لأجلِ جولييت الجميلة - 14
توفيتِ الملكةُ الثانيةُ للملكِ روزينتا أثناءَ الولادةِ. لم يكن ذلك أمرًا نادرًا أو شائعًا.
الطفلةُ التي ولدت كانت فتاةً تشبهُ الملكةَ المتوفاةَ تمامًا.
نظر ديريان طويلًا إلى الرضيعةِ التي ولدت بشعرٍ أسودَ وعيونٍ خضراءَ،
وهي الصفاتُ المميزةُ للعائلةِ المالكةِ في روزينتا.
على الرغمِ من أن الرضيعةَ امتلكت هذه الصفاتِ الملكيةِ البارزةِ،
إلّا أنها لم تزعجه كما هو معتادٌ.
ربما كان السببُ في ذلك هو أنها تشبهُ والدتها.
على الرغمِ من أن إغناسيا كانت تضحك كثيرًا، إلّا أن الطفلةَ كانت تقضي معظمَ الوقتِ في البكاءِ والانزعاجِ، لكن بغض النظرِ عما قاله أيُّ شخصٍ، فمن الواضحِ أنها كانت ابنةَ إغناسيا.
أطلقوا على الأميرةِ الصغيرةِ اسم يلين، وهو اسمٌ تقليديٌّ كانت تستخدمه الأميرات عبر الأجيال. ولم يكن من المقررِ أن تحصلَ الطفلةُ على اسمٍ رسميٍّ إلا بعد تجاوزها سنَّ السابعةِ، وهو تقليدٌ ملكيٌّ متبعٌ.
رأى الملكُ ابنتَه ثلاثَ مراتٍ فقط،
عند ولادتها، في جنازةِ والدتها، وعندما تم تخصيصُ جناحٍ لها في القصر.
جناحُ الطفلةِ كان مثل اسمها، فقد كان الجناحَ الذي استخدمتْه الأميراتُ عبر الزمن.
قام ديريان بإعادةِ تصميمِه بكنوزِ العائلةِ المالكةِ ليصبحَ مناسبًا لها.
فهو لم يكن يرى أن هذا المكان يليقُ بابنةِ إغناسيا.
لم يتكلمِ الملك على الرغمِ من أنه سمع عن تصرفاتِ الأميرِ الذي أصبحَ الآن وليَّ العهد،
ولم يكترث ديريان لذلك التجاهل.
فلم يكن ينوي طلبَ الإذن منذ البداية.
عندما كبرتِ الطفلةُ بعضَ الشيءِ، وكان قد ظهر عليها بعضُ القوةِ بعد أن ولدت ضعيفةً،
أخذها ديريان وذهب لمقابلةِ الملك.
عينا الملكِ، الذي بدا عليه تقدمُ العمرِ كثيرًا خلال السنوات القليلةِ الماضية،
كانتا أشبه بآثارِ مدينةٍ قديمةٍ مهجورة.
بنظرةٍ باهتةٍ، نظر إلى ابنِه الواقفِ عند أسفلِ العرش.
لم يتجنب ديريان النظرَ في عيونِ والدِه ذاتِ اللونِ الأخضر الداكن.
فقد أصبحَ الآن شابًا، ولم يعد يخافُ من والده.
فقد باتت له عائلةٌ جديدةٌ تختلفُ عن الماضي،
عندما كان هو ووالده الوحيدين اللذين يحملان ذلك اللونَ الأخضرَ.
‘لن أسمحَ بحصولِ شيءٍ لها…’ كان ديريان يفكر بذلك وهو يحتضنُ الطفلة.
ابنةُ إغناسيا كانت أختَه الوحيدةَ، وكان قد بلغ من العمر ما يكفي لحماية من يحب.
بدأ الأصغرُ بالتحدثِ أولًا.
“أبي.”
على الرغمِ من أنه قد تخلى عن مناداته بهذا اللقبِ منذ زمن، إلّا أن نطقَه له لم يكن صعبًا على الإطلاق. بل كان أسهل لأنه قد تخلى عنه مسبقًا. فلم يبقَ شيءٌ ليعيقه، ولا حتى ذرةُ ندمٍ.
هزَّ الملكُ رأسَه وكأنه يطلبُ منه الاستمرار.
شعر ديريان بالاشمئزازِ من ذلك الكبرياءِ.
كانت مشاعره أقربَ إلى النفورِ الفطريِّ منها إلى الحزن.
تحدث ديريان.
“أعلم أنكَ لم تحبَّني أبدًا طوال حياتي.”
