لأجلِ جولييت الجميلة - 11
في اليومِ التالي، عندما فتحتْ عينيها، كان الوقتُ قد اقتربَ من الظهيرة.
ما إن استيقظت من نومِها حتى بدأت جولييت تبحثُ عن ديريان. برؤيةٍ غير واضحةٍ بعد، أمسكت بالخادماتِ اللواتي يساعدنها على النهوض.
“أينَ أخي؟ ألم يأتِ البارحة؟”
ساعدتها الخادمة القريبة، التي كانت تسألُها بلهفة، على الاستناد إلى السرير.
“لقد كان صاحبُ السموِّ هنا حتى الفجرِ ثم عاد إلى غرفته، لذا لا تقلقي كثيراً.”
وبينما كانت الخادمة تهدئُ جولييت بلطفٍ، أحاطت خادمةٌ أخرى عنقَ سيدتِها بقطعةِ قماشٍ بيضاءَ لتجنبِ أن يتناثرَ عليها ماءُ الغسل.
في الماضي، كانت جولييت تغسلُ وجهَها في المكانِ المخصصِ لذلك.
لكنها الآن لم تَعُدْ تستطيع حتى النهوضَ من السرير بسهولة.
كانت تشعرُ بضيقٍ في التنفسِ ودوارٍ بمجردِ أن تمشي قليلاً.
ومع ذلك، كان هذا اليوم أفضلَ حالاً مقارنةً بالأيامِ الأخرى.
تذكرتْ جولييت الليلةَ الماضيةَ، وهي ليلةٌ نادرةٌ لم تعانِ فيها من أرق.
كانت الليالي بالنسبة لها عادةً سلسلةً من الصداعِ والسعالِ المتواصل.
بدأت الخادماتُ يمسحنَ وجهَها الشاحب، الذي لم يعد الدمُ يجري فيه بعد، بعنايةٍ فائقة. شعرت جولييت برائحةٍ خفيفةٍ من الكركم في الماء.
وعلى الرغم من أنها ليست المرةَ الأولى التي تشمُّ فيها هذه الرائحةَ، إلا أنها اليومَ استحضرت في ذهنِها ذكرى الحديقةِ التي تركتها وراءها.
كانت جولييت قد جلبتْ إلى حديقتها العديدَ من نباتاتِ الكركم في الماضي. لم تكن شجرةً، لكنها كانت تزهرُ لعدة سنوات، مما جعلها تُفضِّلها.
وعلى الرغم من أنها لم تكن تهتمُّ بالزهورِ كثيراً، إلا أن ديريان كان يجلبُ لها أندرَ أنواعِ الكركم التي تناسبُ ذوقَها.
كان يهزُّ رأسه قائلاً: “أهذا ما يسعدكِ؟” عندما كانت جولييت تجمعُها في حديقتِها السريةِ بسعادة.
كانت جولييت تحبُّ جميعَ حدائقِها، لكن حديقةَ الكركم كانت المفضلةَ لديها.
كانت تلك الحديقةُ السريةُ التي اعتنت بها منذ طفولتِها، ولم يكن يُسمَحُ لأحدٍ بدخولها إلا الأشخاص المقربون مثل إياسونيا وديريان وأصدقائها المقربين.
ولكن منذ أن جاءتْ إلى هذه الأرضِ، لم تَرَ الكركم. صحيح أن العطورَ كانت تأتي من روزينتا، لكن جولييت كانت تفتقدُ تلك الزهورَ الفاتنة أحياناً.
ربما لو كانت قد طلبتْ من ذلك الرجل، لَجلبَّ لها الكركم بكل سرورٍ بقدرِ ما كانت تجمعه في روزينتا، وربما أكثرَ، لربما كان قادراً على ملءِ عالمِها بأكمله بالكركم.
ومع ذلك، لم تتحدث جولييت قطُّ عن الكركم. وهذا على الرغم من معرفتِها بأنه لم ينسَ حتى زهرةَ السوسنِ التي تحدثت عنها عرضاً.
