كنتُ الحب الغير متبادل للبطل - 004
لم ينطِق بكلمة، لكنَّني شعرتُ بالارتياح وأنا أراقب التجاعيد التي كانت تملأ جبينَه تتلاشى تدريجيًّا. غمرني شعورٌ بالطمأنينة، ممتزجٌ بسعادةٍ خفيَّة.
أطلق تنهيدةً خفيفة ووضع فنجان الشاي جانبًا، ثم عاد ليركِّز مجدّدًا على الوثائق أمامه.
ليتَه يقول شيئًا مثل: “إنه حُلو” أو “طعمه خفيف”، مجرّد كلمة واحدة!
لكنَّني لم أكره هذا الجانب من شخصيّته. في الواقع، لهذا السبب سهرتُ حتى وقتٍ متأخّر لأكمِل قراءة القصة حتى النهاية.
في الأصل، كان حادَّ الطِّباع ومغرورًا لدرجة أنَّه بدا أشبه بمعتلّ نفسي. إلى أن ظهرت تلك المرأة ذات الشعر الذهبي من عائلة الماركيز الجنوبية وأذابت الجليد في قلبه.
أُعجِبت بالطريقة التي خاطر فيها بكلِّ شيء من أجل الحب، وكيفيَّة تخلِّيه عن كبريائه استجابةً لمشاعره.
لأنَّني كنتُ أعرف شخصيّته مسبقًا، لم أشعر بالاستياء من تصرّفاته.
إلى جانب ذلك، كان واضحًا أنَّ شاي القرفة قد أعجبه.
بدا أكثر راحةً بعد شربه الشاي، وحتى هالته أصبحت مختلفة.
لا أستطيع وصفه، لكنَّه بدا أكثر استرخاءً وصحّة مما كان عليه قبل قليل.
ما جعل قلبي يخفق أكثر هو إدراكي أنَّ معرفتي بالقصة الأصليّة لها فائدة فعلية. كان الأمر وكأنَّني اكتسبتُ قوّة خارقة.
بينما كنت أُحدّق بصمت في مكتبه، خرجت الكلمات من فمي فجأةً دون وعي:
“هل أُساعدك؟ تبدو مشغولًا.”
أوه، يا لي من حمقاء…
ازدادت تجاعيد حاجبي الدوق كايرون عمقًا.
بتأثير الحماس، تفوَّهت بكلمات لم يكن ينبغي أن تصدر عن خادمة متحفّظة كأرييلسا. شعرتُ حينها بعرق بارد يتسلّل على ظهري.
في القصة الأصليّة، كانت أرييلسا فتاةً خجولةً وصامتة وغير لافتة، أشبه بظل لا يكاد يُلحظ.
لم يكن من الممكن أن تُبادر خادمة مثلها بالحديث عن مساعدة الدوق في شؤونه الإدارية.
ولكن بما أنَّ الكلمات قد خرجت بالفعل، لم يكن أمامي سوى المُضيّ قُدمًا.
نظرت بسرعة إلى السجلات الموجودة أمامه وقلت بصوت متعجّل:
“إذا كان الأمر متعلِّقًا بموازنة الحسابات، يمكنني المساعدة.”
وما إن أدركت جرأتي، أضفت بصوت خافت متردِّد بالكاد يُسمع:
“أ-أعني، إذا لم يكن الأمر صعبًا جدًّا.”
إلّا أنَّ دوق كايرون لم يكن من النوع الذي يترك الأمور تمر بسهولة مع عبارة مثل “أوه، حقًا؟”. وفي حالة من الذعر، استمررت في الحديث بلا توقّف، كأنَّني قطع دومينو تتهاوى.
وبعد لحظة من الصمت، رفع يده عن السجلات ونظر إليَّ مباشرةً بتعبير خالٍ من الرضا.
“ما مدى كفاءتك برأيك؟”
شعرت بيديَّ تتعرّقان.
