طفلة الحوت الأسود القاتل - 83
__الفصل 83__
بما أنّ مهرجانَ التَّنانينَ قد أُلغي، فإنَّ إعلانًا وشيكًا للتبليغ عن ذلك سيصدرُ عمّا قريبٍ، لا مَحالَةَ.
وإن كنتُ أجهلُ متى سيأتي ذلك اليومُ، فلا بُدَّ لي من الإسراعِ، والعودةِ إلى القصرِ برفقةِ الدوقِ التَّنين.
وفي اللحظةِ التي عقدتُ فيها العزمَ على خُطَّةٍ متينةٍ، وهممتُ بالكلامِ، باغتَني صوتٌ أتى على حينِ غِرَّةٍ:
“هل أنتِ مُنهَكةٌ؟”
“ها؟ آه…نعم…”
سؤالٌ مباغتٌ من والدي جعلَ أنفاسي تنقطعُ برهةً، وكأنَّ زفيرًا قد أُجبرَ على التوقُّف.
لكن، لا بأس. أستطيعُ إعادةَ الحديثِ متى أشاءُ. وبينما كنتُ أُمنِّي نفسي بذلك، تفاجأتُ بكلماتٍ أخرى حلَّقت نحوي دونَ سابقِ إنذارٍ.
“إلى أين كنتِ تتجوَّلينَ البارحةَ؟”
“هاه؟”
“إنَّ الخارجَ خطِرٌ نوعًا ما، أليس كذلك؟”
“ما الذي تعنيه بالخطر؟”
“قبل أن تسألي عن معنى كلامي، فكِّري أوَّلًا: هل تستطيعين فعلًا خداعَ حواسِّي والخروج دون علمٍ مني؟”
“…”
…يا إلهي! أتراهُ يُوجِّه مثل هذا الكلامِ لي؟
ورغم أنّني أبدَيتُ ملامحَ التَّجهُّمِ، فإنَّ قولَه كان حقًّا، لا باطلَ فيه.
لو شاء والدي، لما استطعتُ بمقدرتي الحاليَّةِ أن أُخفي أثري عنه.
وكان كلُّ ذلك بسبب تصميمِ الغرفةِ الذي يكادُ يكونُ كمينًا في حدِّ ذاتِه.
‘أيُّ عقلٍ أحمقٍ صمَّمَ هذه الغرفةَ على هذا النحو؟!’
علاوةً على ذلك، فإنَّ بايير لا ينامُ ليلًا كالبشر، بل يظلُّ متيقِّظًا، يترصَّد كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ.
‘ومَن قد يجرؤ على محاولةِ اغتياله أصلًا؟!’
حتى لو أتى القتَلةُ أفواجًا، فلن يستطيعوا النَّيلَ من حياتِه.
“لِمَ وضعتِ الملعقةَ جانبًا؟”
“فقدتُ شهيَّتي. والسببُ أنتَ، يا مُعلِّمي.”
“…”
“أنا أمزح. لذا، إن كان لديكِ ما تريدين قوله، فلتُفصِحِ به. أنا قد أنهيتُ طعامي.”
حسنًا، ربَّما يكونُ هذا أفضل.
فبما أنَّ لديَّ ما أودُّ قولَه، فقد أصبحتُ أكثرَ استعدادًا للخوضِ في الحديث.
“إن كان لديكَ أيُّ سؤالٍ، فلا تتردَّد في طرحِه.”
“أين كنتِ البارحةَ؟”
“ذهبتُ إلى قلعةِ الدوقِ التَّنين، لمقابلتِه.”
“هل تعنين القلعةَ القريبةَ من هنا؟”
“لا، ليست تلك.”
وهنا توقَّفتُ للحظةٍ أُفكِّر كيف سأُكمِلُ الحديث.
“مُعلِّمي، هل يمكن أن تُحصِرَ هذا الحديثَ بيننا فقط؟”
كنَّا حينها نتناولُ الطَّعامَ في غرفةٍ صغيرةٍ ملحقةٍ بالغرفةِ الرَّئيسيَّةِ. ولكن لما كان الحديثُ بالغَ الأهميَّةِ، خشيتُ من أيِّ طارئٍ قد يحدث.
“…بالطَّبع.”
وما إن أنهى والدي كلماتِه، حتى ظهرَ بيننا حاجزٌ شفَّافٌ يلمعُ بلونٍ أزرقَ باهتٍ.
كان أشبَهَ بستارٍ رقيقٍ من الماءِ أو قطعةٍ فاخرةٍ من حريرٍ مضيء.
‘واو…هذا الحاجزُ بالغُ التَّعقيد!’
