لأجلِ جولييت الجميلة - 10
“حقًّا، أهذا أنتَ يا أخي الأكبر؟”
“نعم. إنَّهُ حقًّا أنا.”
“لكن أخي الأكبرُ في روزينتا…”
“ومع ذلك، يمكنني أن آتي لرؤيةِ أُختي الغالية.”
لو كان الأمرُ يتعلَّقُ بأختي الوحيدة،
فما الذي لن أفعَلهُ مِن أجلِها؟
عند سماعِ هذه الكلماتِ، شعرتْ جولييت بِعاصفةٍ من المشاعرِ تجتاحُها،
فانفجَرتْ بالبكاءِ.
لم تستطعْ تصديقَ ذلك. الشخصُ الذي كانت تشتاقُ إليهِ بشدَّة،
والذي لم تتمكنْ من رؤيتهِ ولو لمرةٍ واحدةٍ، يقفُ الآن أمامَها.
خشيةً أن تفقدَهُ، مدَّت جولييت ذراعِيها وأحاطت رقبته.
كانت حرارةُ بشرتهِ دافئةً للغايةٍ.
أحتضنتهُ جولييت بشدةٍ وأنْهارت بالبكاءِ.
‘يا إلهي، إنَّهُ أخي الأكبر حقًّا. أخي الأكبر هنا حقًّا.’
“كنت أعتقد أنني سأموتُ دون أن أتمكن من رؤيةِ وجهكَ، يا أخي.”
“لا تقولي ذلكَ. وأيضًا لماذا تموتينَ؟”
لكن صوتُ ديريان كان يرتعشُ وهو يقولُ ذلك.
شعرت جولييت بالدموعِ تسيلُ على خدِّ أخيها.
الشخصُ الذي تحبُّه كان يبكي من أجلها.
عند التفكيرِ في ذلك، شعرت بشيءٍ ينفجرُ داخلَ قلبِها.
أمسكت عُنقَ ديريان وهمست.
“يا أخي، أرجوكَ عانقني.”
أستجابَ ديريان لطلبها.
بحذرٍ، أحتضنَ جسدها النحيلَ وجذبَّها إليه.
استسلمت جولييت بين ذراعيه التي تخيلتها
في خيالها مراتٍ عديدةٍ وانْهارت في البكاءِ.
كانت الدموعُ أقربَ إلى دموعِ الفرحِ من الحزنٍ،
لكنها كانت تجعلُ تنفسها صعبًا.
نظر ديريان إليها بقلقٍ بينما كانت تلهثُ.
“لا تبكي كثيرًا. قد يؤثرُ ذلكَ على صحتكِ.”
“لكنني لا أستطيعُ التوقفَ عن البكاءِ.”
“يا إلهي. مِن أين ورثت أختي كلَّ هذه الدموع؟”
همس بمزاحٍ وهو يربت على ظهرها ببطء.
أغمضت جولييت عينيها وركزت على اللمسةِ المألوفة.
كان هذا أول شعورٍ بالأمانِ تشعر بهِ منذ سنوات.
بعد أن ربًّت ديريان على ظهرها لفترةٍ طويلةٍ، تمتم قائلاً:
“لقد أصبحتِ نحيفةً أكثر مما كنتِ عليهِ من قبل.”
“لأنني كنتُ مريضةً.”
“هل عانيتِ كثيرًا؟”
كانت كلماتهُ تحملُ شعورًا بالأسفِ والذنب.
وضعت جولييت خدها على صدرهِ الدافئ وأستجمعت أنفاسها.
“لا، كنتُ بخيرٍ.”
كان جوابُها هذا أقربَ إلى الكذبِ من الحقيقة.
على الرغمِ من معرفتهِ بذلك،
لم يُلح ديريان عليها أكثر. كان يعلمُ أنَّها لا تريدُ التحدث بصراحةٍ.
بدلاً من ذلك، أحتضنَ أختَهُ التي لم يرها منذ سنواتٍ بقوةٍ أكبر.
“أنا آسفٌ.”
‘كان يجبٌ أن أكون أقوى. كان يجبُ أن أعصي إرادةَ أبي مهما كلف الأمر.
كان يجب أن أمنعَ هذا الرجلَ من الإقترابِ منكِ…’
“لم يكن ينبغي لي أن أرسلِكِ إلى هذه الأرض.”
كان في الجملةِ الأخيرةِ تنهيدةٌ مكتومة.
