لأجلِ جولييت الجميلة - 13
رغم أنها كرَّرتِ الكلامَ عدةَ مراتٍ،
إلا أنَّ ديريان لم يُصدِّق أنها أكلتْ أكثرَ من نصفِ كميةِ الطعامِ
إلا بعد أنْ راقبها أثناءَ وقتِ الوجبةِ.
وبينما كانت جولييت تنظرُ إلى وجههِ الذي لا يزالُ غيرَ راضٍ،
شعرتْ بالإرتياحِ اليومَ لأنها أكلت أكثرَ من المعتادِ.
لو كان الأمرُ كالمعتادِ، لم تكن لتتناولَ حتى نصفَ الكميةِ،
ولو اكتشفَ ديريان ذلكَ، لكانتِ الملامةُ و التوبيخُ قد بدأ من جديدٍ.
بعدَ الوجبةِ، استندت جولييت على ديريان وسارت معهُ حولَ الغرفةِ عدةَ مراتٍ تقريبًا.
بدا أنَّ ديريان قد صُدمَ قليلاً عندما علمَ أنها لا تستطيعُ الخروجَ إلى الحديقةِ حتى،
لكنَّ في الواقعِ حالةَ جسدِها كانتْ أفضلَ من المعتادِ.
وفوقَ ذلكَ، لم تكن تشعرُ بأيِّ ألمٍ اليومَ.
وبينما كانت تستلقي على السريرِ مجددًا ممسكةً بأخيها، فكرتْ في أنه لو كانَ اليومُ سيئًا، لكانت آلامُ جسدِها قد منعتْها من التحركِ لبضعِ خطواتٍ.
ولكن اليومَ، كانَ التنفسُ فقطْ صعبًا، أما بقيةُ الأمورِ فكانتْ على ما يرام.
‘ربما لأنَّ أخي هنا..؟’
ألقتْ جولييت نظرةً سريعةً على ديريان وهو يجلسُ على الكرسي بجوارِ سريرِها.
كانَ يلتقطُ كتابًا من على الطاولةِ المجاورةِ ويتصفحه. كانَ الكتابُ مألوفًا لها أيضًا.
سألها ديريان بينما كانَ يمسحُ بيده على غلافِ الكتابِ الجلديِّ.
“ما زلتِ تستمعينَ إلى قصةِ أورغاس؟”
“أستمعُ إليها أحيانًا.”
“كنتُ أقرأها لكِ كثيرًا عندما كنتِ صغيرةً، أليسَ كذلك؟”
“نعم، لهذا السببِ أحبُّ سماعَها.”
اللحظاتُ التي ذكرها ديريان كانتِ السببَ الأكبرَ لحبِّ جولييت لقصةِ أورغاس.
ورغمَ النهايةِ المأساويةِ للقصةِ، كانتِ الذكرياتُ السعيدةُ لتلكَ الأيامِ تجعلُها سعيدةً.
باستثناءِ بعضِ المراتِ الأخيرةِ.
تذكرتْ جولييت تلكَ المحاولاتِ التي قامتْ بها بعدَ أنْ أمرتِ الخادمةَ بإغلاقِ الكتابِ.
حاولتْ أنْ تستمعَ إلى القصةِ بصبرٍ عدةَ مراتٍ، لكنها فشلتْ في كلِّ مرةٍ.
كانتْ تشعرُ بعدمِ الارتياحِ بشكلٍ غريبٍ.
لكنَّ الآنَ ديريان موجودٌ. ربما سيكونُ الأمرُ مختلفًا هذهِ المرةَ.
سألتْ جولييتُ بصوتٍ خافتٍ.
“هل ستقرأُ لي؟”
“هل تريدينَ ذلكَ؟”
“نعم.”
“حسنًا، سيكونُ من الجميلِ أنْ نتذكرَ الماضي.”
فتحَ دريان الكتابَ، “من أينَ أبدأُ؟”
فكرتْ جولييتُ لوهلةٍ، ثم قالت: “تجاوز المقدمةَ وابدأْ من بعدها.”
كانَ طلبُها هو تجاوزَ الجزءِ الذي كانت تحبُّهُ ذاتَ يومٍ،
لكنَّ ديريان لم يسألِ المزيدَ وبدأَ يقلبُ الصفحاتِ ببطءٍ بحثًا عن البدايةِ.
أغمضت جولييت عينيها وهي تستمعُ إلى صوتِه المألوفِ.
كانَ كلُّ شيءٍ مثاليًا.
***
نظر ديريان بهدوءٍ إلى أختهِ النائمةِ بسلامٍ.
كانتْ وجنتاها، اللتانِ كانتا يومًا ما بلونِ الوردِ، شاحبتينِ الآنَ كالشمعِ،
وكانت عظامُ وجهِها ومعصمَيْها بارزةً. كان واضحًا للجميعِ أنها مريضةٌ بشدةٍ.
لقد توقَّع أنَّ حالتها قد تدهورت.
كما هو الحالُ معَ جميعِ ورثةِ العرشِ،
كانَ على درايةٍ بالمرضِ الوراثيِّ الذي أصابَ العائلةَ الملكيةَ.