كان ذلك عناداً طفولياً منها. عنادٌ يقول: “لا أريد أن أخبركَ بما أحب.” فقد كانت جولييت تتمتعُ بالكثيرِ من الكرامةِ والكبرياء.
لكن، عوضاً عن الابتعادِ عنها وتركها وشأنها، كان الرجل يحاول دائماً قراءةَ ما يدورُ في ذهنِها كلما التزمتِ الصمت.
وكان ذلك يجعلها ترغبُ في الصمتِ أكثر.
‘هل ينبغي لي أن أطلب منه رؤيةَ الكركم؟’
فكرت جولييت وهي تشعرُ بأشعةِ الشمسِ المتسللةِ من بينِ الستائر. رغم أن الموسمَ لم يكن مناسباً، إلا أن جلبَ الكركم لم يكن شيئاً صعباً عليه.
ثم ستشكرهُ حينها، ولو لمرةٍ واحدة.
لم يقل ديريان شيئاً، لكن جولييت كانت تعلمُ أنَّ الرجلَ بذل جهداً كبيراً لجلبه من وطنها.
في الأساس، كانت هيرفنتيل أرضَ الرجل. لم يكن هناك شيء يحدث هناك دون إرادته.
عندما انتهتْ من التفكير، أومأت بيدها. اقتربت منها الخادمة وأحنتْ رأسَها.
“هل طلبتِني، سيدتي؟”
“اذهبي وبلّغي الدوقَ أنني أرغبُ في رؤيته.”
كان صوتُها مليئاً بالكراهيةِ كما المعتاد، لكن الطلبَ نفسه كان نادراً، لذا نظرتْ الخادمةُ إليها بتعجبٍ قبل أن تنحني مرةً أخرى.
“أمركِ.”
***
قد تكون فترةُ الانتظارِ قصيرةً، ولكن عندما تكون في حالةٍ من التوترِ، حتى اللحظاتُ القصيرةُ تبدو وكأنها طويلة.
بينما كانت جولييت تشعرُ بتوترٍ غيرِ مبررٍ، مدتْ يدها إلى الجانب.
“ساعديني على النهوضِ.”
وسرحي شعري أيضاً.
لم يكن هناك حاجةٌ لذكرِ الجملةِ الأخيرةِ، فقد كانت واضحة. ابتسمتِ الخادمةُ لرؤية تصرفاتِ جولييت المتوترة، لكنها لم تلاحظ ذلك.
في تلك اللحظة، كانت جولييت منشغلةً بالتفكيرِ في قلبها.
هل كان شعورُها بتحسنٍ اليومَ مجردَ وهمٍ؟ شعرتْ بألمٍ خفيفٍ في صدرها، وكأن تنفسها أصبح أكثرَ صعوبة، وبدأت تشعرُ بصداعٍ خفيف.
ومع ذلك، لم تكن ترغبُ في العودةِ إلى السرير. كان هذا أكثرَ الأمورِ غرابةً في أعراضِها.
بل كان هناك شيءٌ آخرُ يزعجها. بحثتْ جولييت بعينيها عن السبب، ثم فوجئت.
لم يكن هذا من عاداتِها، لكنها وجدتْ نفسها تلعبُ بأصابعِها دون وعي.
“هذا غريبٌ حقًا…”
كان ذلك قولاً مشابهًا لما قالته في وقتٍ سابق، لكن هذه المرةَ لم يكن هناك من يسأل: “ما الغريب في الأمر؟”
الجميعُ كانوا يعرفون السبب. وكان الجميعُ تقريبًا على علمٍ بما يجري، باستثناءِ شخصٍ واحد.
جمعتْ جولييت يديها وأبعدتهما عن بعضِهما، ثم ابتلعتْ ريقَها. رغم أنها شربتْ كميةً كافيةً من الماء، إلا أن حلقَها كان جافاً باستمرار.
في تلك اللحظة، عادتْ الخادمةُ التي أرسلتها في مهمة.
عندما سمعت جولييت صوتَ البابِ يفتحُ، كادتْ أن تظهرَ ابتسامةً على وجهها.
