لأجلِ جولييت الجميلة - 9
كما هوَ الحالُ مع معظمِ الأطفالِ،
كانت جولييتْ تحلمُ بشريكِ حياتِها المُستقبليِّ.
كانتْ تتخيَّلُ رجلًا وسيمًا، طيبًا، ومؤدبًا ينتظرُها في المُستقبلِ.
بينما كان ديريان يُعِدُّ السريرَ لأُختِه الصغيرةِ
التي كانت عيونُها تلمعُ بالتوقُّعاتِ، قال لها.
“من الأفضلِ ألّا تتزوّجي إن كان الرجلُ لا يستحقُّكِ.”
ردَّت جولييت بنبرةٍ مرحةٍ: “يا إلهي أخي، أنتَ سلبيٌّ جدًّا.”
كيفَ يمكنه أن يعتبرَ الرجلَ الذي لم يظهرْ بعدُ لا يستحقُّني؟
تنفَّستْ جولييت بعمقٍ وأطلقتْ تنهيدةً.
لكن ديريان هزَّ رأسه،
“ستعرفينَ شعوري عندما تصبحينَ أمًّا.”
“حسنًا، أنا أيضًا لا أريدُ رجلًا مثل أورغاسَ.”
أورغاسُ كان كُفُؤًا، لكنه كان متعجرفًا للغايةِ.
على الرغمِ من أن كلماتِها كانتْ قاسيةً على رجلٍ تخلّى عن حياتِه من أجلِ الحبِّ،
إلا أن هناك سببًا جعل يلين لا ترغبُ فيه.
كان من الأفضلِ لو تركَها وشأنَها منذُ البدايةِ،
وربما لم يكن لينتهيَ به الأمرُ بتناولِ السُّمِّ.
تثاءبتْ جولييت بشكلٍ واسعٍ،
كان الوقت قد تأخرَ وكانت تشعرُ بنعاسٍ شديدٍ.
قالتْ بصوتٍ مغطّىً بالنعاسِ،
“سأتزوّجُ رجلًا يُطيعني تمامًا في المستقبلِ.”
ردَّ ديريان بابتسامٍ: “أميرتُنا تحلمُ أحلامًا كبيرةً. هؤلاءِ الرجالُ نادرونَ جدًّا.”
“فالرجالُ عادةً يرفعونَ أصواتَهم دون أن يكونَ لديهم شيءٌ ذكيٌّ يقولونه.”
على الرغمِ من أن كلماتِه كانتْ لاذعةً،
لم ترمُشْ جولييتْ بعينيها. كانتْ تعلمُ أن كلَّ هذا كان بهدفِ تخويفِها فقط.
قالتْ بتحدٍّ: “أنا أميرةٌ. من يجرؤُ على عدم طاعتي؟”
في زمنِ أورغاسَ، كان عصرُ الأبطالِ،
وربما كان يمكن لرجلٍ أن يتجاهلَ رغبةَ أميرةٍ، لكن الآن الأمورُ مختلفةٌ.
حتى الفرسانُ الذين كانوا أقوى منها جسديًّا كانوا يلتزمونَ بكلماتِها كقانونٍ.
لم يكن بإمكانِ أحدٍ أن يفرضَ عليها شيئًا لا تُريدُه.
أومأ ديريان برأسِه موافقًا.
“هذا صحيحٌ.”
وأضافتْ جولييت: “بالإضافةِ إلى ذلك، أخي دائمًا يُطيعُ كلامَ زوجتِه.”
“انتظري، لكن إياسونيا تكونُ مُخيفةً عندما تغضبُ!”
“ألم تَرَيها وهي تُطلِقُ السِّهامَ؟ لم أرَ في حياتي رامياً ماهرًا مثلها.”
قال ذلك بلهجةٍ مُبالغٍ فيها وهو يهزُّ كتفيه،
لكن ديريان كان يعتزُّ بزوجتِه التي كانتْ معه منذ الطفولةِ.
كانتْ علاقتُهم أشبهَ بعلاقةِ أصدقاءَ،
يخفونَ عيوبَ بعضِهم البعضِ ويُسنِدون بعضَهم البعض.
كانتْ جولييت تحبُّ زوجةَ أخيها اللطيفةَ،
فقد كانتْ إياسونيا تمنعُ ديريان من إحضارِ الأطعمةِ الغريبةِ لها.
