قصة لقائي بك، أنا الذي تبقى لي عام واحد للعيش، وأنتِ التي تبقى لك ستة أشهُر - 003
مع بداية فصل الصيف، باغتتني آلام حادة في ظهري لم أستطع تحملها، وانتهى بي المطاف في سرير المستشفى مرة أخرى.
كشفت الفحوصات أن الورم الذي كان يتشبث بقلبي قد تمدد ليغزو عمودي الفقري. أدركت حينها أن النهاية لم تعد بعيدة. ومع ذلك، لم أشعر بالخوف أو الصدمة. لقد هيأت نفسي منذ زمن طويل لفكرة الموت. كان إحساسي مختلفًا تمامًا عمّا شعرت به عندما كانت فكرة الموت غريبة وبعيدة عني.
هذه ليست المرة الأولى التي أجد نفسي محاصرًا بجدران المستشفى، لكن العزلة هنا كانت قاتلة. وللمفارقة، وجدت نفسي في ذات الغرفة التي كانت “هارونا” تقضي فيها أيامها الأخيرة.
قضيت وقتي بين صفحات مدونتها، أقرأ كلماتها مرارًا وتكرارًا، أو أتأمل صورها التي التقطتها في لحظات خفية، وأحيانًا كنت أطلب من أمي أن تجلب لي دفتر رسم لأغرق في عالمي الخاص، محاولًا نسيان ثقل اللحظات.
كان “شوتا” و”إيري” يزورانني حاملين أزهار الجربيرا، يبذلان جهدًا في إضفاء لمسة من البهجة على وحدتي. وحتى “ميورا” كانت تأتي أحيانًا، لكنها في إحدى المرات غادرت غاضبة دون سبب واضح. تساءلت إن كنت قد قلت شيئًا أثار حفيظتها، لكنني قررت ألا أرهق نفسي بالتفكير.
في أحد الأيام الممطرة، جاءت “ميورا” مرة أخرى. تحدّثنا لبعض الوقت، لكن فجأة ظهر الغضب على وجهها وغادرت كما فعلت سابقًا. لم أعرف السبب، لكنني كنت متأكدًا أنها ستعود مجددًا، كما اعتادت.
في لحظة ملل شديد، وقعت عيني على مقالات مغلقة في مدونة “هارونا”، تلك المقالات المحمية بكلمة مرور. بدأت محاولة فك شفراتها. جربت كل ما خطر ببالي من أرقام، لكن الحظ لم يحالفني. ثم فكرت: ربما تكون الأرقام لها علاقة بعيد ميلادها أو ذكرى مهمة.
وبمعجزة ما، نجحت في فك الحماية. ما وجدته كان صدمة. “هارونا” كانت تعرف كل شيء عن مرضي.
ورغم علمها، اختارت الصمت، وفضلت التظاهر بعدم المعرفة. كانت تعلم أن البوح بالحقيقة سيزيد ألمي، ولذلك آثرت حمايتي بطريقتها الصامتة.
بين سطور كلماتها، شعرت بحنانها الخفي، بلمستها الإنسانية التي لم تكن تحتاج إلى شرح. امتلأت عينيّ بالدموع وأنا أكتب تعليقًا أخيرًا على كل ما كتبته، وكأنني أكتب رسالتي الوداعية لها.
في نهاية اليوم، تمددت على السرير ورفعت نظري إلى السقف الأبيض، الذي كانت “هارونا” تحدق فيه ذات يوم. تساءلت: ما الذي تراه الآن؟ أين أصبحت؟ غمرني شعور غريب، وسقطت دمعة وحيدة من عيني، كمشهدٍ يُنهي فصلًا مؤلمًا من رواية حزينة.
مرت الأيام. زارني “شوتا” و”إيري” مجددًا. أحضرا زهور الجربيرا التي اعتادا تقديمها لي.
“كيف حالك الآن، أكـــيتو؟”
“لا بأس… أحاول التماسك.”
لكن الحقيقة كانت مختلفة.
في المساء، عرضا عليّ مشاهدة الألعاب النارية من نافذة غرفتي، لكنني رفضت. لم أستطع أن أكون عائقًا في موعدهما الجميل. وبعد أن غادرا، جاءت “ميورا” حاملة ست زهرات من الجربيرا. جلست بجانبي. لم أُخبرها أبدًا بمعنى العدد. لم أشأ أن أبدو كما لو أنني أعيش في ذكريات الماضي، أو أن أسمع تعليقاتها الساخرة.
جلسنا نراقب الألعاب النارية معًا. ورغم لحظة الجمال تلك، تمنيت لو كانت “هارونا” هي التي تجلس بجانبي، لكنها كانت أمنية صامتة أبقيتها لنفسي.
بعد بضعة أيام، تقرر خروجي من المستشفى، لكن ذلك لم يكن سوى هدنة قصيرة. قررت زيارة قبر “هارونا”، برفقة “ميورا”، قبل أن تزداد حالتي سوءًا.
اشترينا ثلاث زهرات من الجربيرا من محل الزهور الذي كان مألوفًا لي. كنت أعرف تمامًا معنى تلك الزهرات الثلاث، لكنني احتفظت به لنفسي…
عاد المرض ليأخذني في دوامة متكررة من الدخول والخروج من المستشفى. ومع تدهور حالتي، كنت أشعر أن عالمي يتلاشى تدريجيًا.
تراجعت الاتصالات من “آوي”، حتى أصبحت نادرة. كان الأمر متوقعًا؛ الجميع ينسى في النهاية.
كنت أجلس على سطح المستشفى أراقب غروب الشمس، وأنا أفكر في الحقيقة الموجعة:
ليس الموت هو ما يخيفني، بل فكرة النسيان.
“هارونا” كانت تشعر بنفس الشيء. “الخوف من أن تصبح وحيدًا حتى بعد الموت.” الآن فقط، أدركت عمق كلماتها.
تسللت دموع صامتة إلى وجهي. نظرت إلى الأفق وابتسمت رغم الألم. لقد تركت جزءًا مني في عالمهم، حتى لو كان صغيرًا.