كان هذا المرضُ يستنزفُ حيويتَهم ببطءٍ حتى الموتِ، ولم يكن هناكَ أيُّ علاجٍ معروفٍ له.
هذا المرضُ كانَ يصيبُ الأميراتِ فقط، وكانتْ جولييت واحدةً من ضحاياهِ،
تمامًا مثلَ العديدِ من الأميراتِ اللواتي قُيِّدَتْ حياتهنَّ القصيرةُ في سجلاتِ العائلةِ الملكيةِ.
لهذا السببِ، كانَ هناكَ قليلٌ من السجلاتِ المتعلقةِ بالأميراتِ
في عائلةِ روزينتا الملكيةِ. إلا اللواتي كانَ لديهنَّ حظٌ أوفرُ،
فقد دُفِنَ معظمُهنَّ في مقابرِ العائلةِ في أوائلِ العشرينياتِ منْ أعمارهنَّ.
عندما درسَ ديريان هذا التاريخَ لأولِ مرةٍ، لمْ يشعر بالكثيرِ من التأثرِ.
كانَ بطبيعتِه إنسانًا غيرَ حساسٍ للأمورِ التي لا تخصهُ بشكلٍ مباشرٍ.
حتى أنهُ كانَ يسخرُ في داخلِه، قائلًا إنهُ لن يهتمَّ بهذا التاريخِ إلا إذا تزوَّجَ وأنجبَ فتاةً.
لكنَّ لا أحدَ يعرفُ ما يخبئهُ المستقبلُ.
تغيرَ مستقبلُ ديريان أيضًا بعدَ أن أنجبتِ الملكةُ الجديدةُ أميرةً.
***
رغمَ عدمِ حبهِ لوالدهِ، كانَ ديريان معجبًا بالملكةِ الجديدةِ.
كانت الملكةُ من جزيرةِ باريغتون، ورغم أنها لم تكنْ والدتَهُ، إلا أنها أحبَّتهُ كابنِها.
لقدْ عرفت أنهُ سيصبحُ ملكًا يومًا ما، ومعَ ذلكَ لم تتغير معاملتُها لهُ.
في ذلك الوقتِ، ظنَّ الفتى ديريان أنَّ هذا بسببِ عدمِ إنجابِها أطفالًا بعدَ.
كانَ ديريان يفكرُ بطريقةٍ سلبيةٍ حولَ والديهِ البيولوجيينِ، فما بالكَ بزوجةِ والدهِ؟
كانَ يرى العالمَ كلهُ بنظرةٍ متشائمةٍ، لذلكَ لم يكن يفسرُ لطفَ والدتهِ الجديدةِ إلا بشكلٍ ساخرٍ.
لكنَّ إغناسيا، الملكةَ ووالدتَهُ الجديدةَ، رغمَ مظهرِها الرقيقِ، كانت تتحلى بصبرٍ عميقٍ.
لم تعر اهتمامًا لتصرفاتِهِ غيرِ المؤدبةِ وكأنَّها لم تكن شيئًا يُذكَرُ.
ورغمَ أنَّ ديريان كانَ دائمًا يتصرفُ بوقاحةٍ تامةٍ، لم تؤثر تلكَ التصرفاتُ في إغناسيا.
في النهايةِ، كانَ ديريان هو من استسلمَ أولًا.
بعدَ أنْ أدركَ الفتى أنَّ هناكَ أناسًا لطفاءَ بلا سببٍ في هذا العالمِ،
بدأ يحاولُ أنْ يكونَ لطيفًا معَ والدتهِ الجديدةِ.
ولحسنِ الحظِّ، عاملتهُ إغناسيا كما لو أنَّ كلَّ تصرفاتِه غيرَ اللائقةِ السابقةِ غيرُ موجودةٍ.
وبمجردِ أنْ أصبحَ مقربًا منها، هي التي كانت أكثرَ شبهًا بالأختِ منْ الأمِّ بسببِ صغرِ سنها،
بدأ يكبتُ في داخلهِ أسئلةً لطالما أرادَ أن يسألها لأنَّهُ كانَ يعرفُ الجوابَ بالفعلِ.
لماذا تزوجتِ الملك؟ لا بدَّ أنَّه كانَ لأسبابٍ سياسيةٍ، مثلَ كلِّ زيجاتِ العائلةِ الملكيةِ.
ورغمَ معرفتهِ بذلكَ، لم يستطع إلا أنْ يسألَ عندما حملت إغناسيا بطفلها الأولِ.
“لماذا اخترتِ الزواجَ من الملكِ؟”
كانتِ الملكةُ تستضيفُهُ في جلسةِ شايٍ هادئةٍ في يومٍ مشمسٍ،
وكانت هذهِ المفاجأةُ غيرَ متوقعةٍ لها.
لكنَّ ديريان لم يستطعْ كبتَ هذا السؤالِ.
كان قد بدأَ لتوِّهِ في تعلمِ كيفيةِ قراءةِ السياسةِ الدوليةِ،
وعرفَ أنَّ إغناسيا لمْ تكن مجبرةً على القدومِ إلى روزينتا.
