طفلة الحوت الأسود القاتل - 85
__الفصل 85__
‘يا إلهي، ماذا كان سيحدثُ لو لم أكنْ هنا هذه المرة؟!’
لم أستطع تخيُّلَ الهيئة التي سيكونُ عليها الدوقُ التنينُ حين ألتقيهِ بعد أن يبلغَ العاشرةَ من عمره.
على أيِّ حالٍ، لم يكن هناك أيُّ أملٍ لرسمِ
مستقبلٍ مشرقٍ له.
بدأ الضيوفُ المقيمونَ في القلعة بتجهيزِ أنفسهم للرحيلِ، أما الذين يسكنونَ بالقربِ من مدينة التنين فقد غادَروا بالفعل.
وأمّا نحن، عائلة أكواسياديل، فقد قرَّرنا أن نُغادرَ فور إتمامِ تجهيزاتنا. كان الرحيلُ مقرَّراًفي الفجرِ أو مع أول ضوءٍ للصباح.
أما من ناحية القلعة، فقد قوبلَ رحيلُنا
بالقبولِ دون اعتراضٍ أو شكٍّ.
بل إن الخدمَ، وحتى كبيرَ الخدم، كانوا يُظهرونَ ارتياحاً غريباً وكأنهم مسرورون بمغادرتنا.
‘كلُّ هذا ليسَ سوى تمهيدٍ للهربِ بالدوقِ التنينِ
سريعًا دونَ أن يُدركَ أحدٌ ذلك.’
ومع حلولِ الليل، حاولتُ أن أساعدَ الخادماتِ سمكات الرنجة وميسيا في تحضيرِ الأمتعة، لكن…
يا للعجب! لقد قلنَ ليّ: “كيف نسمحُ للأميرةِ الصغيرةِ اللطيفة ذات اليدينِ الصغيرتين أن تُساعدَنا؟!” ثم طردْنَني من المكان.
‘على الأرجحِ أنا أقوى منهنَّ بكثير!’
شعرتُ ببعضِ الإحباطِ، لكن لم يداخلْني الغضبُ. بل كان من الجيدِ أن أستريحَ قليلاً.
بعد أن فرغتُ من كلِّ شيءٍ ولم يتبقَّ لي ما أفعله، جلستُ في غرفةِ الاستقبالِ وكأنني عاطلةٌ عن العمل، حتى ظهرَ بيلوس فجأةً وسألني بنبرةٍ مباشرة:
“ما الذي تُخطّطين له؟”
“تخطيط؟”
‘ألا يُعدُّ نفسه للرحيل؟ أم أنه يتركُ الأمرَ لغيره لفعل ذلك؟’
‘إن حدسَ بيلوس يفوقُ الوصفَ!’
أجبتُه بينما أرمقُه بنظرةِ استغرابٍ.
حتى لو سألَني فلن أُفشيَ شيئاً مفيداً.
“ماذا تعني بسؤالكَ المفاجئ هذا؟”
“…”
“اجلس، كنتُ أرغبُ في الحديثِ معكَ على أيِّ حالٍ.”
“تُريدين الحديثَ معي؟”
كان يحدِّقُ بي بدلاً من الجلوسِ، فهززتُ كتفي وأكملتُ كلامي.
“نعم، أردتُ أن أخبركَ أنني قد لا أتمكَّنُ من الوفاءِ بما قلتُه سابقاً. ألم أقلْ لكَ إنني لن أكونَ معكم عند العودة؟”
“وماذا بعد؟”
“أعتقدُ أنني لن أستطيعَ الوفاءَ بذلك.”
تغيَّرت نظرةُ بيلوس فجأةً، صارت حادةً إلى
درجةٍ جعلتني أرتجفُ لا إرادياً.
“ماذا تعنين؟”
“ببساطة، لقد غيَّرتُ رأيي. سأعودُ معكم.”
“معنا؟”
“أجل، أليس كذلك؟ أم أنكَ تشعرُ بالانزعاجِ من فكرةِ ركوبِ العربةِ معي؟”
“هذا ليسَ سؤالي.”
وكما توقعتُ، بدأت قوى الماءِ تتحرَّكُ حول بيلوس.
الغريبُ أن المياهَ لم تكن تبدو هجوميةً على الإطلاق.
بل كانت أشبهَ بفقاعاتِ صابونٍ مستديرةٍ وناعمةٍ تتحركُ بانسيابيةٍ لطيفة.
‘لقد سمعتُ أنَّ المشاعرَ القويةَ لدى الحيتان القاتلة
قد تؤثرُ على شكلِ الماءِ وقوتها.’
على سبيل المثال، عند الغضبِ، قد يزدادُ الماءُ بعنفٍ، أو يأخذُ أشكالاً هجوميةً.
‘لكنَّ ما أراه الآن لا يُشبهُ الغضبَ إطلاقاً.’
