لأجلِ جولييت الجميلة - 2
يومُ السيدة التي تخدُمها آيدا محدد.
تستيقظُ في العاشرةِ أو الحاديةَ عشرةٍ، تغسلُ وجهها وتبدلُ ملابسها. في هذا الوقت،
كانَ من يخدُمها بجانبها هم الخادماتُ القادماتُ من قصر روزينتا الملكي، بلدُها الأم.
على عكس العادة الإمبراطورية في توظيف بنات العائلات النبيلة القوية كوصيفات،
كانت العائلة الملكية في روزينتا تحتفظ بمن تربوا في القصر كخدمٍ لهم.
وكانوا في بعض الأحيان يتحدثون إلى سيدتهم بلغة لم يكن أحد في منزل الدوق يعرفها.
كانت تلك اللغة تُعرف بأنها لغة القصر في بلد السيدة، ولم تكن آيدا تفهمها.
كانت فقط تخمن ردود سيدتها بالاستماع إلى إجاباتها، مثل “نعم” أو “لا”.
وكان هذا هو الحال مع بقية الخادمات اللواتي كن من أصول إمبراطورية.
على الرغم من أن بلد السيدة لم يكن بعيدًا،
إلا أنه كان منعزلًا، وكان القصر الملكي دائمًا أكثر الأماكن انغلاقًا.
لحسن الحظ، كانت السيدة تتقن اللغة الإمبراطورية، وكذلك خادماتها،
لذا لم تكن هناك مشكلة في التواصل، لكن هذا لا يعني أن التواصل كان متكررًا.
فمن الأساس، كانت السيدة قليلة الكلام،
وكانت الخادمات القادمات من روزينتا يتجنبن الحديث ما لم يكن ضروريًا.
ومع ذلك، إذا حاولتِ أن تكوني اجتماعية، فإنهن لن يتجاهلنَّكِ،
لذا تمكنت آيدا من الحفاظ على علاقة جيدة معهن.
في الحقيقة، كان عدد الأشخاص الذين لم تكن قريبة منهم في قصر الدوق يمكن عدهم في أصابع اليد الواحدة.
على أيِّ حال، بعد أن تنتهي السيدة من غسل وجهها وتبديل ملابسها،
كانت تجلس على الكرسي بجانب النافذة وتنظر إلى الخارج أو تستمع إلى الخادمات وهن يقرأنَّ الكتب. أحيانًا كانت تتناول الإفطار، لكنه لم يكن حدثًا شائعًا.
بعد فترة من القراءة، كانت الزهور تأتي الزهور من المبنى الرئيسي.
كانت تلك الزهور قد اختارها سيدُ المنزل بنفسه وأرسلها إليها.
كانت الزهور رائعة وجميلة لدرجة أن جميع سكان المبنى كانوا مبهورين بها،
لكن بالطبع السيدة لم تكن تهتم بها.
كانت دائمًا تقول نفس الشيء عند رؤية الزهور المختلفة التي تصلُ كل مرة…
“تخلصي منها.”
عندها كانت آيدا تجمعُ الزهور وتزين بها طريق السيدة،
وتضعُ الرسالة المرفقة في مكتبتها، آملاً أن تلقى اهتمامًا من السيدة.
لكن بالطبع، لم تكن السيدة تهتم بمكان وضع الزهور.
عندما وصلت الزهور لأول مرة وضعت آيدا زهور السوسن الزرقاء هنا وهناك،
حينها قالت السيدة ببساطة: “أوه، حتى هنا تزهر السوسن”،
ثم لم تتحدث عن الأمر بعدها.
بالنسبة لمن ينتظرون ردة فعل، كانت تلك الكلماتُ أكثر من كافية.
لذلك، بعد هذه الحادثة، بدأت الزهور تُرسل من وقتٍ لآخر.
بعد وصول الزهور، كانت السيدة تتناول غداءً متأخرًا.
كان الطعام يُقدم أحيانًا في الخارج، وأحيانًا في غرفتها.
نادراً ما كانت تتخطى الوجبات، لكن عندما تفعل ذلك،
كان ذلك يعني أنها كانت مريضة أو في حالة مزاجية سيئة.
حتى عندما كانت تتناول الطعام، كان ما يدخل فمها قليلًا جدًا،
وكانت معظم الأطعمة تعود كما هي.
على الرغم من أنَّ الطعام كان يُعد بكمية قليلة نظرًا لمقدار ما تأكله عادةً،
إلا أن ذلك لم يكن كافيًا.
