لأجلِ جولييت الجميلة - 7
“كان يجبُ أن يَحدُثَ هذا مُنذُ زَمنٍ.”
بعدَ أن قالت ذلك، توقفت جولييت قليلاً.
لقد خرجت الكلماتُ من فَمِها، لكنها لم تَستطع فَهمَ ما تَعنيه.
لكن قبلَ أن تَتمكّنَ من التفكير في حديثها مع نفسها،
تقدّمَ الشخصُ الآخَرُ نحوها، فعادت لِتشُدَّ على مَلامِحِها.
كانت تِلكَ النّظرة التي تُشبه نَظرةَ الشَّخصيّات في اللوحاتِ الفنية من أبرزِ مُمَيّزاتِها.
“هل ناديتِني؟”
كانت نَبْرَةُ صوتهِ رَسميّةً كما لو أنّهُ يُخاطِبُ شَخصاً أعلى منها مَقاماً.
شَعَرَت جولييت بالإحساسِ بالذّنبِ الكامِنِ تَحتَ تِلكَ النَّبرَة.
كانت تتوقّعُ ذلك بالطبع، إذ إنّها هي التي أوصَلَت الأمور إلى هذا الحدّ.
ومعَ ذلك، شَعَرَت بِضيقٍ غريبٍ في صَدرِها.
رُبَّما كان السَّبب هو أنّها رأت ذلِكَ الوجه عن قُرب.
كانت تُحدِّقُ في الوَجهِ الذي ظلَّ كما هو في ذاكرتها، وفكّرت.
‘لَم نَكن قَريبين هكذا إلّا في ذلك الوقت القديم، لذا وَصلَت الأمور إلى هذا الحدّ…’
بالطبع، لم تكن تَنوي إثباتَ صِحَّةِ أو خَطأ افتراضاتها.
قامت جولييت بطرد جميعِ الخادِماتِ اللواتي كُنَّ يَخدِمنَها بِجانِبِها.
“لديَّ حديثٌ خاصٌّ، لذا أَترُكنَ الغرفة.”
كانت الخادِماتُ المُعتاداتُ على طِباعِها المُستعجِلة يَتركنَ المكانَ بسرعة.
وعندما بقيت هي والرجلُ وَحدَهما في الغرفة،
نظرت جولييت إلى الشّخصِ الذي كان واقفاً بجانب السَّرير.
“لديَّ طَلَبٌ واحِد.”
كان ذلكَ جديدًا لكُلٍّ منهما. لم يكن هناك أيُّ سوءِ نيّة.
ولكن لم يَجرُؤ أحدٌ منهما على ذِكرِ ذلك.
رفعت جولييت ذقنَها ونظرت إلى الرجل، فأجاب بهدوء.
“تفضّلي بالكلام.”
كانَ صوتُهُ مثاليّاً في النَّغمة، ولكن كانَ هناك ارتِجافٌ طفيفٌ فيه.
لاحظت جولييت ذلك، لكنّه لم يُغيِّر من الأمر شيئاً.
لم يكن من الممكنِ أن تُغيّر مجرّدُ نَبرةِ صوتٍ العَلاقة بينهما،
حيثُ مَرَّت بينهما الكثيرُ من الأُمور.
بدلاً من التركيز على مثلِ هذه التفاصيلِ الصغيرة،
طرحت عليهِ سؤالاً كانَ يَدور في ذِهنِها منذُ زمن.
“عندما أموت، أرجو أن تُرسِلَ جُثّتي إلى روزينتا.”
تساءلت جولييت عن التَّعبير الذي ارتَسَمَ على وجهِ الرَّجل عند سماعِه لهذا الطَّلب.
مَهما كان، فقد كان بالتأكيد تَعبيرًا يَستحقُّ المُشاهَدة،
لكن لسوءِ الحظِّ، لم تكن جولييت تَنظرُ إليه في تلك اللحظة.
كانت تَنظرُ إلى لَوحةٍ مُعلَّقةٍ على الجدار.
لَوحةٌ استُخدِمَت فيها كميّةٌ كبيرةٌ من الأصباغِ الزرقاءِ الثمينة.
كانت صورةً لمَنظَرٍ لم تَرَهُ من قبلُ في حياتِها، ولن تراه أبدًا في المستقبل.
الذَّهبُ اللامعُ يَنعكِسُ على اللونِ الأزرقِ،
وتلك الأماكن التي تلامسها الشمسُ تتحوَّلُ إلى اللون الأحمر.