فقاعاتُ الماءِ الجميلةُ التي تلمعُ تحتَ أشعةِ الغروبِ، وقد أخذت شكلاً بديعاً، كانت مثيرةً للإعجاب.
‘ما الذي يُسعدُ هذا الأحمق؟’
هل يخططُ للاحتفالِ بعودتي بتحطيمِ رأسي؟
بينما كنتُ أحدقُ فيه، بدا وكأنه لاحظَ قوته فجأةً، ثم اختفت المياهُ على الفور.
كنتُ أتوقعُ منه أن يشعرَ بالارتباكِ، لكنه بدا هادئاً وكأن شيئاً لم يحدث.
‘هل ورثَ هذه البرودةَ من أبي؟’
بدأت أفهمُ كلماتَ والدي عندما قال
إن بيلوس يشبهه كثيراً.
“هذا يعني إنكِ ستعودينَ معنا الآن دون البقاء في هذا المكان القذر، أليس كذلك؟”
“مكان قذر…هذه صفةٌ تعجبني لهذا المكان.”
‘لكنني لن أكونَ رئيسةَ العائلةِ أبدًا.’
“إذن، وكما قلتُ لكَ، أنا لن أصبحَ رئيسة العائلة”
‘اطمئن، أنا لن أكونَ منافسةً لكَ.’
إذا وصلتُ إلى المنزلِ بسلامٍ مع الدوقِ التنين، فقد أعيشُ معه بهدوءٍ بعيداً عن كلِّ شيءٍ.
وإذا أرادَ بيلوس، يمكننا الانتقالُ إلى
مكانٍ أكثر تواضعاً بكثير.
المهم أن يكبرَ الدوقُ بأمانٍ.
“سنرى ذلك.”
أدارَ بيلوس ظهره فجأةً وكأنه لا يريدُ إكمالَ الحديث.
ثم استدارَ برأسه فقط وقال:
“مهما كنتِ تُخفين، إذا أخبرتِني أثناء الرحلةِ، فقد أُغض الطرف عن ذلك مرةً واحدة.”
“ماذا؟”
“لديكِ عادةٌ غريبةٌ.”
عادة؟ ما هي تلك العادة؟
كنتُ مذهولةً، لكنه غادر دونَ أن ينظرَ خلفه.
‘إذا أخبرته، سيغضُّ الطرف؟’
ما هذا الذي يقوله بشكل مفاجئ؟
رغم أنني لم أفهمْ سببَ هذا التغيُّر، إلا أنني رحبتُ به.
لم أجد الأمرَ غريباً؛ لأن بيلوس كان
دائماً متقلِّبَ المزاجِ منذ البداية.
***
لقد حلَّ الليلُ.
على الرغم من أنني لم أنم الليلةَ أيضًا وكنتُ بانتظارِ اللحظة المناسبة، إلا أن الفرقَ الوحيدَ هذه المرة هو أنني لم أكن وحدي في غرفتي.
“هل حانَ وقتُ الذهاب؟”
“نعم! الآن هو الوقتُ المناسب.”
في وقتٍ مشابهٍ تقريبًا للوقتِ الذي اصطحبتُ فيه توس، حملني والدي بين ذراعيه.
“ممم، أستطيعُ القفزَ وحدي، أتعلم؟”
“لماذا تُتعِبينَ نفسَكِ بينما لديكِ أداةٌ جيدةٌ بجواركِ؟”
“أجل، معكَ حق.”
‘لا أدري لماذا يُحوِّلُ نفسه إلى أداة، لكن إن كان أداةً بالفعل، فلا شك أنه الأغلى ثمنًا في العالم.’
على الرغم من أنني لم أستند عليه من قبل وهو يحملني، إلا أنني شعرتُ وكأنني مستلقيةٌ على سريرٍ ثابتٍ ومريحٍ للغاية.
وبينما كنتُ أفكرُ بأمورٍ عشوائية، وجدتُ نفسي فجأةً على الأرض.
‘في كلِّ مرةٍ أشعرُ بنفسِ الشيء، قدرةُ والدي على التلاعبِ بقوةِ الماءِ تُذهلني.’
حتى وإن كان الجميعُ يحملونَ نفسَ قوةِ الماء، إلا أن مهاراتِ الحيتان تختلفُ من فردٍ إلى آخر.
على سبيل المثال، عندما استيقظتُ، كانت القوةُ التي أستطيعُ التحكمَ بها هائلةً جدًا. أما بيلوس، فقد كان يتميَّزُ بحساسيةٍ شديدةٍ في استشعارِ القوى.
لكن والدي يبدو أنه يتفوَّقُ في استخدامِ
هذه القوةِ بطرقٍ إبداعية.
وربما، لم أكن قد شهدتُ حتى الآن قوَّته
الحقيقيةَ، أو مقدارَها الكامل.
المسافةُ التي كنتُ أقطعُها في عشرينَ دقيقةً عندما أركضُ، قطعها والدي وهو يحملني في أقلَّ من عشرِ دقائق.
