قصة لقائي بك، أنا الذي تبقى لي عام واحد للعيش، وأنتِ التي تبقى لك ستة أشهُر - 002
في اليوم التالي، واصلت “آوي” عطاءها الهادئ الذي لم يعرف انقطاعًا. كنت أشعر بالذنب تجاهها، لكنها بدت مصممة على دعمها، بينما أنا عاجز عن تغيير شيء، فآثرت الصمت.
عقب انتهاء الدروس، دعتني آوي لزيارة المتحف الفني. لم أتردد في قبول دعوتها؛ فقد كنت أخطط لذلك منذ زمن، وها هي الفرصة جاءت دون ترتيب. مدرستنا كانت على مقربة من المتحف، فسرنا معًا تحت دفء شمس خريفية، وقالت وهي تنظر للأفق:
“مشاهدة الأشياء الجميلة دائمًا ما تهدئ الروح.”
عندما وصلنا إلى المتحف، وجدناه يعج بالزوار، إذ كان يحتضن معرضًا لفنان شهير. رغم الزحام، شعرت كما لو أن تلك اللوحات تسحب شيئًا من توتري، وكأنها تهدئ صخب داخلي لا يُرى.
بينما كنت أتأمل إحدى اللوحات، ناداني صوت مألوف من خلفي:
“هاياساكا! مضت فترة طويلة، كيف حالك؟”
استدرت لأجد شابًا يبتسم لي، لكنه بدا غريبًا. حاولت استعادة ملامحه، لكن عبثًا.
“عذرًا، من أنت؟”
ردَّ بحماس يشوبه شيء من الخيبة:
“أنا تاكادا! ألا تتذكرني؟”
“آسف، لا أستطيع.”
ثم فجأة، وضع نظارته على عينيه، وكأنما بذلك يستعيد هويته الضائعة:
“الآن؟ هل تتذكرني؟”
عندها فقط تذكرت. قلت بارتباك:
“آه، تاكادا… نعم، الآن أذكر.”
ضحك وقال:
“أخيرًا! كنت قلقًا أنك نسيتني تمامًا.”
أخبرني أنه انتقل إلى العدسات اللاصقة منذ الجامعة، لكن الحديث لم يثر اهتمامي، فأنهيناه سريعًا. ابتعدت عنه وأنا أشعر بعدم الارتياح.
“كان يبدو سعيدًا برؤيتك. هل هو صديقك؟” سألتني آوي وهي تنظر إليه من بعيد.
“لا، مجرد زميل قديم.”
هزت رأسها وقالت بابتسامة خافتة:
“غريب.”
بعد انتهاء زيارتنا، أوصلتها إلى محطة القطار. مشيت عائدًا إلى المنزل، محاولًا تجنب التفكير في لقائنا غير المتوقع.
***
في صباح اليوم التالي، داهمتني الحمى، فالتزمت السرير لثلاثة أيام. شعرت بإرهاق يسري في عروقي وكأن جسدي ينهار ببطء. كنت ألاحظ منذ مدة أن حالتي الصحية تتدهور، وكأن شيئًا غامضًا يجرني نحو الهاوية.
خلال فترة غيابي عن المدرسة، تلقيت رسائل عديدة من آوي، مليئة بالقلق والاهتمام. كانت تظن أنني غارق في ظلام نفسي، لكنها لم تدرك أنني بالكاد أحمل طاقة لأوضح لها خطأ اعتقادها.
***
مع بداية عطلة نهاية الأسبوع، شعرت بتحسن طفيف. التقيت “ميورا” في أحد المقاهي الصغيرة. تحدثنا طويلًا عن “هارونا”، تلك التي أصبحت ذكرى تحمل فرحًا ممزوجًا بألم عميق.
بعد ساعتين من الحديث، افترقنا. لاحظت أنها كانت تحمل في عينيها قلقًا صامتًا، كأنما أرادت قول شيء، لكنها ترددت.