وربَّما لأنَّني كنتُ في القمَّةِ يومًا ما، استطعتُ إدراكَ قوَّةِ هذا الحاجزِ بسهولةٍ.
“ما سأقولُه الآن قد يبدو غريبًا، لكنَّه الحقيقةُ، ولا شيء سواها.”
“…”
“أتذكُرُ الثُّعبانَ الصَّغيرَ الذي كان يُرافقني مؤخرًا؟ ذلك الثُّعبانُ هو أحدُ أتباعِ الدوقِ التَّنين، وقد ذهبتُ لإعادتِه إلى سيِّدِه.”
والدي الذي كان يستمعُ بإنصاتٍ، يداَه متشابكتانِ على صدرِه.
“ولكن الوجهةَ التي أرشدني إليها توس لم تكن القلعةَ الفاخرةَ التي وصفها الجميع هنا. بل كانت مبنًى قديمًا ومتهالكًا.”
تردَّدتُ لوهلةٍ، ثمَّ قرَّرتُ أن أكونَ صريحةً تمامًا.
“مُعلِّمي، ذلك الفتى…أقصد الدوقَ التَّنين…حالُه مثل حالي. لقد تُرِكَ وأُهمِلَ في مكانٍ بائسٍ.”
“…”
“بل كان وضعُه أسوأ. العائلةُ الملكيَّةُ تحتجزُه كأنَّه عبدٌ أو سلاحٌ، تسعى لتربيتِه ليُصبحَ آلةً للحرب.”
“هل تقولين إنَّكِ علمتِ بكلِّ هذا البارحةَ؟”
“نعم.”
ثمَّ رويتُ له كلَّ ما حدثَ معي خلالَ تلك اللَّيلةِ.
ولم أجد أيَّ سببٍ يدعوني لإخفاءِ شيءٍ.
“لقد كنتِ محظوظةً بعودتِكِ سالمةً.”
“كانت ضربةُ حظٍّ أنَّني لم أواجهْ شيئًا أثناءَ خروجي.”
“إن كان كلامُكِ صحيحًا، فإنَّ مهرجانَ التَّنينَ قد لا يُقامُ أبدًا. يبدو أنَّ الشَّائعاتِ التي سمعناها لم تكن من العدم.”
“أعتقدُ ذلك أيضًا.”
أظهرَ بايير ملامحَ التَّفكيرِ العميقِ، لكنَّه سرعانَ
ما استعادَ هدوءَه المعهود.
غير أنَّ ذلك جعلَني أكثرَ توتُّرًا.
“حسنًا، لا أظنُّ أنَّكِ طلبتِ الحاجزَ لتقصِّي هذا الحديثِ فقط. فما الذي تريدينَه منِّي حقًّا؟”
“مُعلِّمي، أحيانًا تكونُ بارعًا في قراءةِ النَّوايا.”
“ليس أحيانًا، بل دائمًا.”
“هذا صحيح.”
“الأمرُ يتعلَّقُ بكِ، لهذا سأفهمُ كُلَّ شيءٍ.”
“…”
…يا لها من كلماتٍ تلامسُ القلب.
هل أستطيعُ البوحَ بكلِّ شيءٍ الآن؟
ولكن لا مفرَّ.
لن أستطيعَ تحقيقَ شيءٍ دونَ مساعدةِ والدي.
ورغم أنَّني فتحتُ فمي لأتكلَّم، إلا أنَّ قلبي كان مثقَلًا بالاستسلامِ والحذرِ.
كان ذلك كدرعٍ يقي نفسي من تعلُّقٍ قد ينتهي بخيبةٍ.
“أرجوكَ…ساعدني يا مُعلِّمي.”
“كيف أساعدُكِ؟”
“أريد أن آخذَ الدوقَ التَّنين معي إلى
أراضي عائلةِ أكواسياديل.”
كنتُ أتوقَّعُ أن يُصدمَ بايير، لكنَّه لم يُظهِرْ أيَّ علامةٍ على الدَّهشة.
بل اكتفى بالتَّحديقِ إليَّ مطوَّلًا، قبل أن يميلَ برأسِه ببطءٍ.
“دعيني أتأكَّد: هل تقولينَ إنَّكِ تريدينَ أخذَ الدوقِ التَّنين إلى أكواسياديل؟”
“نعم.”
“لو كان أحدٌ غيري مكانَي، لقالَ إنَّكِ قد فقدتِ عقلَكِ تمامًا.”
“…”
…لا أستطيعُ أن أُنكرَ كلامَه.