كانت كلماتُه خاليةً من أي شعورٍ بالخسارة. فلم يكن هناك شيءٌ ليخسره. إذ لم يتلقَ أيَّ شيءٍ منذ البدايةِ، لذا كان ذلك متوقعًا.
ولكن ديريان كان يتذكر طفولتَه المليئةَ بالحزنِ والإستياءِ والمرارةِ.
كانت الدروسُ التي تعلمها من الماضي هي ما جعلته ما هو عليه اليوم،
ولكنه لم يرغب في أن تتعلمَ ابنةُ إغناسيا نفسَ الدروسِ القاسيةِ.
ولهذا السبب كان واقفًا أمام والدِه الذي لم يحبَّه قط.
“بالطبع، لا أجد في ذلك شيئًا يستحقُّ الاستياءَ.
فأنت تعلم كم هي عديمةُ القيمةِ تلك الأمور.”
سخر الأمير، ولم ينكر الملك حتى.
كانت تلك هي النتيجةَ المتوقعةَ. ابتسم ديريان ابتسامةً ملتويةً.
“لكنني أرغب في منحِ هذه الطفلةِ كلَّ شيءٍ، مهما كانت تلك الأمورُ تافهةً.”
“ولكنها ليست ابنتكَ حتى…”
خرجت تلك الكلماتُ منه بعد صمتٍ طويلٍ.
نظر ديريان إلى والدِه العجوزِ الذي كان يتحدثُ هراءً.
فقد كان الوجهُ الذي كان يبدو ذات يومٍ أشبه بالجبلِ الجليديِّ الآن يبدو غبيًا بشكلٍ لا يُصدق.
لم يكن هو أيضًا ابنًا لإغناسيا، لكنها أحبته كأنه ابنها الحقيقي، وعرف الحبَّ لأول مرة.
فكيف لهذا الرجلِ، الذي عاش كل تلك السنينِ، ألا يعرف شيئًا كهذا؟
“هل تعتقدُ أن ذلك مهمٌّ؟”
سأل الأمير، وأجاب الملك بالصمت.
ضحك ديريان ساخرًا منه.
وبعد أن استمتع بالسخريةِ من والدِه العجوزِ لفترةٍ، تحدث.
“أريد منك أن تحبَّ هذه الطفلة.”
امنحها اسمًا نبيلًا، وافرش طريقَها بالياقوتِ والذهبِ،
ثم أعلن لجميع أنحاءِ البلادِ أنها أميرةٌ مميزةٌ.
وتصرفْ كأنك على استعدادٍ لأن تقدمَ قلبَك من أجلها.
“إذا فعلتَ ذلك، فسوف تحظى هذه البلادُ التي تقدرها بنفسِ المعاملة.”
نظر ديريان إلى الطفلةِ النائمةِ بين ذراعيه. كانت صغيرةً،
لكنها كانت تحمل ملامحَ والدتها. على الأقل، هذا ما كان يراه.
“لكن إذا احتقرتَ ابنةَ والدتي،
فستضطر لمشاهدةِ كيف سأردُّ لكَ ذلك الاحتقارَ من داخل قبرِك.”
م/ة:ديريان هنا قصد يناديها بابنة والدته قدام الملك عشان يبين معزتها له
كان ذلك تهديدًا صريحًا. وكان ديريان مدركًا تمامًا لما كان يقوله.
لم يكن من المفترض أن يقول مثل هذه الكلماتِ، خاصةً وهو في طريقه ليصبحَ حاكمَ البلاد، لكن لم يكن يهمه ذلك.
كان ديريان يحتقر كلَّ ما كان والدُه يحبُّه.
حتى لو كان ذلك يشمل الأشخاص الأبرياءَ والأرضَ نفسها، فإن مشاعرَه لم تتغيرْ.
لذلك لم يكن الأمرُ يختلف عن التهديدِ والفرصةِ الممنوحةِ لملكٍ لا يرى سوى بلده في عينيه.
رفع الأميرُ الشابُ رأسه.
“أنا أقول لكَ الآن، إنني على استعدادٍ لأن أحبَّ كلَّ ما أحتقره.”
نظر الملكُ إلى ابنِه المتعجرفِ. وتلاقى لونان أخضران باردان.
“هذا مضحك. كيف يمكن لشخصٍ سيصبح حاكمًا أن يحتقر كلَّ شيءٍ هكذا.”
تحدث الملكُ أخيرًا، لكن نهايةَ المحادثةِ كانت محسومةً.
كان ديريان يعلم أن والده لن يستطيع التخلي عن البلادِ حتى بعد موته.
مثلَ ما كان يحبُّ أخته لدرجةِ أنه سيفعلُ أيَّ شيءٍ من أجلها،
كذلك سيفعل الملكُ كلَّ ما يلزمُ من أجلِ بلادِه.