بعد الوجبة، كانت السيدة تكتب رسائل إلى وطنها، أو ترسم، أو تتجول في الحديقة.
كانت الحديقة نسخة طبق الأصل من حديقة قصر روزينتا الملكي،
المشهورة بتقنياتها الحرفية الدقيقة.
بينما كانت السيدة تتجول بين النباتات النادرة التي نَمّتّ في شتى الأماكن،
كانت الخادمات، بما في ذلك آيدا، يتبعنَّها.
وكان يرافقهن الفرسان من أصل روزينتا وكذلك الفرسان الذين أرسلهم السيد.
لم تكن لدى السيدة القدرة على التحمل الكافية،
لذا كانت نزهاتها قصيرة، لكن آيدا كانت تحب تلك اللحظات.
ربما لأن الحديقة كانت مستوحاة من حديقة القصر الملكي التاريخي لروزينتا،
كانت تحتوي على فخامة لم ترها آيدا من قبل.
كان هناك أرجوحة ذهبية متدلية من شجرة كبيرة في الوسط،
تحيط بها بحيرةٌ أصطناعية.
حتى ذلك كان مذهلاً، لكن الزخارف في كل مكان كانت مصنوعة من الذهب الخالص والعقيق الأحمر، و المقصات المخصصة لتشذيب الشجيرات كانت مزينة بنقوش رائعة مثل تلك الموجودة في القصر الملكي.
كانت هناك العديد من الأشياء الأخرى التي كانت تبهر الخادمات،
لكن صاحبة الحديقة كانت دائمًا تملتكُ تعبيرًا لا مبالياً.
كلما رأت آيدا وجه السيدة الهادئ، كانت تتخيل قصر روزينتا الملكي،
الذي سمعت عنه فقط. كانت تتساءل كم كان يجب أن يكون القصر فاخرًا وجميلًا حتى لا تهتم السيدة لهذه الفخامة هنا
بعد انتهاء النزهة، كانت السيدة تأخذ قيلولة قصيرة أو تطلب من الخادمات قراءة المزيد من الكتب لها. كانت كل كتب السيدة مكتوبة بلغة روزينتا،
لذا كانت الخادمات اللواتي جئنَّ معها من وطنها هن من يتم اختيارهن لهذه المهمة.
بينما يمر الوقت على هذا النحو، كان الجو في المبنى الرئيسي يصبحُ مضطربًا.
في تلك اللحظات، كانت السيدة تطلب من إحدى الخادمات أن تنظر من النافذة لتتفقد الوضع.
لم تكن هذه المهمة مثل القراءة -حيث يمكن أن تُعطى لأي شخص تراه مناسبًا- لذا كانت آيدا تتولى المهمة أحيانًا.
و عندما تتأكد السيدة من عودة جميع الأتباع و المساعدين إلى منازلهم،
كانت السيدة ترتدي ملابس الخروج مرة أخرى.
و تذهب إلى المبنى الرئيسي للانضمام إلى العشاء،
وهو اللقاء الوحيد مع زوجها في اليوم.
لم تكن آيدا هي من تخدم في وقت العشاء، لذا كانت تستريح أو تساعد الآخرين.
لكن، حتى دون دخول قاعة العشاء، كانت آيدا تعرف أن السيدة لم تستمتعَ أبدًا بتلك الوجبات.
عندما كانت تخرج من قاعة العشاء، كان وجهها دائمًا متجهمًا، وخطواتها سريعة.
لتهدئة مشاعرها المضطربة، كانت تتجول في الحديقة،
لكن التفكير في من أعد الحديقة كان يزيد من غضبها فتدخل المبنى بسرعة في النهاية.
وبعد ذلك، لم يكن يتبقى سوى الاستحمام. بعد الانتهاء منه، كانت السيدة تصبح مرهقة جدًا لدرجة أنها لم تكن تستطيع فعل أي شيء آخر.
بعد أن تتوجه إلى فراشها، كان الخدم يغادرون الغرفة باستثناء من يعتنون بها خلال الليل.
كان هذا هو النظام المتبع في القصر.
لكن، ما هذا؟
آيدا لم تصدق عينيها، فأغلقتهما وفتحتهما مرة أخرى.
‘هل أنا أرى أشياء غير حقيقية؟….’
“يا لكَ من رجلٍ أحمق. من الذي قال إنَّكَ تحتاجُ إلى فعلِ ذلك؟”
من الواضح أن تلك الكلمات، التي كان من الممكن أن تَنبُعَ من الغصب في الأوقات العادية،
جاءت من امرأةٍ كانت تضرب صدرَ رجلٍ وهي غارقة في البكاء.