كنت لديَّ القدرة على فهم الأرقام والكلمات في السجلات، بل وحتى ملاحظاته الجانبية التي كتبها كانت كافية لفهم المشكلة.
لكنَّ المشكلة كانت في اندفاعي المُتهوِّر في البداية.
“أليست المشكلة أنَّ سجلات الضرائب لا تتطابق مع مخزون المستودعات؟”
نظر إليَّ باندهاش خفيف، وكأنَّه لم يتوقّع أن أفهم المشكلة.
لكن عوضًا عن الإعجاب، كان مزيج من الشك والانزعاج يملأ وجهه.
من الطبيعي أن يكون متشكّكًا؛ فمنذ صغره تلقّى تعليمًا راقيًا، وها أنا، خادمة، أتدخّل في أمر يعجز هو عن حلّه بسهولة.
لكنَّه لم يغضب، بل تحدّث بصرامة:
“الحبوب تنكمش بشكل طبيعي مع مرور الوقت، كما أنَّ الجرذان تأكل كميّة كبيرة منها. حتى الآن، كنّا نفحص المستودعات في الربيع ونسجِّل الخسائر في ذلك الوقت، لكنَّني أريد القضاء على هذه الثغرة.”
“لأنَّك لا تستطيع التمييز بين الخسائر الطبيعية والسرقة؟”
نظر إليَّ مباشرة وأومأ برأسه. يبدو أنَّني أصبت الهدف.
وبينما شعرت براحة طفيفة، قال بنبرة باردة وكأنَّ الأمر في غاية البساطة:
“إذا فشلتِ، سأعاقبك.”
يا له من طبع صعب…
لكن بما أنَّني وضعت نفسي في هذا الموقف، لم يكن أمامي سوى تجاهل انزعاجي والتركيز على الدفاتر.
ببطء، بدأت أفهم المشكلة بشكل أفضل.
كان الدوقُ كايرون يدقِّق في سجلات الحساب التي أعدَّها المسؤولون الإداريون. في مكان تُعد فيه الحبوب عملةً أساسية، كانت خسائرها مسألةً بالغة الأهمية.
لكن بالنسبة لي، لم يكن هذا أصعبَ من مسألةٍ حسابيّةٍ بسيطة.
ابتسمتُ بثقة، فوقف الدوق تاركًا كرسيّه لي. كان يراقبني بنظرةٍ حادّة، وكأنّه يفكّر في العقاب الذي سينزله بي، لكنّني جلستُ على مكتبه وكأنّني تحت تأثير سحر.
شعرتُ بدفء الكرسي الذي كان يجلس عليه، فتسارع نبض قلبي. لكنّني هززتُ رأسي بقوّة لأعيد تركيزي إلى السجلات.
في هذا العالم، كانت الرياضيات تقتصر على العمليات الحسابيّة البسيطة، لذا بدا تسجيل الحبوب التي تختفي “بلا أثر” أمرًا معقّدًا.
بدأتُ أولًا بالتحقّق ممّا إذا كانت هناك خسائرُ متعمّدة. كانت السجلات أكثر تنظيمًا ممّا توقّعت، لذلك لم يكن العثور على الأرقام التي أحتاجها أمرًا صعبًا.
خلال ذلك، كان الدوق جالسًا على الأريكة، واضعًا ساقًا فوق الأخرى، يحتسي شاي القرفة الذي أعددته له برضاٍ واضح. ومع ذلك، لم تكن نظرته تجاهي ودّيّةً على الإطلاق.
بمرور الوقت، أدركتُ أنّ المسألة كانت مجرّد مشكلةِ نسب. من خلال الحساب، اكتشفتُ أنّ معدّل فقدان الحبوب كان متشابهًا تقريبًا في جميع المخازن.
لو كان هناك مَن يسرق الحبوب، لظهر معدّل فقدانٍ غير متوازن في أحد المخازن، لكن هذا لم يحدث.