وبعدَ فترةٍ من الهدوءِ، أشارَ الملكُ بيدِه.
“اخرج”، كانت نبرةُ صوتِه تعبّرُ عن الإرهاقِ.
لم يكن ديريان يرغبُ في رؤيةِ وجهِ والدهِ أكثرَ، فاستدارَ بدونِ ترددٍ وغادر.
وبينما كان يخطو بخطواتٍ واسعةٍ خارجَ القاعةِ الملكيةِ، جاءهُ تحذيرٌ هادئٌ من الخلفِ.
“إنَّ الاحتفاظَ بمن سيرحلُ مبكرًا في القلبِ هو تصرفٌ أحمق.
ألا تفهمُ ذلكَ رغمَ كلِّ ما علَّمتُك إياه طوالَ تلك السنين؟”
ردَّ ديريان على الملكِ، الذي ظلَّ يتصرفُ بغباءٍ حتى النهايةِ، وكأنه يمنُّ عليه بإجابةٍ.
“أن تكونَ أحمقًا أفضلُ من أن تكون جبانًا، أليسَ كذلك؟”
***
وفى الملكُ بوعدِه.
حصلت الأميرةُ على اسمٍ نبيلٍ، وسارت على طرقٍ مفروشةٍ بالياقوتِ والذهبِ،
ونشأت وهي تعتقدُ أن والدها رجلٌ لطيفٌ دائمًا.
أقام ديريان زفافًا وطنيًا، ومثل البلدَ في استقبالِ الوفودِ الرسميةِ،
وكان يقومُ بزياراتٍ تفقديةٍ بين الحينِ والآخرِ.
كانت زوجةُ وليِّ العهدِ من عائلةِ باريغتون الملكية، وأحد أقرباءِ إغناسيا.
وكان الشعبُ أيضًا يعتقدُ أنَّ وليَّ العهدِ سيكون ملكًا عادلًا.
عندما كانوا يجتمعون مع الأميرةِ، كانوا يظهرون كعائلةٍ مثاليةٍ.
الأبُ بدا عطوفًا، والابنُ كان مطيعًا بدرجةٍ مناسبةٍ، والابنةُ بدت كأنها قد نالت كلَّ الحبِ.
كانت الأيامُ جميعها سلميةً وجميلةً.
ومع مرورِ الأيامِ، كان ديريان يطبعُ قبلةً على جبينِ الطفلةِ التي كانت تضحكُ كثيرًا،
ويهمسُ لها مرارًا: “يا أختي، سأفعلُ أيَّ شيءٍ من أجلكِ.”
في كلِّ مرةٍ كان يقولُ ذلك، كانت الأميرةُ تبتسمُ ببراءةٍ مثل براعمِ الزهورِ. وكانت ضحكتُها تشبهُ ضحكةَ والدتِها تمامًا، مما كان يدفعُ ديريان إلى قرصِ وجنتيها بلطفٍ في كلِّ مرةٍ.
على الرغمِ من ذلك، لم يكن ديريان خاليًا من الأشخاصِ الذين أحبَّهم.
كانت زوجته، القادمةُ من بلدِ إغناسيا، أقوى منها، ولكنها كانت بنفسِ القدرِ من اللطفِ.
وسرعان ما وقعَ في غرامِها.
أما ابنُهما، الذي ولِدَ يشبهُ أمَّه، كان طفلًا صحيًا،
رغمَ أنه كان يمثلُ تحديًا له في بعضِ الأحيانِ، إلا أنه كان ثمينًا له بشكلٍ لا يُصدَّق.
كان ديريان يحبهم أيضًا. حتى الملكُ كان يمثلُ دورَ الأبِ الحنونِ أمامَهم.
لقد كانوا عالمَه، وهكذا استمرَّ سلامُ عائلتِه العزيزة.
ومع ذلك، بقي في قلبِ ديريان جزءٌ من ذلك القسمِ القديمِ، الوعدِ الذي قطعَه في شبابِه عندما كان يحتضنُ الطفلةَ الوحيدةَ التي كانت عائلتَه، قائلًا “سأفعلُ أيَّ شيءٍ من أجلكِ.”
استذكرَ تلك الأيامَ للحظةٍ، وطبعَ قبلةً على جبينِ أختِه النائمةِ.
كان لا يزالُ قادرًا على فعلِ أيِّ شيءٍ.
***
نظر إينوك إلى الرجلِ الجالسِ أمامه.