‘هذه الأداةُ البشريةُ رائعةٌ حقًا!’
نظرًا لأنه وصفَ نفسَهُ بالأداة، لم أستطع منعَ نفسي من التفكيرِ فيه كأنه سيارةُ أجرةٍ سريعة.
عندما وصلنا إلى المكانِ الذي أتيتُ إليه مع توس
سابقًا، فجأةً اخفى والدي أيُّ أثرٍ لوجودِنا.
“كما توقعتُ، هناك مفترسٌ قويٌّ من
فئةِ الكائناتِ البريةِ هنا.”
“من هو؟ لا، بل هل يمكننا التحدثُ
الآن؟ أن الصوتَ محجوبٌ، أليس كذلك؟”
نظرَ إليَّ والدي وكأنَّه يُؤكِّدُ أنَّه بالطبع قامَ بحجبِ الصوت، فابتسمتُ ابتسامةً بريئةً ورفعتُ إبهامي.
“مُعلمي العظيم، لقد حافظتَ على هدوءِ الليلِ ببراعة.”
“لا أفهمُ ماذا تقولين، لكنهم يقتربون.”
عندما التفتُّ، كما توقعت، ظهرتْ ظلالٌ بهدوءٍ وكأنها تنبثقُ من العدم.
وكان هناك شخصٌ آخرُ بجانبِهم، يُتمتمُ بغضبٍ بينما يضربُ الأرضَ بقدميه.
‘إنهم من نفسِ النوع، أليس كذلك؟’
‘هل يعملونَ نوبةً مزدوجة؟ أو ربما هناك تغييرٌ في المناوبة؟’
شعرتُ ببعضِ الراحة، فعلى الرغمِ من ثقتي بوالدي، لو كان خصمنا نمرًا أسود، لربما تطوَّر الأمرُ إلى معركةٍ ضخمةٍ جدًا.
‘كلما جذبنا الانتباه، كلما صار الوضعُ أكثرَ صعوبةً.’
أما الضباع، فقد كانوا أضعفَ نسبيًا، مما يجعلُ
التعاملَ معهم أكثرَ راحة.
“أبي، القتالُ ممنوعٌ. علينا الدخولُ والخروجُ
بأكبرِ قدرٍ من الهدوء.”
“أعلمُ ذلك.”
لو بدأ قتالٌ هنا، فسيُسارعُ أولئك الذين يستغلون
الدوقَ التنينَ للتحقُّقِ من سلامته.
وإن حدثَ ذلك، فستذهبُ جهودُنا لتهريبه سُدى.
كان علينا أن نُخفيَ وجودَنا لأطولِ فترةٍ ممكنة.
انتظرنا بصمتٍ، حتى بدأَ الضبع والحرباء بالابتعادِ عن موقعهم تمامًا كما حدثَ البارحة.
‘جيد، الآن إلى فتحةِ الجدارِ الصغيرة.’
اقتربتُ من المكانِ نفسهِ الذي استخدمته البارحة، لكن شعرتُ بالإحباطِ فورَ وصولي.
‘يا إلهي، لقد سُدَّت الفتحة!’
‘كيف حدثَ ذلك في يومٍ واحدٍ فقط؟!’
شعرتُ بعرقٍ باردٍ ينزلقُ على ظهري. لحسنِ الحظ، لم أكن وحدي اليوم.
تقدَّمَ والدي نحو ظهري، فبدأتُ أشرحُ له الموقفَ بسرعةٍ شديدة، خشيةَ أن يعودَ الحراسُ في أيِّ لحظة.
“هل تتذكَّرينَ موقعَ غرفةِ الدوقِ التنين؟”
“بالطبع أتذكَّر.”
طالما تمكَّنتُ من الدخولِ، فسأتمكنُ من استدعاءِ توس بأيِّ طريقة.
“إذن علينا فقط الدخول؟ حسنًا، ذلك المكانُ يبدوُ مناسبًا.”
رفعَ والدي رأسَه مشيرًا إلى نافذةٍ مكسورةٍ في الطابقِ الثاني.
كانت النافذةُ ضيقةً بما يكفي لتناسبَ حجمي الصغير.
خلعَ والدي عباءته ولفَّني بها بإحكام.
“رغم أنني لا أحبُّ هذا…”
“هاه؟”
“أنتِ لا ترغبينَ بإصابةِ نفسكِ بأشياءٍ حادة، صحيح؟”
“في الحقيقة، لا بأسَ عندي، أعني…ليس بالأمرِ الجيدِ، لكن لا بأس.”
“أنا لا أريدُ ذلك.”
وبهذا، لفَّني والدي بالكاملِ بعباءته، ثم رفعني بخفةٍ في الهواء.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي
حساب الواتباد الجديد قريبا هتلاقو أحدث الفصول لكل رواياتي عليه♡!
اسم الحساب:
Kariby998@