لأجلِ جولييت الجميلة - 5
بَعدَ تِلكَ الكَلِمات، أدارت جولييت رَأسَها.
وبِصوتٍ خافتٍ، قالَتِ المرأةُ : “أعتذر، ولكنَّني أَرغَبُ في الاستراحةِ الآن.”
أدركَ إينوك أنَّ مِزاجَها قد تَغَيَّرَ بشكلٍ طفيفٍ.
ولكنَّهُ لم يكن يعلم السببَ المُباشرَ لذلك،
فاكتفى بالتخمينِ أنها قد تكون مُرهَقةً بشدّةٍ.
كانَ تخمينًا مَنطِقيًّا.
فالمرأةُ التي كانت ضعيفةً في الأصلِ قد بَكَتْ منذ الفجرِ حتى أُغمِيَ عليها،
من الصعبِ تَصَوُّرُ كم سيكون مُرهِقًا.
نعم، الفَجر.
كيف استيقظت في ذلك الوقت؟ لم يستطع إينوك معرفة السبب.
حَسَبَما يَعرِف، يومُ جولييت يبدأ فقط عندما تَشرُقُ الشمسُ بالكامل.
لكن ما الذي حدثَ اليوم؟
هل كانَ لديها حُلمٌ سيّء؟ هل ربما ماتَ في الحلم؟
راودتْهُ تِلكَ الفكرةُ للحظةٍ، لكنه اعتبرها فكرةً سخيفةً.
ما الذي يمكن أن يكونَه بالنسبة لجولييت حتى تحزنَ على وفاته؟
لو ماتَ، لكانت جولييت قد حصلت على حريتها.
كانت ستعود إلى وطنها وتعيش في حضنِ عائلتها المحبوبة.
وربما كان بإمكانها الزواجُ مرةً أخرى.
لم يكن من المُمكن إغلاقُ تلك الفُرصةِ بسبب وفاتِه فقط.
كانت جولييت مُشرقةً جدًا وما تزالُ شابةً ويمكنها الزواجُ مجددًا.
لذا، كان بإمكانها اختيارُ رجلٍ مُناسِبٍ من بين رجالِ وطنِها.
ومع أنَّ تِلكَ الفكرة كانت تُؤلمُ قلبَه، إلا أنَّ إينوك كان يتمنى لجولييت حياةً سعيدةً،
مليئةً بالسرورِ، أكثرَ من أي شخصٍ آخرَ في الدنيا.
بالطبع، لا بدَّ من حدوثِ وفاةٍ طبيعيةٍ ليحصلَ هذا.
إذا كانت وفاةً طبيعيةً ومشروعةً، فلن يستطيعَ أحدٌ أن يقولَ شيئًا.
فكّر إينوك وهو يمشي في الممرِّ عائداً إلى مكتبه. إذا كانت الوفاةُ طبيعيةً،
فلن يتمكن جيناس ولا حاشيتُهُ من قولِ شيءٍ،
وستستعيدُ جولييت حريتَها كاملةً وبلا عيوبٍ.
لكن لم يكن هناك بعدُ وسيلةٌ لتحقيقِ ذلك.
على أيِّ حالٍ، المهمُّ هو أنَّه ليس من المَعقولِ أنَّ جولييت ستحزنُ لمجردِ وفاتِه.
في الحقيقةِ، لا شيءَ فيهِ يُمكِنُ أن يجعلها حزينةً.
ومع ذلك، كان من الواضحِ أنَّ جولييت في الفجرِ كانت تبدو حزينةً حقًا،
مما جعلَ إينوك يشعر بالارتباك.
كان السببُ يبدو أنَّهُ هو، ولكن إذا سألتَهُ ما الذي جعله يؤثر عليها هكذا، فلم تكن لديه إجابة.
وفي النهايةِ، لم تستطع جولييت العودةَ إلى غرفتها في تلك الليلة.
في البِداية كانت خَفيفةً،
لكنّها سُرعان ما ارتفعت بشِدّةٍ بحيثُ لم تَستطع جولييت حتى تحريك إصبعها.
كان كلّ ما تستطيع فِعْلَهُ هو أن تتحمّل الألمَ الذي كان يعتصر جسدَها.
كانت الخادمات يُطعِمْنَها الدّواءَ ويمسحْنَ عَرَقَها بينما كانت
تلهثُ غيرَ قادرةٍ على التنفّسِ بشكلٍ صحيحٍ.
وقد كانت جولييت مُنْزعجةً للغايةِ لدرجة أنّها انفجرت في نوباتِ غضبٍ عَفْويةٍ،
لكنّ الخادماتِ اللواتي اعتدنَ على مرضِ سيّدتِهنّ كُنّ يُهَدِئنَها بمهارةٍ.
لكنّ الحُمّى لم تنخفض وفي حالة شِبْه هَذَيانٍ بسبب تأثير الدّواءِ والحُمّى،
كانت جولييت تُنادي أشخاصًا لن يأتوا أبداً.
“أخي ديريان، أبي، أنا أتألم، أنا أتألم.”
لكن من أجابها كانوا الخادماتِ اللواتي جئنَ معها من روزينتا.