بالإضافةِ إلى ذلك، كلما كانتْ جولييت تواجهُ مشكلةً،
كانتْ تجدُ مهربًا بجوارِ إياسونيا، وعادةً ما كان هذا يُنقذُها من الملامةِ.
في كلِّ تسعِ مراتٍ من أصلِ عشرةٍ، كانتْ تتجنَّبُ التوبيخَ،
وفي المرةِ الوحيدةِ التي لم تُفلِحْ فيها، كانتْ تتلقّى مجرّدَ توبيخٍ بسيطٍ.
ومع ذلك، الأهمُّ من كلِّ ذلك هو أن ديريان كان يُطيعُ كلامَ إياسونيا بدقّةٍ.
أغمضتْ جولييت عينيها بارتياحٍ.
“إذاً، عليّ أن أغضبَ بشدّةٍ مثلها.”
“إذاً، عليكِ أن تتناولي طعامَكِ بكثرةٍ لتكوني قويةً بما يكفي لذلك.”
“آه، ليس المزيدَ من هذه النصائحِ.”
تجمَّهتْ جولييت وغمرتْ أذنيها بيديها واستدارتْ للنومِ.
قالتْ بتذمُّرٍ: “أريدُ أن أنامَ الآن.”
“من علّمكِ هذا؟” سألها بابتسامةٍ.
“لقد نمتُ بالفعلَ، وإذا تكلّمتَ معي، سأستيقظُ!”
قال ديريان بصوتٍ منخفضٍ،
“يا إلَهي أميرتُنا العزيزةُ قد غفتْ. يجبُ أن نكونَ حذرينَ.”
“بالطبع، عليكَ أن تكونَ حذرًا جدًّا!”
علّق ديريان بضحكةٍ صغيرةٍ: “لا أحد يتفوّقُ عليكِ في شيءٍ، أليسَ كذلك؟”
على الرغمِ من تذمُّره،
لم ينسَ تقبيلَ جبينِها قبلَ أن يُغادِرَ.
شعرتْ جولييت بدفءِ شعرِه الناعمِ ومحبّتِه الصادقةِ رغمَ قِصَرها.
“نامي جيدًا يا أختي العزيزةُ. وإن رأيتِ كابوسًا، تعالي إليَّ بسرعةٍ.”
كان صوتُه مليئًا بالحنانِ.
كانتْ جولييت تتظاهرُ بالنومِ، فلم تجبْه،
لكن لم تستطع إخفاءَ الابتسامةِ التي أرتسمتْ على شفتيها.
بعد أن مرّرَ ديريان يده على جبينِها بلطفٍ مرّةً أخيرةً، غادرَ الغرفةَ.
قبلَ أن يبتعدَ كثيرًا، همستْ جولييت،
“تُصبِحُ على خيرٍ.”
رغمَ أن صوتَها كان منخفضًا جدًّا، إلا أن ديريان بالتأكيد سمعه.
* * *
يا لها من أوقاتٍ جميلةٍ.
كلما فكَّرتْ جولييت في تلك اللحظاتِ، شعرتْ بذوبانِ قلبِها.
ربما لأنَّ تلك السعادةَ لن تعودَ أبدًا.
بعد بضعِ سنواتٍ من هذا،
تزوَّجتْ جولييت من رجلٍ كان مُطيعًا للغايةِ،
وتعلَّمت كيفَ تغضبُ بشدَّةٍ.
لكن إذا سألتَها إن كانتْ أصبحتْ أكثرَ سعادةً مما كانت عليهِ قبلَ أن تعرفهُ،
فلن تستطيعَ الإجابةَ بنعم.
استدارتْ جولييت على جانبِها بحزنٍ.
لاحظتِ الخادمةُ التي كانتْ بجوارِها و بدا عليها القلق،
“هل أفتحُ كتابًا آخرَ؟”
“لا، توقَّفي عن القراءةِ.
ربما لم أكن قادرةً على التركيزِ اليوم.”
جولييت كانتْ تستخدمُ هذا العذرَ مرارًا وتكرارًا في الآونةِ الأخيرةِ،
لكن الجميعَ يعلمُ أن السببَ الحقيقيَّ يكمنُ في مكانٍ آخرَ.