“وجودُ الدوقِ التَّنين في مدينةِ التَّنين إيكينا هو قسمٌ صارمٌ عُهد بينه وبين الأمبراطورةِ الأولى للإمبراطورِية. لديه الحريَّةُ داخلَ المدينةِ فقط، لكنَّه لا يستطيعُ مغادرتَها دون إذنٍ من العائلةِ الملكيَّةِ. هل كنتِ تعلمينَ ذلك؟”
“كنتُ أعلمُ أنَّه لا يستطيعُ مغادرةَ المدينة.”
ولهذا كنتُ قد صُدمتُ عندما رأيتُ قوَّتَه عند هيجانه تصلُ إلى كلِّ أرجاءِ الإمبراطوريَّةِ، بما في ذلك أراضي أكواسياديل.
“…”
اكتفى بايير بالتَّحديقِ فيَّ بصمتٍ.
يا تُرى، هل سيقولُ إنَّ ذلك مستحيلٌ؟ أم أنَّ فضولَه قد يدفعُه إلى خوضِ مغامرةٍ خطيرةٍ فقط بسبب غريزتهِ كحوتٍ قاتل؟
لم أكن أدري كيف ستكونُ ردَّةُ فعلِ أبي، لذا شعرتُ بتوتُّرٍ شديدٍ.
‘إنْ لم يُجْدِ الأمرُ نفعًا، فسأمضي وحدي مهما كانتِ العواقبُ.’
على أيَّةِ حالٍ، لديَّ خبرةٌ سابقةٌ في النَّجاةِ بمفردي عندما اضطررتُ لذلك في الماضي.
رغم أنَّ عُمري الآن أصغرُ بكثيرٍ مقارنةً بتلك الأيَّامِ، إلَّا أنَّني أؤمنُ أنَّني سأتمكَّنُ من التَّعامُلِ مع الأمورِ على نحوٍ ما.
وفي أسوأِ الأحوالِ، رغم كُرهي المُطلَقِ للتَّفكيرِ في ذلك الخيارِ، سأعودُ بالزَّمنِ مرَّةً أُخرى.
“كنتِ ترغبينَ في البقاءِ هنا بل أنَّكِ قلتِ إنَّكِ تُودِّينَ العيشَ هنا، أليس كذلك؟”
لكنَّ الإجابةَ التي انبثقت من فَمِ أبي لم تكن لا تأكيدًا ولا رفضًا، بل كانت شيئًا غريبًا تمامًا.
أومأتُ برأسي، وشعورٌ بالارتباكِ قد تملَّكني.
“أجل، هذا صحيحٌ.”
“هل كان ذلك بسببِ هذا الأمرِ؟ اختطافُ الدوقِ التَّنينِ؟”
اختطاف؟ يا لهُ من لفظٍ لا يُناسبُ
الدوقَ التَّنينِ أبدًا.
لو كنتُ كما كنتُ سابقًا، لكنتُ صرختُ قائلةً: ‘ما هذا الهراء؟’
حيث كانت صورةُ الدوقِ التَّنينِ في ذهني حتَّى وقتٍ قريبٍ هي صورةُ شخصٍ طغى عنفوانُهُ، وفقدَ السَّيطرةَ تمامًا.
لكن، مع ما حدث البارحةَ…لم أعُد قادرةً على الاعتراضِ على كلمةِ ‘اختطافٍ’.
‘إذا كان خِداعُ طفلٍ بريءٍ وأخذه يُعدُّ اختطافًا، فما الفرق أن كان حتى مع الدوق التنين…؟’
“لم أفكِّرْ قَطُّ في البدايةِ أنَّني سأقومُ بإحضارِ الدوقِ التَّنينِ. مَن ذا الذي كان يُمكنُ أن يتصوَّرَ أنَّ شخصًا قويًّا مثلَهُ، يتطلَّعُ إليه الجميعُ باحترامٍ، قد يكونُ بحاجةٍ إلى المساعدة؟”
“…”
تردَّدتُ للحظةٍ قبل أن أُجيبَ بصوتٍ خافتٍ:
“لكنَّ الحقيقةَ أنَّه بدا لي أكثرَ بؤسًا حتَّى منِّي، هو طفلٌ تُركَ وحيدًا حتى تمت إساءةُ مُعاملتهِ بقسوةٍ إلى حدِّ الموتِ رُبما.”
لا، هذا ليس صحيحًا تمامًا.
ما حدث هو أنَّني عندما رأيتُ الدوقَ التَّنينِ، تذكَّرتُ نفسي في حياتيَّ السَّابقتين، حتى أشفقتُ عليه.
بعبارةٍ أُخرى، لم يكن الدوقُ التَّنينِ هو
مَن أثار شفقتي، بل أنا نفسي.
لو أنَّ أبي أبدى موقفًا متجاهلًا أو غيرَ مبالٍ تجاه ما قلتُه، فربَّما كنتُ سأشعرُ بخيبةِ أملٍ.
