قررت القديسة أن تُصبحَ ملكة الدمار - 12
كما هو متوَقع مِن عائلة هارتمان، التي أنجبت أجيالاً مِن السحرةِ البارعين، كان كاليد بارعًا في السحر الجليدي، لكنهُ كان قادرًا أيضًا على استخدام السحر النار بسهولةٍ.
ومع ذَلك، نظرًا لأن المانا الخاصة بكاليد كانت أكثر انسجامًا مع السحر الجليدي، لَمْ يكُن بنفس براعتهِ في السحر الناري.
ما يستغرقُ عشرَ دقائقٍ مِن ساحرٍ يُركز على سحر النار، كان يتطلبُ ثلاثين دقيقةً مِن مانا كاليد.
“هاه…”
أنْ تبقى ميروبي واعيةً بينما يذوبُ الجليد، كان أمرًا مُذهلاً إذا نُظر إليِّه مِن هَذهِ الزاوية، ولكنهُ كان قاسيًا بلا حدود.
حتى في المرةِ الأولى التي رآها فيها، لَمْ تَذرُف دمعةً واحدةً رغم العقاب القاسي.
“كان مِن الأفضل لو فقدت وعيَّها.”
كان الألمُ الذي عانت مِنهُ يتجاوزُ طاقة طفلةٍ في الثامنة مِن عُمرها.
“مِن هُنا سأكمل أنا، هل يُمكن للدوق أنْ يرتاحَ قليلاً؟”
عندما قال الطبيب هَذا أثناء تركيزهِ على علاج ظهر ميروبي، هزَّ كاليد رأسهُ برفق.
رؤية ميروبي وهي تَعضُّ شفتيها بشدةٍ حتى سال الدم، في محاولةٍ لتحمُل الألم وكتمِ صُراخها، جعلت كاليد يشعرُ بغصة.
لَمْ يستطع النوم. في موقفٍ كهَذا، كيف يمكنهُ أنْ يُغمض عينيهِ بينما تصمدُ ميروبي الصغيرة هَكذا؟
كان يتمنى بشدةٍ لو أنّها بكت وقالت إنّها تتألم.
“سيدي الدوق.”
نادتهُ لوسي وهي تدخلُ حاملةً ماءًا ساخنًا كان قد أُعد لتنظيف الدم.
وعندما أشار برأسهِ يسألُ عن الأمر، هَمست لوسي بحذرٍ.
“يجبُ أنْ تخرجَ للحظةٍ.”
“…؟”
عَبُس كاليد قليلاً، فأضافت لوسي بصوتٍ مُنخفض.
“السيد الصغير…”
السيد الصغير؟
هل حدث شيءٌ لإيكر مرةً أخرى؟ رُبما استعاد وعيهُ وبدأ في نوبةٍ أخرى؟ فتح كاليد باب الغرفة بعُنف.
“آه!”
لكن ما رآه أمامهُ كان سايكي جالسًا القُرفصاء، مُتكئًا على الحائط وهو يبكي بهدوء.
“سايكي؟”
“أ… أبي.”
كان مِن الواضح أنهُ انتظر كاليد طويلاً حتى يخرُج، إذ نهض سايكي مِن مكانهِ بعينيهِ المتورمتين وسأله:
“ه… هل ميروبي بخير؟”
كان سؤالًا مَفعمًا بالقلق.
رؤية الطفل الذي يشبهُ زوجته المتوفاة يبكي، جعل قلب كاليد ينقبض.
“سايكي، توقف عن البكاء.”
رغم أنْ حمل طفلٍ في العاشرة مِن عمره ليس سهلاً، رفع كاليد سايكي دوّن إظهار أيِّ علامةٍ على التعب.
ثم مسحَ دموعهُ بيديه غيرَ المُتمرسة وربّت على ظهرهِ.
“أنْ الطبيب يعتني بها، وستَتحسن قريبًا.”
“لكن… لكنّها تأذت بسببي… لو لَمْ أذهب إلى أخي لما تعرضت ميروبي للأذى.”
نظر كاليد إلى سايكي الذي كان لا يزال يبكي رُغم تربيتاتهِ، بنظرةٍ مليئةٍ بالأسى.