كان الرجلُ، الذي يمتلكُ شعرًا أسودَ متوسطَ الطولِ وعيونًا خضراءَ، يشبهُ أختَه كثيرًا.
كانت بشرتُه العاجيةُ وملامحُه الباردةُ ونظراتُه الهادئةُ كلها تشبهُها.
بكلِّ الصفاتِ التي يمكنُ أن يورثَها الدمُّ المختلطُ،
كان وليُّ عهدِ روزينتا يشبِهُها تمامًا وهو يحدقُ به.
سادَ الصمتُ بينهما. لم يتجنبْ إينوك النظرَ في عينَيه الخضراوينِ اللتين كانتا مغطاتَين بالظلالِ. حتى لو كان الرجلُ يحدقُ به وكأنه يريدُ قتلَه، كان على إينوك أن يتحملَ ذلك.
في عيونِ ديريان، كان إينوك خائنًا خانَ عهدَه، وسارقًا أخذ أختَه منه،
وفي النهايةِ قاتلًا سيتسببُ في موتِها.
لو لم يكن ديريان وليَّ عهدِ مملكةٍ، لحاولَ قتلَه بالتأكيد.
كان من كسرَ الصمتَ هو الرجلُ الآخر.
“أيها الدوق، أنا نادمٌ على إدخالِ أخيكَ إلى روزينتا.”
على الرغم من أن الكلماتِ كانت هادئةً، إلا أنَّ مضمونَها لم يكن كذلك.
تذكر إينوك الجنودَ الذين تم إرسالُهم من روزينتا قبل أربعِ سنواتٍ.
كان جيناس قد تفاوض مع ديريان وطلبَ التعزيزاتِ للسيطرةِ على العرشِ.
ولكن إذا ما قورنت قوةُ الثوارِ بما يملكُه وريثُ العرشِ،
فإنَّ ما حدث كان أشبهَ بكرمِ ديريان أكثر من كونِه صفقةً.
وكيفَ قمتُ أنا بردِّ هذا الجميل؟
عندما كان إينوك يفكرُ في ذلك، كان يفقدُ القدرةَ على التعبير.
لم يكن ذلك بسببِ قلةِ موهبتِه في الكلامِ فحسب، بل لأنه كان يدركُ الخيانةَ.
وقبل أن يغرقَ أكثرَ في أفكارِه، تابعَ ديريان الحديث.
“أظنُّ أنني سأظلُّ أشعرُ بالندمِ طوالَ حياتي.”
الآن، ماذا يجب أن أقولَ؟ شعرَ إينوك بحلقِه يجفُّ.
هل عليَّ أن أركعَ وأعتذرَ؟ هل يمكنني أن أمحوَ كلَّ ما حدثَ لو ركعتُ؟
كانت تلك الأفكارُ تبدو مهينةً لشخصٍ في مكانتِه، الذي لم يعد عليهِ الانحناءُ لأيِّ أحدٍ.
لكنه كان مستعدًا لفعلِ ذلك حقًا. فقد كان من الصوابِ أن يقدمَ كلَّ ما لديه لجولييتَ وشقيقِها.
لكن لم يكن هناك شيءٌ يمكنُ تعويضُه بتصرفاتٍ أو كلماتٍ بسيطةٍ.
لقد أدركَ إينوك هذه الحقيقةَ الآن.
أدركَ أنه مهما فعلَ، فلن يكونَ هناكَ تغييرٌ في علاقتهما.
ولم يفهمْ ذلك إلا بعد أن قابلَ نظراتِ المرأةِ المليئةِ بالاحتقارِ.
كانت كلُّ أفعالِه في النهايةِ تابعةً للخداعِ.
ما الجدوى من الركوعِ إذا كان يعلمُ أنه لا فائدةَ؟ لهذا السببِ بقي إينوك صامتًا.
في الواقعِ، كان الصمتُ من بينِ الأمورِ القليلةِ التي كان يجيدُها.
تابعَ ديريان الحديث.
“ومع ذلك، حتى لو عدتُ إلى الماضي، ربما سأقومُ بنفسِ الاختيارِ. هل تعلمُ لماذا؟”
نظر إليهِ بعينَين خضراوينِ باردتينِ.
كان السؤالُ بلا إجابةٍ، لذلك لم يقل إينوك شيئًا.
وكان ذلك أفضلَ. فقد كانت جولييتُ تكرهُ عندما يتحدثُ،
وكان الشقيقانِ يشبهانِ بعضَهما حقًا. لذلك، من المحتملِ أن ديريان يكرهُ ذلك أيضًا.
ولم يطلب ديريان من إينوك أن يجيبَه.
الفصل 15 و 16 على الواتباد LENA_y158 ♡♡