لكن، حتَّى لو حدث ذلك، فسأحاولُ إقناعَه.
ورغم ذلك، ربَّما كنتُ سأشعرُ ببعضِ الضِّيقِ.
“إذن، كنتِ تنوينَ البقاءَ هنا منذُ البدايةِ، أليس كذلك؟”
“نعم، هذا صحيحٌ.”
“وهل كنتِ ستبقينَ هنا وتتركينَني؟”
“…نعم، كنتُ سأتركُ معلِّمي ورائي.”
“إذن لم تخطرِ الفكرةُ ببالِكِ حتَّى؟ يبدو أنَّكِ ما زلتِ بحاجةً إلى المزيدِ من التَّدريبِ.”
“ما الذي ينقصني؟”
“الإخلاصُ الذي يستحقُّ تغييرَ اللَّقبِ
في حديثِكِ معي من مُعلِّمي إلى أبي.”
“…”
“لا تُخفِضي رأسَكِ. هل ارتكبتِ خطأً ما؟”
“كلا، لم أفعلْ.”
رفعتُ رأسي عاليًا، غيرَ راغبةٍ في
إظهارِ أيِّ علاماتٍ للضَّعفِ.
“إذا أردتِ التَّحدُّثَ عن شيءٍ كهذا في المستقبلِ، ابدئي أوَّلًا بقولِ ما تريدينَ. أمَّا أنا، فسأتوقَّفُ عن تكرارِ أيِّ أسئلةٍ منذُ الآنَ.”
“ما الذي تعنيه؟”
“أعني أنَّه إذا كنتِ تريدينَ، فسأقومُ حتَّى بهدمِ قصرٍ من أجلِكِ. لذا، في المرَّةِ القادمةِ، لنتحرَّك معًا من البدايةِ.”
رمشتُ بعيني غيرَ مُصدِّقةٍ.
“هل هذا يعني أنَّك ستُساعدني في إحضارِ الدوقِ التَّنينِ؟”
“نعم.”
لقد حصلتُ على ما أُريدُ. كانت الإجابةُ أسهلَ بكثيرٍ ممَّا توقَّعتْ، وكانت خاليةً من أيِّ جدالٍ.
لم أكنْ بحاجةٍ لاستخدامِ أيٍّ من التَّهديداتِ أو
الخططِ أو الحُجَجِ التي أعددتُها مُسبقًا.
كان الأمرُ أشبه بموافقةٍ تأتي بسلاسةِ الماءِ الجاري.
“لماذا؟”
على الرَّغم من أنَّ السَّببَ لم يكنْ مُهمًّا بعد أن وافق، وجدتُ نفسي أسألُ، وكأنَّ معرفةَ السَّببِ أمرٌ ضروريٌّ بالنِّسبةِ لي.
“لماذا ستُساعدني؟ هل لأنَّه مسكينٌ؟”
“لا أرى الأمرَ بهذه الطَّريقةِ. ولكن يبدو أنَّكِ تنسينَ باستمرارٍ أنَّني هنا كوالدِكِ.”
“…”
“لذا، أنا أُحترِمُ رغباتِكِ. إذا كنتِ تريدينَ
شيئًا، فافعليهِ فقط.”
لماذا أشعرُ أنَّ هذه الكلماتَ أسعدتني أكثرَ من أيِّ إجابةٍ قد تُعبِّر عن التَّعاطفِ مع الدوقِ التَّنينِ؟
…لم يكن الأمرُ وهمًا.
في تلك اللَّحظةِ، لم أكنْ أعرفُ أيَّ تعبيرٍ يُناسبني، ووقفتُ كآلةٍ مُعطَّلةٍ.
في النِّهايةِ، لم أتمكَّنْ سوى من تشكيلِ تعبيرٍ مُتردِّدٍ على وجهي.
هل يجبُ أن أشكرَهُ الآنَ؟
“إذن، متى ستتحرَّكينَ؟”
“ماذا؟ آه…اللَّيلةَ!”
“حسنًا. سأكونُ مُستعدًّا. يبدو أنَّنا
بحاجةٌ إلى مناقشةِ التَّفاصيلِ.”
“إذا كنتَ تقصدُ خُطَّةً، فلديَّ واحدةٌ جاهزةٌ بالفعل!”
ابتسم أبي ابتسامةً خفيفةً وهو ينظرُ إليَّ.
“حقًا؟ أتطلَّعُ إلى ذلك.”
“…”
“أنتِ دائمًا تأتينَ بأشياءٍ غيرِ مُتوقَّعةٍ.”
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي
حساب الواتباد الجديد قريبا هتلاقو أحدث الفصول لكل رواياتي عليه♡!
اسم الحساب:
Kariby998@