عندَ سماعِ اعتذارِهِ، شعرتْ جولييت برغبةٍ في التوقُّفِ عنِ البكاءِ.
كانَ حزنُ الشَّخصِ الَّذي تُحبُّهُ بشدَّةٍ مُتألِّمًا.
ومعَ ذلك، لم تستطعْ حتَّى أنْ تقولَ بشكلٍ كاذبٍ إنَّها بخيرٌ
أو أنَّ الأمورَ كانتْ جيِّدةً، ممَّا زادَ من آلامِها.
الحقيقةُ هي أنَّها لم تكنْ بخيرٍ، ولم تكنْ الأمورُ جيِّدةً.
“لكن، لكنَّكَ أتيتَ لرؤيتي، أليسَ كذلكَ؟…”
كانتْ كلماتُها المُتقطِّعةُ هي أفضلَ ما تستطيعُ قولَهُ.
لحسنِ الحظِّ، لم يستمرْ ديريانْ في الحفرِ في الماضي.
أحتضنَ مُؤخِّرةَ رأسِها بلطفٍ وتنهدَ.
كانتْ تنهدةً تجمعُ بينَ الرَّاحةِ والحزنِ والفَرَحِ.
بعدَ أنْ احتضنَ الشَّقيقانِ بعضُهُما البعضَ لفترةٍ طويلةٍ،
كانتْ جولييتْ هي مَن كسرتِ الصَّمتَ أوَّلًا.
“كيفَ أتيتَ إلى هنا؟”
لوْ جاءَ مِنْ روزينتا إلى حيثُ كانتْ،
سيستغرقُ الأمرُ ما لا يقلُّ عنْ أسبوعينِ للوصولِ.
وكانَ ذلكَ إذا ركبتِ الخيلَ دونَ توقُّفٍ وكانتِ الظُّروفُ مواتيةً.
عادةً، لا يسيرُ أحدٌ بهذه الطَّريقةِ إلَّا في حالةِ الطَّوارئِ أوِ الحروبِ.
بالإضافةِ إلى ذلكَ، ديريانْ هو وليُّ العهدِ،
لذلكَ كان يجبُ عليهِ اتِّباعُ بعضِ الإجراءاتِ حتَّى لوْ كانتْ بسيطةً،
مما يعني أنَّ الرِّحلةَ قدْ تستغرقُ أكثرَ منْ شهرٍ.
لذلكَ، كان منَ المفترضِ على الأقلِّ أنْ يكونَ قدْ غادرَ روزينتا قبلَ ذلكَ بكثيرٍ.
عندما فكَّرتْ في الأمرِ،
لم تكنِ الرَّسائلُ الَّتي تبادلاها في الفترةِ الماضيةِ متطابقةً معْ توقيتِ سفرِهِ.
“يستغرقُ الوصولُ إلى هنا حواليْ شهرٍ،
ولكنْ آخرُ مرَّةٍ تلقيتُ فيها رسالةً منكَ كانتْ قبلَ عشرةِ أيامٍ فقطْ.”
عندما فكَّرتْ في أنَّ الرِّسالةَ الواحدةَ كانتْ تستغرقُ أسبوعينِ للوصولِ،
كانَ منَ الصَّعبِ تجاهُلُ الغرابةِ في الأمرِ.
نظرتْ إلى ديريان بعينَيْها المليئتينِ بالتَّساؤلاتِ.
“لقدْ تمَّ إنشاءُ طريقٍ سريعٍ.”
“ماذا تعنيْ بذلكَ؟”
“تمَّ إنشاءُ طريقٍ سريعٍ يُمكنُ استخدامُهُ للذَّهابِ والإيابِ بينَ روزينتا وهذا المكانِ مباشرةً.
ما زالَ الطَّريقُ قيدَ التَّرتيبِ، لكنَّهُ كافٍ لاستخدامِهِ، لذلكَ سافرتُ عبرَهُ.”
“لكنَّ الحدودَ المجاورةَ للبلدِ ليستْ إلَّا جبالًا…”
كانتِ المنطقةُ الحدوديَّةُ بينَ موطنِها وهيرفينتيل عبارةً عنْ سلسلةِ جبالِ إيفروس.
بالطَّبعِ، لم تكنْ جميعُ الطُّرُقِ وعِرةً،
ولكنَّها لم تكنْ مناسبةً لإنشاءِ طريقٍ ملكيٍّ.