قد يتبادر إلى الذهن أنّ السارق ربّما أخذ كميّاتٍ متناسبة من جميع المخازن، لكنّ المخازن كانت متباعدة جغرافيًّا، ولكلٍّ منها مسؤولٌ مختلف.
بالإضافة إلى ذلك، من غير المنطقي أن يتمكّن السارق من فهم الحسابات المعقّدة لدرجة سرقة نسبٍ محدّدة بعناية دون أن يتم كشفه.
وهكذا، تأكّدتُ من أنّ مخازن الحبوب كانت خالية من أيّ تلاعب.
قلت بثقة: “لقد أنهيتُ المهمّة، سيدي الدوق.”
رفع الدوق حاجبَيه قليلًا ووضع فنجان الشاي جانبًا، رغم أنّ ملامحه كانت توحي بعدم الرضا. ومع ذلك، لم يُصدر الفنجان أيّ صوت عند ملامسته الطاولة، ممّا عكس مدى تحكّمه في أعصابه.
عندما عاد إلى مكتبه، نهضتُ بسرعة من الكرسي ووقفتُ بجانبه.
جلس وبدأ يتفحّص الجدول الذي أعددته، حيث قمتُ بمقارنة إيرادات الضرائب، ومعدّل الفقد المتوقّع، والمخزون الفعلي.
بأقصى درجات الحذر، شرحت له:
“معدّل الفقد في الحبوب يبلغ نحو 3% في المتوسّط. يمكنكم تسجيل هذه النسبة كخسائر حاليّة، وعند جمع الضرائب في المستقبل، يمكنكم أخذ هذه النسبة في الاعتبار، ممّا يسهل إدارة المخازن العام المقبل…”
رد بهدوء: “لا يوجد لصوص في ممتلكاتي إذًا.”
أجبت بابتسامة محرَجة: “مَن يجرؤ على سرقتك يا سيدي الدوق؟”
وأثناء محاولتي التراجع ببطء، تجمّدت تحت نظرته الثاقبة.
“من أين تعلّمتِ طريقة الحساب هذه؟”
توقّفتُ للحظة، متردّدة. كنت قد نسيتُ تمامًا أن أجد عذرًا مقنعًا لهذه المهارة المفاجئة، وشعرتُ برغبة في ضرب رأسي.
“لا تقولي إنّكِ موهوبة في الحساب. أنا أعلم أنّكِ لم تستطيعي حفظ جدول الضرب حتى بلغتِ العاشرة.”
وفقًا للذاكرة المستعادة عن حديثه، كان “جدول الضرب” في هذا العالم يشبه جداول الحساب الأساسيّة لدينا.
يا إلهي…
بينما كنت أحاول استيعاب كلماته، بدأت ذكريات طفولة أرييلسا تظهر في رأسي. كانت ذكريات لم تُذكر في القصة الأصليّة، لكنّها تخص حياتها كشخصيّة إضافيّة.
كانت الذكريات تحمل طابعًا إيجابيًّا، لكن من منظوري، كان ماضي أرييلسا المبهج سلسلة من المواقف المحرجة.
شعرت بالإحراج، وتحوّل وجهي إلى اللون الأحمر، لكنّني حاولت الرد بصوت متلعثم:
“ك-كيف يمكنك التحدّث عن أمورٍ محرجة كهذه؟”
لكن شكوك الدوق لم تتبدّد، بل استمرّت نظرته الحادّة موجّهة نحوي.
“أرييلسا، لم تخجلي يومًا من جهلك. أتذكّر جيدًا كيف كنتِ تجلبين إطار التطريز إلى دروسنا وتبدأين بالحياكة بدلًا من الاستماع.”
يا إلهي…
يبدو أنّ أرييلسا لم تكن تهتم بالدراسة إطلاقًا. لم يكن هناك مفرّ هذه المرّة.