كان المشهدُ مُبالَغاً فيه بشكلٍ واضح.
ومع ذلك، لم تَستَطِع مَنعَ نفسِها من السؤال.
“هل سبقَ لكَ أن رأيتَ البحرَ؟”
قبلَ أن تَسوءَ الأمور بينهما، كانت قد سألت الرجلَ عن البحر.
كان ذلك بسبب فُضولها بشأن شيءٍ لم تَرَهُ قط.
لكن قبل أن تحصلَ على إجابته،
علمت بحقيقةٍ أكبر، ومنذ ذلك الحين، لم يَعد يَهمّها أمرُ البحر.
كان ذلك سؤالها الآن مجرَّد نزوة،
لكن يبدو أنَّ السؤالَ أعاد إلى ذهنهِ ذِكرياتِ الماضي.
شَعَرَت جولييت بأن مَلامِحَ وجهِه أصبحت أكثرَ حُزناً.
على أيِّ حالٍ، أجابَ الرجلُ على سؤالها.
“نعم….”
“هل هو حقًا كما يظهرُ في تلكَ اللوحةِ؟ هل كُلُّ شيءٍ أزرقٌ ويضيء هكذا؟”
توقَّفَ الرجلُ عن الكلامِ للحظة.
كانت جولييت تنتظر منهُ أن يقولَ إنَّ اللوحةَ مُبالَغٌ فيها.
ولكن بعد لحظةٍ من الصَّمت، وافقَ على كلامِها.
“هذا صحيح.”
***
في ذلكَ اليومِ، طرحَ عليها سؤالًا لم يطرحهُ منذُ وقتٍ طويلٍ.
“هل تُريدينَ شيئًا؟”
تذكَّرتْ جولييت كيفَ كانتْ تغضبُ في الماضي كلَّما سألَها هذا السؤالَ،
لكنَّها الآنَ لم تعدْ تمتلكُ الطاقةَ لذلكَ.
نظرتْ إلى عينيهِ الزرقاوينِ المُثبَّتتينِ عليها.
“أُريدُ رؤيةَ أخي.”
كانَ ذلكَ رغبةً خالصةً، دونَ أيِّ لومٍ أو توبيخٍ.
كانتْ حقًّا تفتقدُ ديريان. كانتْ تفتقدُ والدَها أيضًا،
لكنَّ أخاها الأكبرَ كانَ هو الذي اعتنى بها كثيرًا.
لو تمكنتْ من أنْ تحتمي في حضنهِ مرَّةً أخرى، لكانتْ قد تحققتْ أمنيتها.
وإنْ لم يكنْ ذلكَ ممكنًا، فكانتْ ترغبُ في الحديثِ معهُ عن أيِّ شيءٍ.
‘أخي، قرأتُ ذاتَ مرةٍ في كتابٍ أنَّ هناكَ نوعًا منَ الأشجارِ لا يُزهِرُ إلَّا مرَّةً واحدةً في حياتهِ. وعندما يُزهِرُ، يموتُ بعدَ انتظارِ عشراتِ السنينَ ليُزهِرَ في نهايةِ حياتِهِ.
اللوحةُ المُعلقةُ في غرفةِ نومي تُصوِّرُ البحرَ.
لو كنتُ أعلمُ أنَّ الأمورَ ستنتهي بهذا الشكلِ،
لكُنَّا ذهبنا لرؤيةِ البحرِ في ذلكَ الوقتِ. من كانَ يعلمُ أنني لنْ أراهُ أبدًا؟’
لكنَّ ديريان لا يستطيعُ القدومَ إلى هنا،
وهي لا تستطيعُ الذهابَ إلى روزينتا.
حتى جولييت، التي لم تكنْ تعرفُ الكثيرَ عن العالمِ،
كانتْ تعرفُ ذلكَ، لكنَّ الرجلَ وافقَ ببساطةٍ.
“حسنًا، هل هناكَ شيءٌ آخر؟”
كانتْ جولييت تتساءلُ كيفَ يمكنهُ أنْ يتصرَّفَ بهذهِ الثقةِ،
لكنَّها لمْ تسألهُ عن سببِ كذبِهِ.
“حديقتي.”
كانَ هناكَ حديقةٌ في القصرِ، وأرادتْ أنْ تتأكدَ من أنَّها لا تزالُ كما هي.
أخبرها ديريان في رسائلِهِ أنَّ كلَّ شيءٍ لم يتغيرْ،
لكنَّها أرادتْ أنْ ترى بنفسِها أنَّ الأشياءَ لم تتغيرْ.
وافقَ الرجلُ على طلبِها.
“هل هناكَ شيءٌ آخر؟”
ترددتْ جولييت لبعضِ الوقتِ.
لمْ تعدْ تعرفُ ماذا تريدُ بعدَ أنْ دفنتْ كلَّ أمنياتِها.
وأخيرًا، عندما استرجعتْ ذاكرتَها، قالتْ:
“أريدُ مشاهدةَ المهرجانِ.”
كانَ يُقامُ مهرجانٌ كبيرٌ في العاصمةِ روزينتا مرةً كلَّ عامٍ.
كان يمكنها رؤيتُهُ حتى من داخلِ القصرِ، وظلَّتْ ذكراهُ محفورةً في ذهنِها.
الزهورُ التي كانتْ تتناثرُ في الهواءِ، والأعلامُ المُلونةُ، والهتافاتُ الصاخبةُ،
والأغاني التي كانَ الجميعُ يغنيها معًا.
الناسُ الذينَ يرتدونَ الأحذيةَ والملابسَ الملونةَ.
كانَ أخوها يحملُها على ظهرِهِ ليأخذها إلى البرجِ في وقتِ المهرجانِ ليتيحَ لها رؤيةَ المشهدِ من أعلى البرجِ في القصرِ.
بسببِ حالتها الصحية، لم تكنْ تستطيعُ الذهابَ إلى الأماكنِ المزدحمةِ،
وكانَ يشرحُ لها الأشياءَ التي لا تستطيعُ رؤيتَها بعينِها.
كانتْ القصصُ عن الفواكهِ المشويةِ بعصيرِ قصبِ السكرِ واللحومِ على الأسياخِ،
والموسيقى الصاخبةِ من بينِ قصصِها المُفضلةِ.
وافقَ الرجلُ على طلبِها.
“حسنًا. هل هناكَ شيءٌ آخر؟”
تساءلتْ جولييت حتى متى سيظلُّ يتظاهرُ بهذه الثقةِ،
لكنَّها لمْ تكنْ لديها أيُّ أمنياتٍ أخرى.
لذا، هزتْ رأسَها بالنفي.
“ليس لديّ. هذا يكفي.”
أومأَ الرجلُ برأسهِ لذلكَ الكلامِ.
“حسنًا.”
* * *
لم يتغيَّر شيءٌ في العلاقةِ بينهما حتى بَعدَ ذلك اليومِ.
الرجلُ الذي كان يتحدَّث كما لو أنَّه سيحقِّق لها كلَّ شيءٍ،
عادَ ليختبئ تحت الظِّلال،
والمرأةُ التي كانت تتظاهرُ بأنَّها لا تكرههُ مطلقًا، أغلقت فمها.
و أنتهت المحادثة بينهما بطريقةٍ لا تُصدَّق.
ربَّما كان هذا أفضل.
عندما كانت تأتيها الليالي التي لا تستطيع فيها النوم، كانت جولييت تردِّد لنفسها:
“من الأفضل ألَّا يتغيَّر شيءٌ.”
فهي على أيِّة حال ستموت، والرجل سيعيشُ وحدهُ بعد ذلك.
رغم معرفتها أنَّ البشر لا يمكنهم فعل ذلك،
إلَّا أنَّ جولييت كانت تفكر أحيانًا أنَّ هذا الرجل قد يعيش إلى الأبد.
كان الرجل يبدو كبيرًا، قويًّا، وصلبًا.
وما كان يصيبها بالألم هو أنَّها كانت تحملُ مشاعراً تجاهَ مثل هذا الشخصِ.
لم تكن جولييت ترغبُ في أيِّ تعلُّق.
فلم تكن بحاجةٍ إلى التَّشبُّث بشيءٍ إضافي،
فهي بالفعل لديها ما يكفي مما يجب عليها التَّخلِّي عنه.
لم تكن ترغب في إضافة شعورٍ آخر بالفقدان.
من المرجَّح أنَّ الرجلَ كان يشاركها نفس الأفكار.
من الواضح من تصرُّفاته أنَّه نسيَ كلَّ تلك التفاخرات التي حدثت في ذلك اليوم.
رغم أنَّها كانت ترى ذلك غير معقولٍ بعض الشيء،
لكنَّها لم تُعبِّر عن ذلك. لأنَّه لم يكن أوَّل مرَّةٍ يتصرَّف فيها بغير منطق،
ولم تكن هي أفضل حالًا منه.
لذا أختارت الصمت. والرجل فعل الشيء نفسه.
كان يبدو أنَّ كلَّ الأمور قد انتهت بتلك الطَّريقة.
لكنَّ الحياةُ بطبيعتها سلسلةٌ من الأحداثِ غيرِ المتوقَّعة.
أوَّل من كسرَ السَّلام كان الرجل.
في إحدى الأمسيات، سمعت جولييت شيئًا غريبًا.
“ماذا قُلت؟”
رفعت نظرها إلى الرجلِ الواقف بجوارِ السَّرير بعينينِ مليئتينِ بالدَّهشة.
كان تعبيرها يفضحُ انزعاجها الواضح.
وكان ذلك ردُّ فعلٍ طبيعيًّا بالنظر إلى ما سمعته للتو.
ماذا يقول هذا الشخص الآن؟ رفرفت جولييت بعينيها.
“هل يمكن أن تمسكي بيدي ولو لمرةٍ واحدة؟”
الرجل الذي كرَّر نفس الكلام بتلك الطَّريقة المهذَّبة،
جعل جولييت تظنُّ أنَّه قد جنَّ أخيرًا.
يمسك بيدها؟ يطلب منها أن تعطيه يدها؟
منذ زواجهما، لم تمسك بيده قط. رغم أنَّهما كانا زوجين،
إلَّا أنَّ العلاقة بينهما كانت في الحقيقة أقرب إلى الأعداء.
رغم أنَّ العلاقة بينهما تحسَّنت مؤخرًا، لكنَّ ذلك كان بسبب مرضها وتغيُّر مزاجها.
لو كانت أكثر صحَّة ولديها أيامٌ أطول للعيش،
لكانت متأكِّدة من أنَّ تلك المحادثة السَّابقة لم تكن لتحدث.
كانت تعتقد أنَّ الرجل يعرف ذلك.
ولكن حقيقة أنَّها كانت مخطئةً في توقُّعاتها أثارت غضبها بشدَّة.
وأيقظت جزءًا من شخصيتها الحادَّة.
‘كيف يجرؤ!’ كانت تلك هي الفكرة التي خطرت ببالها.
‘كيف تجرؤ على هذا؟’
هل يطلب حقًّا شيئًا منِّي؟
كانت تعلم أنَّ مكانته كانت مشابهة لمكانتها
فهو الطفل الشرعي الوحيد للإمبراطور الراحل من زواجه بالإمبراطورة.
بل إنَّه كان يملكُ أكثرَ منها. القوَّة، والسُّلطة، والثروة.
كانت جولييت تعرفُ ذلك جيِّدًا لأنَّها عاشت تلك الفروقاتِ بنفسها.
والدليلُ هو أنَّها جُرت إلى أرضهِ والآن تواجه الموت هناك.
لو كانت تتحدَّثُ عن القوَّة التي يملكها، لكان بالتأكيدِ يتفوَّق عليها.
ومع ذلك، كانت تشعرُ بالغضبِ تجاه الرجل.
ليس لأنَّه كان يتصرَّف بتهذيبٍ أمامها.
ما كان يثير استياءها هو ذلك التظاهر الذي كان يتسم به.
كان الرجلُ هو الذي أحضرها من دون أن يسألها رأيها،
لكنَّه كان يتصرَّف وكأنَّه القانون. كان يتظاهر بأنَّه يحترمها بخطوةٍ إلى الوراء،
وكان يخفض رأسه وكأنَّه يندم. وعندما كان هناك أمرٌ مهمٌّ،
كان يسألها عن رأيها، وإذا قالت لا، لم يفعله.
يا لهُ من نفاقٍ عظيم. عندما كان يتظاهر بأنَّه يرفعُها إلى مكانةٍ عالية،
كان الغضبُ يتصاعد بداخلها. كان ذلك ردَّ فعلٍ طبيعيًّا.
كان يتظاهرُ بأنَّه يمنحها حقَّ القرار،
لكنَّ جولييت كانت تعرفً أنَّه كان يَفعلُ ذلك فقط لأنَّه أرادَ ذلك.
كانت تعلمُ أنَّه كانَ يمكنهُ فرضُ أيِّ شيءٍ عليها.
مثلما جعلها تعبرُ الحدودَ، كان بإمكانه أيضًا أن يُمسِكَ بيدها دون أستأذان.