لكن بغضِّ النظرِ عمَّا تقولُه، لم يكن هناك من يعارضُها.
وهذا جعلَ جولييت تشعرُ بحزنٍ أكبرَ.
كان الأمرُ غريبًا، فهي التي كانت تعتزُّ بكونِ كلِّ شيءٍ يسيرُ وفقَ إرادتها،
لكنَّ الآن أصبحت هناك أمورٌ كثيرةٌ لا يمكنُ تفسيرُها.
في تلك اللحظةِ، سمعوا صوتَ حارسِ البابِ.
“يا صاحبةَ السموِّ. هناك ضيفٌ جاءَ لزيارتِكِ.”
بما أنَّ الغرفةَ كانتْ هادئةً في ذلك الوقتِ،
فقد كان الصوتُ أكثرَ وضوحًا من المعتادِ.
بقيتْ جولييت صامتةً لبعضِ الوقتِ. وكذلك فعلتِ الخادماتُ اللواتي كُنَّ حولَها.
كان هناك ضيفٌ واحدٌ فقط يمكنُ أن يأتيَ في هذا الوقتِ.
وكلُّهم يتذكرونَ كيف كانت آخرُ مرَّةٍ التقيا.
الرجلُ الذي طلبَ منها أن تمدَّ له يدَها، لكنها استهزأتْ بهِ،
وهاجمته بكلماتٍ لاذعةٍ.
الخادماتُ اللواتي كُنَّ هناكَ في تلك اللحظةِ رأينَ كلَّ شيءٍ.
بسببِ أستحضارِ تلكَ الذكرياتِ التي كانتْ تحاولُ نسيانَها،
لم تلاحظْ جولييت أنَّ الحارسَ لم يستخدم العبارةَ المعتادةَ هذه المرةَ.
فحراسُ غرفتها كانوا أتباعَ ذلك الرجلِ،
وكانوا دائمًا يُخاطبونَ سيِّدهم بنفسِ طريقةِ مخاطبتها.
في تلكَ اللحظةِ، كانت جولييت تعتقدُ أنَّ الرجلَ قد عادَ إليها مرةً أخرى.
كما كان يفعلُ من قبلُ، جاء هذهِ المرةَ أيضًا ليطرقَ بابَها باستمرارٍ.
لذلك كانتْ مترددةً في السماحِ لهُ بالدخولِ.
رغمَ أنَّها لا تريدُ الاعترافَ بذلك،
لكنَّها تأثَّرت بمغادرتِه المفاجئةِ في المرةِ السابقةِ،
مما جعلها تترددُ في اتخاذِ قرارِها.
لكن طلبَ الرحيلِ منهُ لم يكن خيارًا ترغبُ فيهِ أيضًا.
كان بإمكانِها أن تطردَهُ إن أرادتْ مثلَ السابقِ،
لكنَّها فضَّلت إلقاءَ اللومِ على شخصيَّتِها هذهِ.
كان من الأسهلِ عليها أن تظنَّ أنَّ هذا مجرَّدُ تغيُّرٍ مزاجيٍّ عابرٍ.
بعدَ بعضِ التردُّدِ، أعطتْ جولييت تعليماتِها للخادمةِ.
“دعِيهِ يدخل.”
* * *
عندما دخلَ الشخصُ إلى الغرفةِ، كانت جولييت لا تزالُ مستلقيةً على جانبِها.
لذلك لم تلاحظْ أنَّ الضيفَ كان يرتدي رداءً يُخفي وجهَه،
ولم تُدرِك أنه لم يكنِ الشخصَ الذي كانت تتوقَّعُه.
لكن على عكسِ سيدتِهم غيرِ المُباليةِ،
كانت الخادماتُ اللواتي كُنَّ يُراقبن ليرينَ من سيدخلُ،
يتوخَّينَ الحذرَ من هذا الشخصِ الغريبِ.
“مَن أنتَ؟ لا يمكنكَ المرورُ أكثرَ دونَ الكشفِ عن هويتِكَ.”
قبلَ أن تتمكنَ جولييت من التحدُّثِ بعدَ أن استدارتْ في دهشةٍ،
أجاب الشخصُ المقابلُ.
“حقًا؟”
اتسعتْ عينا جولييت فورَ سماعِها صوتَه.