شعرت بالدموع تملأ عيني وقلت بسرعة:
“كنت أستمع أثناء التطريز! استخدام اليدين يساعدني على التركيز أكثر، يا سيدي الدوق.”
“كنتِ تستمعين للدروس أثناء التطريز؟”
حتى أنا شعرت بأنّ عذري سخيف للغاية.
لكن بدلًا من السخرية منّي، علّق ببرود: “إذًا، أنتِ عبقريّة.”
حاولت التفكير في أحداث القصة الأصليّة لاستيعاب الموقف.
عندما بدأ الدوقُ الصغيرُ دروسَه الأولى في الرابعة من عمره، كان معلموه الخاصّون قلقين بشدّة. إذ كان يحدّق من النافذة دون اهتمامٍ بالدرس، متجاهلًا حتى الأطفال الذين جاؤوا للعب معه.
لكن عندما أدرك كايرون الصغير أن المعلمين لن يتركوه وشأنه، اكتفى بتكرار كلّ ما قالوه منذ البداية، كلمةً بكلمة. كانت تلك طريقته لإخبارهم بالتوقّف عن إزعاجه.
تجاهله للأطفال الآخرين لم يكن سوى نتيجةٍ لفجوةٍ في القدرات العقلية بينهم.
بالطبع، أصيب المعلمون بحماسٍ شديد وهرعوا لإبلاغ الدوق السابق بأن ابنه عبقري.
في الوقت ذاته، وقعت حادثة اشتبك فيها بعض الصبية مع الدوق الصغير، مما دفع الدوق السابق، بعد تفكيرٍ عميق، لإلغاء فكرة جلب زملاء لعب له.
لكن الدوقة أبدت قلقًا كبيرًا وأصرّت على تعيين فتاةٍ على الأقل لتكون بجانبه، وهكذا وقع الاختيار على أرييلسا.
منذ ذلك الحين، تم تصميم الدروس لتناسب مستوى ذكاء الدوق الصغير، وتم تقديمها كدروسٍ خاصة. أمّا أرييلسا، فكانت تحضر الدروس معه لكنّها تُكلَّف بمهام بسيطة تناسب مستواها العام.
بالنسبة لفتاةٍ هادئةٍ وعادية تحضر دروسًا مع عبقري، كان من الطبيعي أن تشعر بالملل، فتلجأ إلى التطريز.
ومع ذلك، كلمات الدوق التي بدت وكأنّها تحمل سخريةً، كأنّه يقول:
“كيف يمكن لعبقريٍّ مثلي أن يفشل في التعرّف على عبقريةٍ مثلِك؟”
جعلت العرق البارد يتصبّب على ظهري.
بما أن كل محاولاتي للتهرّب قد باءت بالفشل، قررت أن أتعامل مع الأمر بجرأةٍ هذه المرّة.
“لقد قلت إنّك ستعاقبني إن لم أتمكّن من الحساب، ولكنّك وبّختني حتى بعد أن قمت به بشكلٍ جيّد…”
توقّفت عن الحديث، وصوتي يرتجف قليلًا كما لو أنّني على وشك البكاء، على أمل أن أثير شفقته.
ضغط الدوق كايرون شفتيه معًا، وظهر تعبير صارم على وجهه. وكان التجعّد الطفيف في حاجبيه يشير إلى أنّه قد يشعر ببعض الذنب.
ثم استقام في جلسته، مظهرًا هيبته بكل أناقة، وقال بلهجةٍ حازمة:
“أرييلسا، تلقّينا اتّهامًا بأن رومني، الإداري المسؤول عن مخزن البورسلين، قد ارتكب عدّة سرقات. لقد أثبتِّ براءته للتو.”
“ماذا…؟”
كانت كلماته مفاجئة للغاية.
إذًا، لم تكن المسألة مجرّد إدارة مخزون بسيطة؟
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
ترجمة : اوهانا
انستا : Ohan.a505
الواتباد : Ohan__a505