أن نذهب إليه في أقرب وقت ممكن.”
بدأت ليديا تشعر بأن الأمور قد بدأت تأخذ منحى جديدًا. شعرت بأنها قد تكون قريبة من كشف السر الذي يحيط بها. كانت هذه الورقة القديمة هي المفتاح لفهم ما حدث لها ولماذا.