لذلكَ، عندما جاءتْ إلى هنا، لم تسافرْ عبرَ هذهِ الأرضِ.
هلْ مِنَ الممكنِ أنَّهمْ أنشأوا طريقًا يمرُّ عبرَ بلدٍ آخرَ؟
فكَّرتْ في ذلكَ لِلحظةٍ،
ولكنْ لم يكنْ هناكَ أيُّ ملكٍ في العالمِ سيقبلُ بمثلِ هذا الشَّيءِ.
فالطَّريقُ الَّذي يخترقُ البلدَ كان مسألةً تتعلَّقُ بالأمنِ القوميِّ.
لم يكنْ منَ الممكنِ أنْ يكونَ الأمرُ هذا قدْ فاتَ المسؤولينَ
الَّذينَ أمضوا حياتهمْ في السِّياسةِ وأدركَها شخصٌ جاهلٌ في السِّياسةِ مثلَ جولييت.
نظرَ ديريانْ إلى شقيقتِهِ الَّتي كانتْ تُحاولُ التَّفكيرَ في الأمرِ،
وقالَ بعينَيْنِ مليئتينِ بالحنانِ:
“لم يعُدِ الأمرُ كذلكَ. هلْ تتذكرينَ دولةَ ميلسين
الَّتي كانتْ تقعُ بينَ الإمارةِ وروزينتا؟”
“نعم.”
مرَّتْ جولييتْ منْ خلالِ أرضِ ميلسين مرَّةً واحدةً،
عندما جاءتْ إلى أرضِ الرَّجلِ.
رغمَ أنَّها كانتْ أوَّل مرَّةٍ تطأُ فيها قدمَيْها أرضًا غريبةً،
إلَّا أنَّ جولييتْ في ذلكَ الوقتِ لمْ تنظرْ حتَّى خارجَ النَّوافذِ.
كانَ جسدُها مريضًا، ولكنْ عزَّةُ نفسها جعلتها تتجاهلُ العالمَ الخارجيَّ.
الآنَ فقط، بدأتْ تشعرُ ببعضِ النَّدمِ على ذلكَ.
“لقدْ باعتْ تلكَ الدَّولةُ جزءًا منْ أراضيها.
كانتْ صفقةً غيرَ عاديَّةٍ، لكنَّهمْ فعلوا ذلكَ.”
استمرَّ ديريان في الحديثِ بصوتٍ هادئٍ، وفجأةً عبسَ قليلًا.
“هلْ يعقلُ أنَّكِ لا تعرفينَ شيئًا عن هذا؟”
‘ما الَّذي يعنيهِ بذلكَ؟’ رفعتْ جولييتْ عينَيْها ببطءٍ.
“حقًا، يبدو أنَّكِ لم تكونيْ تعلمينَ أيَّ شيءٍ، أليسَ كذلكَ؟”
“نعم.”
“غريبٌ، على ما أذكرُ، كانَ اسمُ تلكَ الأرضِ هو-…”
“آهْ، لا. دعينا لا نتحدَّثْ عنْ هذا….”
حركَ رأسَهُ قليلًا بالنَّفيِّ ومرَّرَ يدَهُ عبرَ شعرِها ليعيدَ ترتيبَهُ.
رفعتْ جولييت عينيها الخضراوينِ، اللَّتينِ تحملانِ نفسَ لونِ عينَيْهِ،
لتنظرَ إليهِ بينما كانتْ تستسلمُ بهدوءٍ للمستهِ.
“هلْ هناكَ شيءٌ يجبُ أنْ أعرفَهُ؟”
“لا، لا داعيَ للقلقِ.”
كانتْ تلكَ عادةُ ديريان.
كلَّما ظهرتْ مشكلةٌ معقَّدةٌ قليلًا في روزينتا،
كانَ يقولُ لها نفسَ الشَّيءِ.
“لا حاجةَ للقلقِ، ما دمتُ هنا، لماذا تشغلينَ بالَكِ بهذهِ الأمورِ؟”
بعضُ الأشخاصِ قالوا إنَّ تصرُّفاتَهُ تلكَ كانتْ تُعدُّ تعدِّيًا على حرِّيَّةِ جولييت.
لكنَّها لم تهتمْ بذلكَ. فقد اعتادتْ على هذا منذُ طفولتِها،
ولم تكنْ ترغبُ في معارضةِ ما يُريدُهُ أخوها الوحيدُ.