لكنها تمكنتْ من إخفاءِ ذلك بفضلِ تعبيرِها المعتادِ البارد. لم تكن تلك عادةً جيدةً، لكنها كانت مفيدةً في مثلِ هذه اللحظات.
بوجهٍ متجمدٍ ومتكبرٍ، رفعتْ جولييت ذقنَها، وقد بدتْ تماماً كأميرةٍ حقيقية.
“إذاً، ماذا حدث؟”
ترددتْ الخادمة نانيسا للحظة.
كانت الأميرةُ تنظرُ إليها.
لمعتْ عيناها الخضراوانِ الجميلتان.
باستثناء ذلك، كانت تعابيرُ وجهها خاليةً تماماً من أيِّ مشاعر،
لكن نانيسا استطاعت أن تدركَ من هذا التغير الطفيف أن سيدتَها كانت تنتظرُ شيئاً ما.
‘آه، يا أميرتي….’ تأوهتْ نانيسا في سرِّها.
لم تكن تريد أن تخيِّبَ أملَ سيدتِها، خاصةً في هذه الأوقاتِ الصعبة.
هل يجب أن تخبرَها بالحقيقة؟ فكرت للحظةٍ، لكن حتى ذلك كان سيسببُ مشكلة.
تذكرت نانيسا لقائَها مع الدوق.
***
“أخبريها أنه خرج.”
عندما قال الدوقُ ذلك، كان وجهُه شاحبًا بطريقةٍ غيرِ معتادة.
لاحظت نانيسا على الفور أنه لم يكن في حالتِه الطبيعية.
رغم أنه بدا كبيرًا وقويًا كما هو دائماً، إلا أن رائحةً غريبة كانت تفوحُ منه.
كانت مزيجاً من رائحةِ الدم، عشبةِ النوم، والأدوية.
هل أُصيبَ بجروح؟ تملكها هذا التفكيرُ غيرُ اللائق للحظة، لكنها طردته بسرعة.
الدوقُ كان رجلاً قادراً على سحبِ السيف من جسدِه حتى لو تعرَّض للطعن.
هكذا كان حالُ أولئك الذين عاشوا في الحربِ منذُ صغرِهم.
بالإضافة إلى ذلك، أليس هو الابنَ الأكبرَ لعائلةِ إينوفيس؟
الجميعُ يعرف أن السحرَ يسري في عروقِ تلك العائلة.
بينما كان السحرُ قد اندثر في أماكنِ أخرى، كان أبناءُ إينوفيس قادرينَ على استخدامِه كما يشاؤون. وهذا هو السببُ الذي مكَّن ناسانت من الصمودِ أمام العديدِ من الحكام الطغاة.
نانيسا نفسُها شاهدتْ الدوقَ يستخدم السحرَ عدةَ مراتٍ خلال إقامتِها هنا.
كان يجعل المطرَ يهطل في فتراتِ الجفاف،
وعندما يصبح الطقسُ بارداً، كان يُدفئ الجو.
كانت تلك أفعالاً مذهلةً، لكن نانيسا رأت أنها أقرب إلى العجائب منها إلى السحر.
كيف يمكن لإنسانٍ، وليس تنيناً، أن يقوم بمثلِ هذه الأفعالِ التي تتحدى المنطق؟
ومع ذلك، حتى شعورُها بالارتيابِ لم يكن كافياً لإنكارِ قوتِه.
تذكرت نانيسا العديدَ من الشائعاتِ التي كانت تحوم حولَ الدوق.
يُقال إن لديه القوةَ لحرقِ مدينةٍ بأكملِها في لحظة.
لم تكن نانيسا تعتقد أن تلك الشائعاتِ كاذبة.
إذا كان قادراً على إنزالِ المطر، فلمَ لا يستطيع إشعالَ النيران؟
في النهاية، ما كان يهمُّ هو أن لا أحد يستطيع أن يؤذيه.
إلا إذا كان قد آذى نفسه، لكن التفكيرَ بذلك سيكون صعباً.