كانت اللغةُ التي استخدمَها الرجلُ الغامضُ هي لغتَها الأمَّ،
لغةَ القصرِ الملكيِّ في روزينتا.
لم يكن هناكَ دهشةٌ في ذلك،
فقد كانتْ جميعُ الخادماتِ والفُرسانِ الذين أحضرتْهم يتحدَّثونَ لغةَ القصرِ.
كان ذلك طبيعيًا، إذ كانوا جميعًا من القصرِ الملكيِّ.
لكن ما أثارَ دهشتَها حقًا هو الصوتُ الذي نطقَ بتلكَ اللغةِ المألوفةِ.
لكنها فكَّرت وهي تحاولُ تهدئةَ نفسها،
‘هذا مستحيل. أخي بعيدٌ جدًا. كم من الوقت سيستغرقُ للوصولِ من هناكَ إلى هنا؟’
بالإضافةِ إلى ذلك، أخي هو وليُّ العهدِ.
لا يمكنُ لوليِّ العهدِ التحركُ بشكلٍ عشوائيٍّ.
لابد أنني سمعتُ شيئًا من نسجِ خيالِي.
بسببِ المرضِ الطويلِ والرغبةِ العميقةِ، ربما بدأتُ أتخيلُ أشياءً.
ومعَ ذلك، لم تستطعْ جولييت أن تُبعِدَ عينيها عن الشخصِ المقابلِ
الذي لم تكنْ ترى حتى وجهَه.
سألتْ جولييت بصوتٍ خافتٍ وهي تنهضُ من سريرِها بمساعدةِ الخادمةِ.
“أخي؟”
بدلاً من الإجابةِ، أزالَ الشخصُ الغطاءَ الذي كان يرتديهِ.
عندما تساقطَ شعرُه الأسودُ المألوفُ وظهرَ وجهُه المألوفُ،
كادتْ جولييت تصرخُ.
“أختي….”
كانتْ تلكَ الكلماتُ بمثابةِ الختمِ الذي أقرَّ بالحقيقةِ.
ركعتِ الخادماتُ القادماتُ من روزينتا على الفورِ.
“نحن نحيِّي صاحبَ السموِّ وليَّ العهدِ.”
هذا أمرٌ لا يُصدَّقُ.
‘هذ-هذا مستحيل. كيف يكونُ أخي هنا؟ كان يجبُ أن يكونَ في روزينتا…’
تساءلتْ جولييت حينها عمَّا إذا كانت قد فقدتْ عقلَها أخيرًا.
كانت جولييت تعلمُ أنها قد أصبحتْ أكثرَ انعزالًا في الآونةِ الأخيرةِ.
لكنها لم تعتقدْ أنها ستفقدُ عقلَها،
لكنها الآنَ أدركتْ أن هذا التفكيرَ كان خاطئًا.
لأنَّ الشخصَ الذي يجبُ أن يكونَ في وطنِها البعيدِ ظهرَ فجأةً أمامَها،
لذا تأكَّدتْ أنها أصبحتْ مجنونةً أخيرًا.
اقتربَ منها ديريان بينما كانتْ في حالةٍ من الحيرةِ.
رأتْ جولييت الحياةَ في هيئةِ أخيها الذي اعتادَ الجلوسَ على حافةِ سريرِها.
كانت ابتسامتُه تلمعُ تحتَ ضوءِ المصباحِ،
وكانتْ عيناه الخضراوان المألوفتان تدمعانِ قليلاً.
تمامًا كما لو كانَ شخصًا حيًّا.
“مرحبًا، يا أختي الصغرى الثمينة.”
انحنى ديريان، الذي كانَ ينظرُ إليها بعينينِ ممتلئتَينِ بالدموعِ.
لمستْ شفتاهُ جبينَها بلطفٍ، وشعرتْ بعطرٍ مألوفٍ يلامسُ أنفَها.
رائحةُ الخشبِ ممزوجةٌ برائحةِ المطرِ والرياحِ.
تلكَ الرائحةُ التي ظنتْ أنها لن تشمَّها مرةً أخرى حتى تموتَ.
امتلأتْ عيناها بالدموعِ على الفورِ.
ورمشتْ جولييت بعينيها في محاولةٍ لتوضيحِ الرؤيةِ المتشوشةِ.