كانت روزينتا أقوى مملكةٍ يمكنُ أنْ تعقدَ معها بلدُها باريغتون تحالفًا زواجيًا،
لكنَّ الوريثَ كانَ قد تحددَ بالفعلِ.
كانَ منَ الأفضلِ لها أنْ تختارَ ملكًا غيرَ متزوجٍ بدونِ وريثٍ ولكن من بلدٍ أقلَّ قوةً.
كانتْ هناكَ دولٌ في مثلِ هذا الوضعِ. فلماذا اختارت والدَهُ؟
وبينما كان يشربُ الشاي، تملَّكهُ هذا السؤالُ الذي شعرَ أنَّهُ قد يجعلُهُ يبدو غيرَ بارٍّ بوالدهِ.
أجابتِ الملكةُ بابتسامةٍ، “لأنَّ روزينتا مملكةٌ قويةٌ، وظننتُ أنَّ التحالفَ معها سيفيدُ بلدي.”
“لكنَّ الوريثَ موجودٌ بالفعلُ.”
“نعم، هذا صحيحٌ.”
هزتْ إغناسيا رأسَها كما لو أنها لمْ تكنْ تعرفُ، فهزَّ ديريان رأسَهُ باستنكارٍ.
‘يا لها منْ امرأةٍ ساذجةٍ..’ فكرَ في نفسهِ.
“ألمْ تندمي على الزواجِ؟”
“على ماذا؟”
“الزواج منَ الملكِ. إنهُ رجلٌ مسنٌّ ومملٌّ.”
ثمَّ نظرَ إلى بطنِها الذي بدأَ يظهرُ عليه آثارُ الحملِ، “لو تزوجتِ في بلدٍ آخرَ، لكانَ ابنُكِ هو الوريثَ.”
هذا هو ما كانَ ديريان يحاولُ قولَهُ منْ البدايةِ.
لكنَّ الملكة لم تفعل شيئًا سوى أنْ تبتسمَ. كانتْ ابتسامتُها زاهيةً وعابرةً مثلَ شمسِ الربيعِ.
“أنتَ تهتمُّ بأخيكَ الصغيرِ. يا لكَ من فتى طيبٍ.”
“أنا لا أهتم.”
ردَّ ديريان ببرودٍ، رغمَ أنَّهُ شعرَ بحرارةٍ تتصاعدُ في أذنيهِ. ابتسمتْ إغناسيا مرةً أخرى.
بينما كانَ ديريان يراقبُ الملكةَ، التي كانت تبتسمُ كثيرًا،
تساءلَ هل يمكنُ أنْ تكونَ الابتسامةُ موروثةً؟
“لا يهمُّ ذلكَ، يا أميري. فما أهميةُ العرشِ عندما يكونُ لدى طفلي أخٌ رائعٌ مثلكَ؟”
كانَ وجهُها صادقًا لدرجةِ أنَّ ديريان لم يستطعْ سوى أن يتنهدَ.
نظرَ إليها بعينينِ مثقلتينِ.
منْ الصعبِ تصديقُ أنَّ هناكَ أشخاصًا يرونَ العالمَ بهذا القدرِ منَ الإيجابيةِ.
“اسمعي جيدًا، العائلةُ المالكةُ ليستْ بهذهِ اللطافةِ.”
“لكنَّكَ لطيفٌ، يا أمير.”
“الأمرُ ليس كذلكَ. الناسُ الآخرونَ ليسوا كذلكَ. السلطةُ تعني أن
تراقبَ الآخرينَ وتبحثَ عن نقاطِ ضعفِهم.”
“وأيضًا أنا لستُ لطيفًا!”
عندما نطقَ ديريان الجملةِ الأخيرةِ، شعرَ أنها طفوليةٌ للغايةِ فعبسَ وأدارَ وجهَهُ بعيدًا.
“لكن رغمَ ذلك، ستعتني بأخيكَ، أليس كذلك؟”
“حسنًا، ربما.”
كانَ يعلمُ أنَّهُ سيكونُ شقيقًا جيدًا لطفلٍ يشبهُ إغناسيا، رغمَ أنَّهُ لنْ يكونَ كذلكَ مع غيرهِ.
شعرَ بنظرتِها الدافئةِ تتسربُ إلى وجنتيهِ.
“حسنًا، هذا يكفيني.”
كانتْ كلماتُها ناعمةً كالثلجِ الذائبِ في الربيعِ.
ورغمَ أنَّهُ فكرَ للحظةٍ في إعادةِ توجيهِها إلى الواقعِ القاسي مرةً أخرى،
إلا أنَّهُ شعرَ بالذنبِ تجاهَ أخيهِ المستقبليِّ وتراجعَ.
بعدَ كلِّ شيءٍ، لا ينبغي على الأخِ الأكبرِ أنْ يقولَ مثل هذه الأشياءِ باستمرارٍ.
وقبلَ أنْ تتفتحَ أزهارُ الربيعِ في العامِ التالي،
توفيتِ الملكةُ أثناءَ الولادةِ.
الفصل 14 على واتباد LENA_y158