توقفت نانيسا عن التفكير في هذا الأمر. في النهاية، سيدتُها لم تكن الدوقَ،
بل الأميرةَ الغالية من روزينتا. لقد جاءت نانيسا إلى هنا فقط من أجلِها.
لذا، مهما كان الدوقُ قوياً ومميزاً،
فإن هذه المرأةَ الضعيفةَ التي كانت أشبهَ بزهرةٍ ناعمةٍ كانت أغلى عند نانيسا.
“إخبارُ السيِّدِ بالأكاذيبِ ليس من شيمِ الخدم.”
بغض النظر عن وضعِكَ، فإن كلامَ سيدتي هو الأهم.
كان هذا هو المعنى الضمني لكلامِها. قد يبدو الأمرُ وقحاً بعض الشيء،
لكنها توقعت أن الدوقَ قد يغضب. فالناسُ عندما يكونون مرضى، قد يغضبون من أبسطِ الأمور.
وخاصةً عندما يكون الخادمُ وقحاً.
كان من المفترض أن يصرخَ في وجهِها فوراً. ولكن بدلاً من ذلك، ظلَّ الدوقُ ينظرُ إلى الفراغ دون أن ينبسَ ببنتِ شفة. لاحظت نانيسا خلسةً كيف رمش الدوقُ ببطء بعينيه الزرقاوين.
لم يكن يبدو غاضباً، ولكن نظرته كانت باردةً لدرجة أنها لم تستطع معرفةَ ما كان يفكرُ فيه.
ثم تكلم الدوقُ فجأةً.
“ولكن، أليس من الخطأِ أيضاً إزعاجُ سيدتِكِ؟”
كان كلامُه مليئاً بالدلالات.
للحظةٍ، فكرت نانيسا أن الدوقَ كان أكرمَ مما توقعت.
لقد كان كلامُه ضمنياً أن سيدتَها تهتمُّ لأمرِه و ستنزعجُ من حالته.
‘مستحيل…’
لكنها لم تستطع أن تنكرَ أن تصرفاتِ سيدتِها في الآونةِ الأخيرةِ جعلتْها تشكُّ في ذلك.
قرأ الدوقُ ترددَها، فقال: “رؤيتي في هذه الحالةِ سيكون تصرفًا غيرَ لائق.”
لم تكن نانيسا تعرف وضعَه بالتحديد، لكنها لم تكن تريدُ أن تسببَ أيَّ إزعاجٍ لسيدتِها.
“أخبريها أنني غادرت في وقتٍ متأخرٍ من الليلِ ولم أتمكن من إخبارِها.”
وكأن الدوقَ عرف أنها قررتْ أمرَها، أغلق البابَ بعد تلك الكلماتِ الأخيرة.
نظرت نانيسا للحظةٍ إلى البابِ المصنوعِ من خشبِ الأبنوس، ثم استدارت.
***
عادت نانيسا إلى الواقع بعد رؤية عينيّ سيدتها.
‘اللعنة!’ عضتْ نانيسا على شفتِها.
شعرت أن الشتائم القاسية التي تخلتْ عنها منذ مدةٍ طويلةٍ تكاد تنفلتُ من شفتيها.
رغم أنها بالكاد كانت تستطيع التحركَ، إلا أن الأميرةَ كانت تجلسُ على السرير.
والأسوأ، أنها كانت تنظرُ إليها فورَ دخولِها الغرفة، مما يعني أنها كانت تنتظرُ طوال الوقت.
هل كانت تتوقعُ شيئاً؟
كانت عيناها الخضراوانِ تلمعانِ بقوةٍ لدرجة أن نانيسا
كادت تسألُ دون قصد:”هل كنتِ تريدين رؤيتَه لهذه الدرجةِ، سيدتي؟”
لكن السببَ الوحيد الذي منعَها من ارتكابِ تلك الوقاحةِ
هو أن احترامَها لسيدتِها كان أقوى من رغبتِها.
ابتلعتْ نانيسا ريقَها، وبدأت في التحدث.