***
في إحدى الحصص الدراسية، رفعت آوي رأسها فجأة مندفعة بالسؤال:
“لماذا ترسم؟”
كان سؤالها مباشرًا ومباغتًا. ترددت قبل أن أجيب:
“لِمَ أَرسم؟ لا أعلم…”
ابتسمت بخفة وقالت:
“أحب أن أسأل الرسامين هذا السؤال. دائمًا ما أحصل على إجابات مختلفة ومثيرة.”
قلت بابتسامة خجولة:
“ربما أرسم لأن الورقة والقلم موجودان… ألا يكفي ذلك؟”
ضحكت وقالت:
“إجابة سمعتها من قبل، لكنها مثيرة للاهتمام!”
بعد لحظة من التفكير أضفت:
“ربما أرسم للهروب من الواقع… للتعبير عما بداخلي. هناك مشاعر لا يمكن للكلمات أن تحتضنها، لكنها تجد طريقها على الورق.”
تأملتني وقالت بحماس:
“هذا بالضبط ما أشعر به! الرسم هو صوت الصمت.”
كانت حماستها تجذب الانتباه دائمًا، حتى أن المدرّسة نظرت إليها بتوبيخ، لكنها استمرت بابتسامة خجولة، وأكملت:
“عندما أرسم وأنا حزينة، أشعر أنني أضع مشاعري أمامي. أراها بعينيّ.”
قلت مبتسمًا:
“لم أتوقع أنك تفهمين هذا الشعور… بالنسبة لي، الرسم في لحظات الغضب يبدو حادًا، لكن في الحزن، يتحول إلى شيء مليء بالعاطفة.”
ابتسمت موافقة، ثم أشارت إلى لوحتي وسألت:
“وماذا عن هذه اللوحة؟ بماذا شعرت وأنت ترسمها؟”
كانت اللوحة لامرأة ذات ملامح هادئة وشعر طويل يتمايل. لم أكن أعرف من هي، لكنها بدت وكأنها تحمل سرًا دفينًا.
“هل هي هارونا؟” سألتني.
“لا، ليست هي.”
حتى أنا لم أكن أعلم من تكون. ربما كانت انعكاسًا لمشاعر دفينة.
قالت وهي تفتح هاتفها بحماس:
“سمعت أن الرسم اللاواعي يعكس أعماق النفس. دعني أتحقق!”
بعد قليل، قالت:
“إذا كانت ملامح الوجه جميلة وهادئة، فهذا يعني أن الرسام يعيش في حالة سلام داخلي!”
نظرت إلي باندهاش وقالت بمكر:
“غريب… لا يبدو ذلك منطقيًا مع حالتك.”
ضحكت، ولم أعلّق. كانت لا تزال تعتقد أنني غارق في اضطراب نفسي، لكن الحقيقة أنني كنت أعيش لحظة من السلام الغامض.
سألتها بدوري:
“وأنتِ؟ ماذا يقول الرسم عن من يرسم الأزهار؟”
أجابت بسعادة:
“يقال إن من يرسم الأزهار طيب القلب، ويحب العائلة!”
قلت مازحًا:
“إذن أنت بالفعل تهتمين بعائلتك!”
ضحكت قائلة:
“بالطبع. أعيش مع والدتي وأخي، وهما عالمي كله.”
عادت إلى رسم أزهارها بتأنٍ، تدندن أغنية خافتة. كانت رسوماتها تحمل دفئًا لا يخطئه أحد.
قلت معلقًا:
“أزهارك اليوم أجمل من المعتاد.”
ابتسمت قائلة:
“أحب الأزهار منذ طفولتي. والدتي كانت تملأ المنزل بها دائمًا.”
لكن حديثنا المسترسل أثار استياء المدرّسة، التي وبختنا بلطف، فعاد كل منا إلى عالمه.
أكملت رسم تلك المرأة ذات الابتسامة الغامضة. لم أكن أعرف من هي، لكنها بدت مألوفة بطريقة يصعب تفسيرها.