وبما أنْ سايكي يُفكر بهَذهِ الطريقة، كان مِن الواضح أنْ إيكر يشعرُ بالشيء نفسه.
“هَذا ليس ذنبكَ، سايكي. لذا توقف عن البُكاء هنا واذهب إلى غرفتكَ لتنام.”
كان الوقت مُتأخرًا جدًا عن موعد نومه.
داخل غرفة كاليد، كان مساعدو الطبيب يدخلون ويخرجون بسرعة.
رؤية المياه النظيفة والقطعُ القماشية المُلطخة بالدم تخرُج، جعلت سايكي على وشك الانفجار بالبكاء.
عندما حاول كاليد تغطية عيني الطفل حتى لا يرى، تحدث سايكي:
“أ… ألا يُمكنني البقاء بجانب ميروبي؟”
كاليد الذي كان عادةً ما يُلبي طلبات سايكي. كان يشعرُ بالأسف لأنهُ لَمْ يستطع أنْ يمنحه الاهتمام الكافي بسبب مرض إيكر، وكان ضعيفًا أمام وجههِ الذي يُشبه وجهَ ديبورا.
لكن طلبهُ هَذهِ المرة لَمْ يكُن ممكنًا.
رؤية الجليد الذي اخترق ظهر ميروبي ستزيدُ مِن شعور سايكي بالذنب، كما أنّها لَن تكون جيدةً لصحتهِ النفسية.
“سايكي، اترك الأمر للكبار واصعد إلى غرفتكَ.”
كما أنهُ لَم يكُن هُناك ما يُمكن لسايكي فعله على أيِّ حال.
رُسمت دائرةٌ سحريةٌ حمراء باهتة تحت قدمي كاليد وهو يحمل سايكي.
“أ… أبي.”
بِمُجرد أنْ رمش سايكي، تغيِّر المكان مِن أمام غرفة كاليد إلى غرفة سايكي. بدت على وجهِ سايكي ملامحُ الأسى مُجددًا.
وضعهُ كاليد على السرير الدافئ الذي أعدهُ الخدم مُسبقًا.
“سأبذل قصارى جهدي حتى لا يحدُث شيءٌ مِما تقلق بشأنهِ. لذا لا تخف.”
لكن سايكي، الذي بدا على وشك البكاء، لَمْ يجب بسهولة.
ابتسم كاليد بصعوبةٍ وسأله:
“أم أنكَ لا تثقُ بأبيك؟”
“…لا، أثقُ بكَ.”
بصوتٍ يخرجُ مِن أنفه، أجاب سايكي وهو يهزُّ رأسه:
“نعم، سايكي. لذا، ثق بوالدكَ وأغمض عينيكَ الآن.”
غطّى كاليد عيني سايكي بيدهِ الكبيرة، مانعًا إياهُ مِن التفكير.
على الرغم مِن كونهِ خبيرًا في سحر جليد، كانت يدُ كاليد دافئةً للغاية.
استمرت شهقاتُ سايكي لبضعِ لحظاتٍ، ثم سرعان ما هدأت أنفاسهُ وغرق في النوم.
تأكد كاليد مِن نوم سايكي قبل أنْ يخطو خارج الغرفة.
بِمُجرد أنْ خطا عائدًا إلى غرفتهِ، عاد المكان ليعبُق برائحة الدم الحادة.
“آه…”
رأى ميروبي وهي تقضّمُ شفتيها السُفلى بشدةٍ لتتحمل الألم وتكتُمَ أنينها، فسأل الطبيب:
“أليست تُعاني مِن ألم مُفرط؟”
“لقد أعطيناها مخدرًا، ولكن…”
أجاب مساعدُ الطبيب مُترددًا، وكأنهُ يقول إنه لا يمكن فعل شيء آخر.
“لو كانت لدينا قوةٌ علاجية مقدسة، لكان الوضع مُختلفًا. نحن نفعل كُل ما بوسعنا للعناية بالآنسة الشابة.”
“ماذا عن أخذها إلى المعبد؟”
“لا، لا يُمكن!”
صرخت ميروبي فجأةً، وكان ذَلك أول صوتٍ تُصدره.
بوجهٍ شاحبٍ وخالِ مِن الدماء، هزّت رأسها بتوسلٍ:
“لا تأخذوني إلى المعبد… أرجوكم، أرجوكم.”