كُنّ يُمسكنَ بيدها، ويمسحْنَ شعرَها، ويهمسنَ لها بلغتِها الأمّ:
“أميرة، ستتحسنينَ قريباً. فقط تحمّلي قليلاً.”
أدركت جولييت أنّهم كانوا يُقلّدون أخاها.
عندما كانت تمرض كان دريان، شقيقُها الأكبرُ، دائماً يُمسكُ بيدِها.
لكنّ محاولةَ تقليدِ شخصٍ ما تُذكِرُك فقط أنه ليسَ هناك.
ومع ذلك، لم تستطع جولييت رفضَ تلك الأيدي.
كانت تتألّم كثيراً لدرجة أنّها لم تستطع فِعلَ ذلك.
وكما هو الحال عند الجميع عندما يمرضون، شعرت بوحدةٍ قاتلةٍ.
كانت وحدةً لا يمكن أن تخفّ حتى مع وجود الآخرين حولها.
مرتجفةً من البردِ الذي جلبته الحُمّى، أغمضت جولييت عينيها بشدّةٍ.
عندما جاءت إلى هذه الأرضِ لأول مرةٍ، مرضتْ بهذه الطريقةِ أيضاً.
* * *
كانت تَبلُغُ من العُمرِ تِسعَةَ عشرَ عامًا وقتها.
للتحديد، بَلَغَت التاسِعَةَ عشرةَ عندما كانت في طريقِها إلى هيرفنتيل، أرضِ الرجُل.
كان من المُفترَضِ أن لا تَسيرَ الأمورُ بهذا الشكل،
ولكن بسببِ ضَعفِها غيرِ المُتوقَّعِ، تأخَّرَت العديدُ من الأمور.
ولهذا، كان الرجُلُ في وضعٍ مُحرِجٍ للغايةِ. كُلَّما اقتربَ موعدُ عيدِ ميلادِها،
أصبَحَ أكثرَ توتُّراً، وعندما احتفلَت بعيدِ ميلادِها في الطريق،
اعتذَرَ لها مراراً وتكراراً.
وعَدَها بأنَّه سيُقيمُ حَفلةَ ميلادٍ رائعةٍ لها بمجرَّدِ وصولِهم إلى القصر.
وقال إنَّه سيُعطيها أيَّ شيءٍ تُريدُه.
لكن جولييت أدارت عليه بنبرةٍ قاسيةٍ.
“ماذا يُمكِنُكَ أن تفعَلَ ليَّ؟”
كان السؤالُ مَليئًا بالنِّيَةِ الهجوميَّةِ الواضحةِ.
في الواقع، كانت جولييت تنظُرُ إليه بغضبٍ شديدٍ.
وكانت تُريدُ أن تُؤذيه بأيِّ طريقةٍ مُمكِنةٍ.
لكن الرجُل، ورغمَ ارتباكِه من هذا العداءِ الصريح، أجابَ بصمود.
“هل تُريدين جزيرة؟ أو ماذا عن بحر؟
يُمكِنُني الحصولُ على جواهرَ من القصورِ الملكيَّةِ القديمةِ.
إذا كُنتِ ترغبينَ بشيءٍ آخرَ، سأحصُلُ عليه.”
فقط قُولي لي ما تُريدين……
لم يُضفِ الجملةَ الأخيرة، لكن كُلَّ من كان هناك فَهمَ الكلامَ الذي لم يَقلْه.
وجولييت أيضًا كانت ضِمنَ هؤلاء الناس،
وعندما أدركت ذلك، لم تَستَطع كبحَ غضبِها المُتزايدِ.
“حقًا؟ إذن أحضِر ليَّ أخي. لم أَرَهُ منذُ شهرين.”
قالت ذلك وهي تعلمُ تمامًا أنَّه هراء.
كانت قد عبرت بالفعل حدودَ روزينتا.
كان يستغرقُ حوالي أسبوعٍ للوصولِ إليها من العاصمة
لو كانت بواسطة فارسٍ مُدربٍ جيدًا.
وكان هذا فقط إذا جعَل الحصانَ يركضُ حتى الموت.
علاوةً على ذلك، كان ديريان وليَّ العهد.
كان وريثُ العرشِ لا يُغادِرُ العاصمةَ بسهولةٍ.
ذلك بسببِ احتمالِ حدوث طارئٍ ما.
كانت تعرف كلَّ هذا، لذلك قالت ما قالتْه.
في ذلك الوقت، كانت تشعرُ بأنَّها تستطيعُ فعلَ أيِّ شيءٍ من شأنه أن يُزعجَ الآخر.
وكان من المستحيل أنَّ الرجُلَ لم يكن يعلمَ ذلك.
ومع ذلك، وعلى الرغم من ارتباكه، لم يَقُلْ “لا”.
“سأكتبُ رسالةً بمجرد وصولِنا إلى هيرفنتيل.”
هيرفنتيل كان اسم أرضِه. ضحكَت جولييت بسُخريَّة.
“هل تعتقد أنَّ أخي سيأتي إذا كتبتَ له؟”
“سأبذُلُ قُصارى جُهدي.”
“هل تعتقد أنَّ مجهودَكَ سيُغيِّرُ شيئًا؟”
“هل ستجرُّ أخي كما جررتَني!”
بينما كانت تقولُ ذلك، كادت جولييت أن تبكي. ليس بسببِ الحُزن، بل بسببِ الغضب.
كانت تكرهُ الرجُل بشدةٍ. كانت غاضبةً لأنَّه تمَّ خِداعُها، وشعرت بالظلمِ لأنَّها وثقَت فيه،
وكانت حزينةً لأنَّها لم تُقاوِم.
كانت تجربةً لم تختبرْها من قبلُ في حياتِها وكان عدمُ مقاومتِها هو الغريب.
لذلك، لم تشعُر بأيِّ ذنبٍ وهي تلومُه.
“لكن من الصعبِ جداً أن تجرَّ أخي. والدُنا ليس لديه سوى طفلين،
لذا يجب أن يتولى أخي العرشَ للأسف.”
“آوه~، ولكن إذا أعلنتَ الحربَ، فقد يكون ذلك مُمكنًا.
أحضِرْ جيشَك، وقلْ له إنَّه إذا لم يُرِدْ أن يعيشَ كعضوٍ في عائلةٍ ملكيَّةٍ مَخلُوعةٍ،
فعليه التصرُّفُ بحذرٍ. هيا هدِّدْ بإجبارهِ على الخروج!”
عندما صرخت بتلك الكلمات، كان ينبغي أن تشعرَ بالراحة،
ولكن الغريب أنَّها لم تشعرْ بذلك. كانت تشعرُ بالإحباطِ منذ البدايةِ وحتى النهاية.
لذا، بدلاً من الصراخِ أكثر، أدارت جولييت رأسَها.
“أذهب. لا أريد شيئًا ممَّا تقول. لا أريد الحفلة.”
‘على أيِّ حال، لا يُمكِنُكَ أن تُعطيني ما أريدُه حقاً.’
بعدَ سماعِ تلك الكلماتِ، لن يكونَ هناك الكثيرُ ممَّن يُمكنهم البقاءُ في أماكنِهم.
تصرَّف الرجُل مثلَ معظم الناس. لم تلتفِت جولييت إليه وهو يُغادِرُ الغرفةَ دون أيِّ عُذر.
لم يمرَّ وقتٌ طويلٌ حتى وصلوا إلى وجهتِهم، وكلُّ ما قال إنَّه سيفعلُه لم يعُدْ ضروريًا،
لأنَّ جولييت كانت تنتظرُ على ما يبدو لتسقُطَ مريضة.
ارتفعت حرارتُها بشكلٍ مخيفٍ. بالطبع، لم يكن هذا أول مرَّةٍ، فقد كانت تُعاني من الحُمّى منذ صغرِها،
لكن بالنسبةِ للرجل، كان هذا أول مرَّة.
جاء العديد من الأطباء، وأُحضِرت جميعُ أنواع الأدوية.
حتَّى وهي مريضةٌ بحرارةٍ مرتفعةٍ، كانت جولييت تعتبرُ الرجُل مُنافِقًا لإحضار كلِّ هذه الأشياء.
في كل الأحوالِ، كانت تُعاني من هذه الحُمَّى عدةَ مراتٍ كلَّ عام.
كانت هي التي تُعاني، وهي التي يجب أن تتغلبَ عليها،
فلماذا هو من يتصرف بتلك الطريقةِ المُبالَغِ فيها؟
لكن الرجُل تصرَّف كما لو كان هو من يحتضر.
ظلَّ بجانب سريرها بلا انقطاعٍ يطلُب المغفرةَ،
وقال إنَّه سيُعطيها أيَّ شيءٍ إذا شُفيت.
لكن جولييت لم ترغبْ في سماع ذلك، فطلبت منه أن يُغادر.
كانت يداها ضعيفتين وصوتُها مُتهدِّجًا بسبب الحُمَّى، لكنها طردته على أيِّ حال.
ومنذ ذلك اليوم، لم يزُرها مرةً أخرى عندما كانت تُعاني من الحُمَّى.
لم يكن ذلك لأنَّه لم يهتمَّ.
جولييت استطاعت أن تستنتجَ ذلك من خلال الزهورِ التي كان يُرسلها.
لكي يردَّ بتلك السرعة، كان عليه أن يكون مُركزًا تمامًا على وضعِها.
عندما تعافت، كانت تتخلَّصُ من الزهورِ التي أرسلها الرجُل مراتٍ عديدةٍ،
وكانت تفعل ذلك لتنفيس غضبِها. الغريب في الأمر أنَّه رغم ذلك لم تشعرْ بالراحة.
مع أنَّها كانت تفعل ما تُريد، إلا أنَّها شعرت بعدمِ الارتياحِ بطريقةٍ غامضة.
لكنَّها سرعان ما دفنت ذلك الشعورَ بعدمِ الارتياح،
وقررت أن تكرهَهُ أكثر بقدرِ ما شعرت به من ضيق، فلم يتغيَّرْ شيء.
حتَّى مات.