وكانت تلك المرأة ليست سوى سيدتها.
“جولييت…”
والرجل الذي لم يستطع لمسها وكان يتحمل ضرباتها كان سيدها.
فركت آيدا عينيها.
‘هل ما زلتُ نعسانة؟’ كانت تلك اللحظة غير قابلة للتصديق.
السيدة كانت تضربُ صدرَ سيدها في الفجر، وهي ترتدي ملابس النوم.
لو قال ليًّ أحدهم هذا في اليوم السابق، كنت سأضحك عليه.
لكن كل ذلك كان يحدث فعلاً أمامَ عينها.
” هل تعرف؟ أنا، آه!، لم أطلب أبدًا شيئًا مثل هذا. لم أطلب منكَ أن تفعل ذلك!”
قالت السيدة ذلك وهي تضربه بيدها التي بدت ضعيفة جدًا بحيث أنها لم تؤلمه.
السيد لم يعرف كيف يتعامل مع زوجته، فحاول عدة مرات البحث عن شيء ما،
لكنه لم يكن هناك شيء يساعده.
في تلك اللحظة، أمسكت جولييت بزوجها واحتضنته.
“أيها الأحمق، الغبي، الأخرق. كيف تجرؤ على فعل ذلك… لا تفعلها مرةً أخرى، حسنًا؟”
قالت ذلك وهي تحيط جسد زوجها بذراعيها.
كانت حركتها ضعيفة للغاية، لكنها كانت كافية لإذهال كل من كان يقف في الممر.
أخذت آيدا أيضاً نفساً عميقاً.
‘ما الذي رأيته للتو؟…. هل هذه سيدتي حقًا؟..’
كانت تعرف أن العلاقة بين الزوجين كانت باردةً جدًا.
لقد كانا يعيشان في منازل منفصلة حتى لان السيدة جعلت من الملحق مكاناً لها،
لذلك لم يكن هناك حتى مرة واحدة أمسكوا فيها أيديهم.
كما هو الحال في معظم العائلات التعيسة، كان لديهم أيضًا سبب ليكونوا هكذا.
كان السبب هو أن الزواج لم يكن مرغوبًا من أحد الطرفين.
لا يحتاج المرء إلى سماع من هو هذا الطرف،
فمن الواضح أن الشخص المسيطر في العلاقة كان دائمًا السيدة.
على عكس السيد الذي كان يشعر بالحذر وعدم الارتياح حتى من لمسة واحدة،
لم تكن السيدة تقدّر زوجها.
لم تكن تمارس العنف الجسدي -لأنه في الأساس لم تكن لديها القوة لفعل ذلك-
ولكن ليس من الضروري أن يُنزَفَ الدم حتى يُصابَ المرأُ بجراح.
لم يكن واضحًا كيف يمكن لجسد ضعيف أن يخرج كل هذا الحقد،
لكن السيدة كانت تتحدث دائمًا بحدة عندما ترى السيد.
“لو لم تكن موجودًا، لكنتُ أكثر سعادة بكثير. فماذا تستطيع أن تقدم لي؟”
“لا تتحدث وكأنك تستطيع حلَّ كل شيء. أنت تعرف أن مشكلتي الأكبر هي أنتَ.”
بالرغم من أن السيدة كانت تستخدم لغة القصر أو لغتها الأم في العادة،
إلا أنها في تلك اللحظة تحدثت بلغة الإمبراطورية.
كان السيد قد تلقى تعليمه في القصر، لذلك كان يعرف لغة روزينتا، لكنها تعمدت ذلك.
قالت أحدى الخادمات هذا قبلاً: “إنها تفعل ذلك لإهانته”
كانت الخادمة التي تعمل في غرفة النوم من شمال البلاد، مثل آيدا،
والأشخاص من تلك المنطقة كانوا عادة هم من أتوا مع السيد عندما أنتقل إلى الإقليم الكبير،
وكانوا مخلصين له جداً بالطبع.
ردت عليها خادمة أخرى كانت تجلس بجوارها: “ولكنها لم تبدُ سيئة بهذا الشكل بالنسبة لنا.”
!
“هذا صحيح بالنسبة لنا فقط. لكنها قاسيةٌ جداُ مع السيد.”
أطلق بعض الخدم تنهيدةً عند سماع هذا. وكذلك فعلت آيدا التي كانت تراقبهم من مكان بعيد.