“ميروبي.”
“أرجوك…!”
في اللحظة التي أُزيلت فيها الكُتلة الجليدية المغروسة، سقط رأس ميروبي مِن شدة الألم وهي تُتابع الحديث:
“صدقني، هَذا هو الأفضل لي… أرجوك…!”
ظلّت تلكَ الكلمات تدور في ذهن كاليد دوّن أنْ يتمكن مِن قولها.
“أرجوك…”
كانت هَذهِ أول مرةٍ يراها تبكي. لَمْ تذرف دمعةً واحدةً حتى أثناء العقاب في المعبد أو خلال علاجها.
كان مِن الواضح أنّها لا تُريد أيَّ علاقةٍ بالمعبد. بل رُبما شعرت بالازدراء تجاهه، كما بدت يوم التقيا لأول مرةٍ في القسم الغربي من المعبد.
رغم تَوسلاتها، لو كان الوضع يستدعي الحاجة إلى القوة المقدسة، لكان عليهِ التوجه إلى المعبد على الفور.
“حسنًا، فهمت.”
لكنهُ لَمْ يستطع فعل ذَلك.
لَمْ يكُن بمقدورهِ تجاهُل توسلات ميروبي الصادقة.
“لَن أفعل ذَلك، لذا تحلي بالقوة قليلاً.”
لأول مرة، لمعت عيناها القرمزيتان بلمحةٍ مِن الطُمأنينة.
شعرت بالارتياح، فأغمضت عينيّها وأومأت برأسها. وأمسكَ كاليد بيدها الصغيرة بقوة.
نادرًا ما شعر كاليد بالعجزِ طوال حياته.
فقد كان رئيسَ دوقيةٍ شهيرةٍ في الإمبراطورية، وكان يتمتعُ بقدراتٍ استثنائية.
لكن كان هُناك ثلاث لحظاتٍ فقط شعر فيها بالعجز.
الأولى عندما لَمْ يستطع فعل شيءٍ لزوجتهِ ديبورا وهي تحتضرُ بعد الولادة، والثانية عندما لَمْ يجد علاجًا لمرض المانا الخاص بإيكر.
والآن، هَذهِ اللحظة كانت الثالثة.
لو كان العجزُ نابعًا مِن مواجهةٍ قوةٍ ساحقة تفوقهُ بكثير، لما شعر بهَذا القدر مِن البؤس.
لكن الشعورُ بالعجز والبؤس والحزن دائمًا ما كان يأتي مِن أولئك الأضعف والأصغر منهُ.
“تحلي بالقوة، صغيرتي.”
إذا استطاعت الصمودَ والبقاءَ على قيد الحياة، فإنهُ سيبذل كل ما في وسع عائلة هارتمان مِن أجل هَذهِ الطفلة.
“أرجوكِ.”
بينما كان يُمسك بيدها الصغيرة بقوة، صلى كاليد بحرقة.
***
“آه…”
الألم كان مُريعًا.
كان ظهري يؤلمني بشدةٍ، لدرجة أنني شعرتُ وكأنني سأتمزق في أقل حركةٍ.
فتحتُ عيني بصعوبة بعد أنْ أغمضتُهما بسبب التعب.
لقد عدت إلى الماضي بنجاح، لكنني كنتُ على وشك الموت قبل أنْ أبدأ أيَّ شيء.
ظننتُ أنْ قدري سيكون موتًا مُبكرًا أو حياةً طويلة مليئةً بالأمراض، لكن يبدو أنْ مهارة الطبيب قد أنقذت حياتي.
لطالما سمعتُ أنْ المانا الخاصة بالابن الأكبر كانت مذهلةً، لكن الشائعات كانت أقل بكثيرٍ مِما شاهدتُه بنفسي.
مع كل حركةٍ اقومُ بها، كان الألمُ ينبض بشدةٍ، مِما جعلني أعبسُ.
بينما كنتُ أحاول تحريك ذراعي بحذرٍ، سمعتُ صوتًا:
“ميروبي!؟”
آه! يا للرعب!
فوجئتُ برؤية وجهِ كاليد الشاحب يقتربُ مني فجأةً، مِما جعلني أشهق دوّن وعي.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة