طفلة الحوت الأسود القاتل - 81
__الفصل 81__
“لِمَ؟! ما السّببُ الّذي يجعلهم يفعلونَ هذا؟”
لم يكن لهذا الحديث وجودٌ في الماضي الذي أعرفه، ولا في أصل الرواية الّتي كُتِبَت.
ما خَفِيَ عنّي لم يكن محصورًا بشخصيّة الدوق التّنين فحسب، بل يبدو أنّ هناك أسرارًا دفينة قد جُهِّلَت عن قصد.
– تُوس لا يُدركُ التّفاصيلَ تمامًا، لكن حين خَرَج من القصر، سَمِع حكاياتٍ كثيرة. ومع ذلك، لم يستطع فَهْمها جميعها.
قلتُ وأنا أستجمع أنفاسي:
“سأتكفّل أنا بتفسير الأمور، حدّثني بكلّ ما لديك.”
ثمّ ألقيتُ نظرةً عابرةً على النافذة.
لا بأس، فما زال لديّ مُتّسعٌ من الوقت للعودة.
لكنّ هذا الصُّداع يكاد يُمزّق رأسي.
كيف للدّوق التّنين، الذي يفترض أن يملِكَ القُدرةَ على إعادتي إلى دياري، أن يكون بهذا الضّعف؟!
– قالت الأسود…
تلك الأسود، التي تُشكّل العائلة الإمبراطوريّة، وهي الموضعُ الذي يسكنه البطل الذكر في الرواية.
– يجب أن نتذكّر هيجانَ التّنين الذي وقعَ قبل مئات السّنين. غضبُه وهيجانُه لا يعودان بنفعٍ على الإمبراطوريّة.
هيجانٌ وقعَ منذ قرونٍ؟ نعم، لقد سمعتُ عن ذلك.
إنّها واقعةٌ ذُكِرَ فيها أنّ الدّوق التّنين والإمبراطور تنازعا ذات يوم، فانتهى الأمر بمعركةٍ قُتِلَ فيها الدّوق، ليَخلُفَه آخر.
“ولكن، ما شأن هذه المدينة؟ لماذا تبدو
على هذا النحو؟”
– آه، تلك آثارٌ خَلّفها الدّوق التّنين حين استخدم قواه قبل مئات السنين. يُقال إنّ هذا الحدث كان الوحيد منذ ألف عام، وإنّ تلك الحفرة الهائلة دليلٌ على عظم قوّته. أليس ذلك مذهلًا؟!
كان هناك سببٌ لمعرفة هذه الحقيقة.
خلال الحرب، مررتُ بمدينةٍ غريبة، وحين بدا لي شكل الأرض غير مألوف، سألتُ أتباعي عن السّبب، فتجلّى لي الأمر.
لكن، هل يُعقَل أن تكون تلك الآثار ناجمة عن هيجان التّنين؟
‘إذا كانت العائلة الإمبراطوريّة على درايةٍ بتلك الحادثة من السّجلات القديمة، فلا عجب أنّهم استغلّوا ذلك في حياتي الثالثة حين بدا أنّ هزيمتهم قد أوشكت.’
ألقيتُ نظرةً سريعةً على الدّوق التّنين. الذي بدا غارقًا في براءته، غير واعٍ بأنّ الحديث يدور حوله، مكتفيًا بالتّحديق في تُوس بصمت.
لكنّ حديث تُوس لم ينتهِ بعد.
– علينا أن نحفظ هذا الخوف من هيجانه في ذاكرتنا. لكنّنا لسنا كأجدادنا. بل سوف نستند إلى هذا الخوف لنعيد صياغة الدّوق التّنين الجديد بطريقةٍ مُحكَمة تحت سيطرتنا.
“…ماذا؟! انتظر!”
– إنّ التنانين ليسوا أخوةً لأفراد العائلة
الأمبراطورية. بل هم الآن أداواتٌ بلا مشاعر.
“ماذا قلت؟!”
– ولحسن الحظ، فإنّ الدّوق التّنين يحتاج إلى اكتساب المعرفة والمشاعر ليكتمل تكوينه، ولذلك فهو لا يُعلَّم شيئًا أن لم يعلمه أحد. حيث لا يجوز لأحدٍ أن يُعلّمه أيّ شيء هنا.
“…”
– فقوّته أعظمُ مما نتصور اذا كان قد تعلم.
كان تُوس أشبه بجهاز تسجيل، يَلفظُ الكلمات
كما سمعها تمامًا.
استمعتُ إلى تلك الكلمات القاسية، وعينايَ تتسعان دهشةً وذهولًا.
ما إن أدركتُ معانيها، حتى شعرتُ بقطراتٍ من العرق البارد تنسابُ على ظهري.
– يومًا ما، سنزرع فيه الجنون فقط، ليغدو
سلاحًا جاهزًا للاستخدام.
عند سماع كلمة الجنون أدركتُ الحقيقة:
‘هل ما رأيتُه في حياتي الثالثة هو صورة الدّوق التّنين حين صار سلاحًا؟’
لكن، وعلى عكس توقّعات العائلة الإمبراطوريّة، فإنّ الدّوق التّنين في حياتي الثالثة لم يكن مجرد أداة.
مخطّطهم لإبادة الكائنات المائيّة فقط انتهى بفشلٍ ذريع.
فقد قضى على جميع الكائنات الحيّة، ولم يتوقّف حتى أوصل العالم إلى حافة الفناء.
‘ظننتُ حينها أنّ خطّتهم تلك كانت مجرد محاولة عبثيّة للإبادة مع الخسارة، لكن الآن…’
حتى الآن، لمجرّد أن أتذكّر وجه ذلك البطل الذكر، كان الغضب يعتمل في صدري كالعاصفة.
– وإن استحال تحقيق هذا كلّه، فاتركوه ليموت. ثمّ أنجبوا دوق تنين جديدًا.
أخيرًا، توقّف تُوس عن الكلام.
كان قد نقل كلّ ما سمعه، ثم مال برأسه قليلًا وهو يقف على يد الدّوق الصّغيرة.
– كاليبسو، تُوس لا يفهم الكائنات الشّبيهة بالبشر تمامًا. لكن…هل الأسود تسعى حقًّا لقتل الدّوق التّنين؟
ابتلعتُ ريقي بصعوبة، وأجبتُ بصعوبةٍ:
“ربّما.”
سواءٌ استُغِلَّ كسلاحٍ أم قُوبِلَ بهذه القسوة فأنهم قد أرادوا قتله في نهاية المطاف.
–لماذا؟! كيف لهم ذلك؟ الأسود إخوة الدّوق، أليس كذلك؟
بالنّظر إلى حيواتي الماضية تبدو الحقيقة واضحة.
مصير الدّوق التّنين في نهاية المطاف هو الموت.
هل يُمكن أن تُسمّى حياةٌ بلا حريّة ‘حياة’؟
ما الفرق بين هذه الحياة والموت؟
قبضتُ يديّ بقوّة حتّى كادت تُدمي.
‘خطيبة؟! لا تنطقي بهذا الكلام البغيض. هاهاها! يبدو أنّ عائلة النمر الكريمة حقًّا تحبّ الإحسان تجاه هذه الأسماك!’
‘إنّهم يربّون تلك السّمكة على هيئة
خطيبةٍ لأبنهم، أليس كذلك؟’
كانت كلماتهم المليئة بالسخرية والازدراء في حيواتي الأولى والثانية لا تزال ترنّ في أذني.
لكنّني رفعتُ رأسي بتحدٍّ، متجاهلةً كلّ تلك القذارات التي حاولت أن أتخلّص منها.
ويا للعجب، أيها الدوق التّنين. كنتُ أتوقُ إلى رؤيتك في هذه الحياة.
لكن حين وجدتك أخيرًا…
‘وجدتك مثلي.’
رؤية طعامٍ فاسدٍ تحاول أن تأكله كي تبقى على قيد الحياة.
المباني المهجورة، والنّاس الذين يهربون لمجرّد رؤيتك.
السّخرية، والازدراء، والقمع.
كلّ هذا أعاد لي ذكرياتٍ أليمة جعلت
الغضب يغلي في داخلي كالنّار.
تقدّمتُ بخطواتٍ واثقة وأمسكتُ بيده الصغيرة.
نظر إليّ الطفل بهدوءٍ، دون أن تظهر على ملامحه أيّ علاماتٍ للدهشة.
كان الطفل جالسًا، بينما كنتُ أنا واقفةً، لكنّ أعيننا التقت عند مستوى واحد.
قلتُ بصوتٍ عميق:
“هل تودّ المجيء معي؟”
كانت كلماتٍ اندفعت من أعماقي دون تروٍّ.
وما كان منه إلا أن رمش بعينيه الذّهبيتين الكبيرتين بدهشةٍ طفوليّة.
رمشَ الطفلُ بعينيهِ الذهبيةِ الكبيرةِ ببراءةٍ، ثمَّ مالَ برأسهِ قليلاً قبلَ أنْ يفتحَ فمَه ويقول مُكررًا بجهلٍ:
“…هل ترغبُ بالذهابِ معي؟”
“…يا إلهي.”
كيفَ لي أن أوصلَ المعنى إلى من لا يُدركُ كلماتي؟!
استدرتُ نحوَ المنقذِ الوحيدِ الذي قد يُساعدني على التواصل معه.
كنتُ قد فهمتُ تمامًا من كلامِ توس أن وجودَه هو ما يجعلُ الدوقَ يتناولُ طعامه.
“توس، هل كان خروجُك من القصر، بل ومن المدينةِ، بهدفِ طلبِ المساعدةِ من أحدهم؟”
– نعم!
هزَّ توس رأسَه بسعادةٍ طفولية.
– الدوقُ يحتاجُ للتعلّم! لكنْ لا أحدَ يُعلّمه
شيئًا. إنهُ يحتاجُ لمن يُساعده!
“…ولكنكَ أنتَ أيضًا كنتَ على وشكِ الهلاكِ
هنا، أليسَ كذلك؟”
ابتسمتُ بمرارةٍ، وأنا أتأملُ في هذا الواقعِ الموحش.
لكنْ، على الأقل، كانَ لدى الدوقِ التنينِ وجودُ توس إلى جانبه.
أما أنا، فلم يكنْ لديَّ أحدٌ قط.
“توس، سأكونُ صريحةً معكَ.”
زفرتُ بعمقٍ، ثمَّ قلتُ بحزمٍ لا يلين:
“برأيي، إذا بقيَ الدوقُ التنينُ هنا، فلن يتعلّمَ شيئًا. إنهم لا يريدونَ لهُ أن يتعلّم.”
– لا يريدون؟! لكنَّ الدوقَ يجب أن يتعلّم!
“صحيح. الطفلُ لا يُربّى بهذه الطريقة.”
وإذا استمرَّ الدوقُ التنينُ على حاله هذا، فقد ينشأُ جاهلًا حتى بقوتِه الخاصة.
‘هذا وضعٌ خاطئٌ تمامًا.’
وإذا ما غيّرتْ العائلةُ الإمبراطوريةُ سياستَها، وأخضعتهُ لعمليةِ غسيلِ دماغٍ ليُصبحَ مخلصًا لهم وحدهم، فقد أفقدُ فرصتي الوحيدةَ للعودةِ إلى دياري بواسطةِ قوتِه.
“توس، قبلَ أنْ أدخلَ في الموضوعِ الرئيسي، لديَّ سؤالٌ كنتُ أفكرُ فيه.”
نظرتُ إلى الدوقِ التنينِ، وعندما شعرَ بنظراتي، رفعَ عينيه نحوي.
كانتْ عيناهُ صافيتين كصفاءِ السماءِ.
ذلكَ الشعورُ الذي راودني من قبل بأنَّهما فارغتان، كانَ صحيحًا.
كانَ أشبهَ بلوحةٍ بيضاءَ تمامًا، خاليةٍ من أيّ شيءٍ سوى البراءة.
“توس، لقد أخبرتني أنكَ الوحيدُ الذي يمكنني سماعُ صوته بسبب…”
–صوتي. تسمعينهُ فقط إذا كنتِ تمتلكين
قوةً تتعلقُ بالزمن.
“قلتَ إنَّ من يمتلكُ قوةً متعلقةً بالزمنِ يمكنهُ سماعُ صوتِك. أليسَ كذلك؟”
– نعم!
“لماذا قلتَ هذا؟”
توقفتُ لحظةً، وأنا أراقبُ الثعبانَ الصغير، متوترًا من الإجابةِ التي قد تأتي.
– لأنني شعرتُ من كاليبسو بطاقاتٍ زمنيةٍ هائلة. والدوقُ يمتلكُ الطاقةَ ذاتها، لذلك أفهمُ كلَّ شيءٍ عنه!
“أنتَ، كخادمٍ مخلصٍ، تعرفُ كلَّ شيءٍ عن الدوقِ التنينِ بفطرتِكَ، أليسَ كذلك؟”
– نعم!
“إذن، هل يمتلكُ الدوقُ التنينُ قوةً تمكنهُ من تجاوزِ الزمنِ والمكان؟ أعني…قوةً تسمحُ لهُ بالتحكمِ بالزمانِ والمكان؟”
– نعم، بلغتكِ، يمكن القولُ بذلك. يمكنهُ الذهابَ إلى أيِّ مكانٍ ورؤيةِ أيِّ زمن!
حبستُ أنفاسي. فقد كانَ ذلكَ سؤالًا مشحونًا بالتوترِ والأمل.
ورغمَ أنني توقعتُ هذا مسبقًا، فإنَّ سماعَ تلك الإجابةِ المؤكدةِ كانَ لهُ وقعٌ مهيبٌ في نفسي.
“هل يستطيعُ الدوقُ استخدامَ هذه القوةِ الآن؟”
– كلا! ما دامَ لم يتعلمْ شيئًا، فلا يمكنهُ
استخدامها. عليهِ أن ينموَ أولًا!
“إذن، إذا نما وتعلّم، سيتمكنُ من استخدامها، صحيح؟”
– نعم!
بعدَ سماعي هذه الإجابة، عرفتُ تمامًا ما يجبُ أنْ أفعله.
رغمَ أنني كنتُ قد حدّدتُ قراري بشكلٍ غريزي مسبقًا.
“إذاً، تُوس، إذا وُجدَ شخصٌ يمكنهُ تعليمَ الدوقِ التنينِ وتنميتَه بالشكلِ الصحيح، هل ستتعاونُ معه؟”
– نعم! سأفعلُ أيَّ شيءٍ من أجلِ الدوق!
“حسنًا، إذاً سلّمني الدوق.”
–…ماذا؟
“سأأخذُ الدوقَ معي. لا يمكنهُ أبدًا أن ينموَ بشكلٍ سليمٍ في هذا المكانِ المجنون.”
كانتْ عيناي تعكسُ رجاءً عميقًا، و حُلمًا طالما سعيتُ إليه.
إذا نما الدوق التنين في هذه الحياة، وتعلم، وأصبح
ممتنًا ليّ…
حينها، سأتمكن من مطالبته بإعادتي إلى دياري بكل ثقة.
كانت تلك الرغبة العميقة تتلألأ في عينيّ.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي
حساب الواتباد الجديد قريبا هتلاقو أحدث الفصول لكل رواياتي عليه♡!
اسم الحساب:
Kariby998@