لم تكن السيدة قاسية على الخدم مثلما كانت مع زوجها.
في الحقيقة، كانت قسوتها غير محدودة بالزمان والمكان مع السيد،
وقد شاهدت آيدا كيف كانت تضع السيد في مواقف محرجة عدة مرات.
كانت تلك الأحداث عندما كان السيد ما زالَ يدخلُ جناحها.
“لا يمكنني فهمُكَ أو حتى حُبَّكَ! لا أستطيعُ أن أقدم لك أيَّ شيءٍ!
ولكن حتى لو كان بإمكاني، لن أفعل!”
“أنا أندمُ على اليوم الذي التقيتُكَ فيه لأول مرة.
لو كنت أعلم أنك شخصٌ مختلفٌ تمامًا من الداخل، لما ارتكبت هذا الخطأ!”
في كل مرة تصرخ فيها السيدة، كانت تقف منتصبة.
وكان وضعها المعتاد المستقيم يزداد وضوحًا في تلك اللحظات.
لكن تلك اللحظات لم تكن تستمر طويلًا.
جسد السيدة كان ضعيفًا للغاية لتحمل تلك المشاعر العنيفة.
كانت السيدة تشعر بالدوار بعد كل نوبة غضب، وهذا ما يفسر قصر مدتها.
بعد انتهاء غضبها القصير، كانت السيدة تبحث دائمًا عن شيء لتستند عليه بعينين متعبتين.
وفي كل مرة، كانت الخادمات من “روزينتا” هن من يدعمنها.
كانت السيدة تعتمد على أجسادهن لتضيف كلمات أخيرة.
“كل هذا يحدثُ بسبكَ. أنتَ من جلبني إلى هنا رغم إرادتي.”
بعد أن تنهي السيدة كلامها وتدير رأسها بعيدًا،
كان السيد يغادر بهدوء محاولًا عدم إزعاج زوجته.
كان من المحزن رؤية رجلٍ كبير الحجم يتصرف بتلك الطريقة،
وكان الخدم يشعرون بالأسى عند رؤية ذلك.
لذلك، كانت آيدا تأمل أن تكون السيدة أكثر لطفًا مع زوجها.
لقد كان مؤلمًا لها أن تشاهد ما يحدث للسيد الذي تحترمه.
لكن السيدة لم تكن تحب السيد بدرجة تجعلها تشعر بهذه العواطف.
كان يبدو أن جسدها النحيل مليء بالحنين والغضب تجاه وطنها.
لذلك، لم يكن غريبًا أن السيد لم يعد يدخل الجناح.
فلا يمكن لشخصٍ يعيش في هذه الخسارة الهائلة أن يتحمل وجود الشخص الذي تسبب فيها.
لكن ما هذا العناق العفوي الآن….؟
كان يبدو حتى وكأنه مليء ببعض الشوق. فركت آيدا عينيها مرة أخرى.
لقد بدا أنَّ السيد و السيدة في عالمهما الخاص لدرجة عدم الأنتباه لوجود آيدا و الخدم.
لم تكن هي الوحيدة التي لم تستطع أستيعاب الوضع. لقد كان السيد متجمدًا مثل تمثال.
في عيني الرجل الكبيرتين والزرقاوتين ظهرت كل مظاهر الحيرة.
لكن على الرغم من ذلك، بدا أنه شعر بالحاجة إلى الإجابة على سؤال السيدة.
“أعدُّكِ.”
عندها جاء السؤال التالي.
“هل تعرف حتى ما الذي أقصده؟”
كان هذا أيضًا ما كانت آيدا تتساءل عنه فلم تستطع فهم كلمات السيدة.
بقدر ما كانت تعرف، لم تكن السيدة مختلفة حتى يوم أمس.
كانت هادئة وغير مبالية كما هي دائمًا.
ولم يحدث شيء بين الأمس واليوم.
على الأقل هذا ما كانت تعرفه آيدا. وأغلب الخدم كانوا يعتقدون نفس الشيء.
لذلك، لم تستطع آيدا استيعاب الموقف.
ويبدو أن السيد أيضًا كان في نفس الوضع.
رأت آيدا وجه الرجل يحمر. ربما كان ذلك بسبب الخجل،
وكان هذا أمرًا نادرًا. فهو لم يكن من هذا النوع.
أجاب السيد بوجهٍ مُحمَّرٍ حتى أذنيه: “آسف….أنا لا أعرف.”