ولم يكنْ منَ المرجَّحِ أنْ يقومَ ديريان بشيءٍ قدْ يضرُّها.
لكنَّ والدهُما لم يكنْ راضِيًا عنْ تصرُّفاتِ أخيها.
صحيحٌ أنَّ القربَ بينَ الإخوةِ أمرٌ جيِّدٌ، لكنَّ ديريان كانَ وليَّ العهدِ.
وكانَ عليهِ أنْ يلتزمَ بما يفرضُهُ عليهِ موقعُهُ كوليٍّ للعهدِ.
ولهذا السَّببِ تلقَّى دائمًا تلكَ التَّحذيراتِ.
“إذا أظهرتَ حبَّكَ لها بشكلٍ مفرِطٍ، قد ينقلبُ ذلكَ عليكَ.”
عندما كانتْ جولييتْ طفلةً،
قالَ والدُها تلكَ الكلماتِ بينما كانَ يشاهدُ ديريانْ وهو يحتضنُ أختَهُ الصَّغيرةَ بإصرارٍ.
كانتْ كلماتٌ قاسيةٌ، لكنَّ ديريانْ لم يبدِ اهتمامًا كبيرًا بها،
على الأقلَّ هذا ما بدا لجولييتْ.
“والدُنا شخصٌ دائمُ القلقِ.”
قالَ ذلكَ وهو يحملُ أختَهُ على كتفيهِ بينَما كانا يسيرانِ في الحديقةِ.
في ذلكَ الوقتِ، كانتْ جولييت مشغولةً بمحاولةِ إمساكِ البراعمِ على الأشجارِ
التي لم تكن تصل إليها عادةً، فلم تستطع أن ترد بشكلٍ مناسبٍ.
لكنْ ديريان استمرَّ في الحديثِ.
“لكنني لستُ مثلَهُ. بالطبع، أنا أيضاً أقلقُ بشأنِ بعضِ الأمورِ،
لكنني على الأقل لا أقولُ مثلَ هذهِ الأشياءِ أمامَكِ.”
ثمَّ سألت جولييت وهي ممسكةٌ بغصنٍ يحتوي على أزهارٍ بيضاءَ.
“هل تقلقُ أنتَ أيضاً يا أخي؟”
“بالطبع، فأنا إنسانٌ.”
“ما الذي يقلقُكَ؟”
“حسناً، حالياً، أنا قلقٌ من أن تتأذَّى يداكِ الجميلتانِ.”
“فالأفضلُ ألا تلمسي الأشياءَ مباشرةً.
إذا كانت هناكَ زهرةٌ جميلةٌ، أطلبي مني أن أقطفها لكِ.”
وبمجرد أن قال ذلك، التفَّ الفارسُ الذي كان يتبعُهُما وقطفَ لها الزهرةَ.
كانتِ الزهرةُ البيضاءُ والحمراءُ التي
قطفها هي ما كانتْ جولييت ترغبُ فيها،
لكنَّها حينما وصلتْ إلى يديها، فقدتِ اهتمامَها بها.
دحرجتْ جولييت الزهرةَ البيضاءَ والناعمةَ في راحةِ يدها
قليلاً ثم وضعتها خلفَ أذنِ ديريان.
“أعتقدُ أنَّها تناسبكِ أكثرَ مني.”
غمغمَ ديريان بذلك، لكنَّه لم يزلِ الزهرةَ حتى حلولِ المساءِ.
حتى في قاعةِ الطعامِ، ظلَّ يحتفظُ بها، و حتى عندما سأله الملكُ عنْ سببِ وجودِ الزهرةِ
وتنهدَ بعدَ سماعِ الإجابةِ فأنَّ ديريان لم ينزعِ الزهرةَ التي قدمتها لهُ أختُهُ الصَّغيرةُ.
تمتمتْ جولييت، وهي تذكرُ الماضيَ لوهلةٍ،
“أخي.”
“نعم.”
“أنا سعيدةٌ جداً لأنني استطعتُ رؤيتكَ، وأن أكونَ معكَ بهذا الشَّكلِ.”
في تلكَ الليلةِ، همستْ جولييت بذلكَ طويلاً.
ديريان، رغمَ أنَّه أضطرَّ أن يغيِّرَ وضعيةَ أختِهِ المنهكةِ عدَّةَ مراتٍ،
إلَّا أنَّه لم يتركْ جانبَها أبداً.