طفلة الحوت الأسود القاتل - 80
__ الفصل 80 __
‘هل يُعقلُ أنَّ جنونَ الدوقِ التنين قد بدأ فعلاً في هذه المرحلة؟’
رغمَ هذه الأفكارِ التي كانت تجولُ في ذهني، لم أتوانَ عن التحركِ بخطواتٍ متثاقلةٍ نحوَ الباب.
كانت أصواتُ الخطواتِ ما تزالُ تقتربُ شيئاً فشيئاً.
– توس، دعني أسألكَ شيئاً واحداً فقط. أرجوكَ
أن تجيبني بصدق. هل دوقُ التنين في حالةٍ من ‘الجنون’؟
– كلا!
صاح توس بغضبٍ مفاجئٍ:
– الدوقُ بخيرٍ تماماً. إنَّه ليس مريضاً ولا يعاني من أيِّ شيء! إنَّه…!
في تلك اللحظة، قاطعَ صوتُ فتحِ البابِ حديثَ توس، فالتصقتُ غريزياً بالجدارِ محاولةً التخفي.
حين مددتُ رأسي قليلاً لأنظر، كان أوّل ما رأيته هو ظلٌّ عملاقٌ يظهرُ من خلف الباب.
‘يا إلهي، كم هو ضخمٌ هذا الظل؟ ما حجمُ
الدوقِ التنين يا ترى؟’
ابتلعتُ ريقي بصعوبةٍ، وأنا أراقبُ بصمتٍ.
كانَ الشكلُ الذي ظهرَ أخيراً يتجهُ نحو
الأطباقِ المحطّمةِ على الأرض.
‘قليلٌ فقط، قليلٌ أكثر…وسأراه تحتَ ضوءِ القمر.’
وحينما ظهر الدوقُ التنين أخيراً تحتَ ضوءِ القمر، وجدتُ نفسي محدقةً بهِ بذهولٍ شديدٍ.
‘طفل؟’
‘كيف لهذا الظلِّ العملاقِ أن يكونَ مجرّدَ انعكاسٍ لطفلٍ صغير؟’
كان الطفلُ يقفُ مبهوتاً أمام الطعامِ المسكوبِ على الأرض، يُحدّق فيه بصمتٍ، وكأنَّه في عالمٍ آخر.
‘رغمَ شدّةِ الخوفِ التي عمّت الخادمة، فإنَّ الخدمةَ في هذا المكانِ تبدو في غايةِ الإهمال. ترى، هل هو غاضبٌ لأنَّ الطعامَ أُسقِط؟ هل سيثورُ الآن؟’
لكنّ المشهدَ الذي تبعَ ذلك كان أكثرَ غرابةً مما توقّعت.
“انتظر لحظة…!”
وجدتُ نفسي أندفعُ تلقائيًا، ممسكةً بيدِ الطفلِ الصغيرةِ قبلَ أن يفعلَ شيئًا.
“انتظر! هل كنتَ تحاولُ أكلَ هذا الطعام؟”
لم يُجبني، لكنّ يده التي أمسكتها كانت تحملُ حبةَ طماطمَ متعفنةٍ ومهروسةٍ، لا تصلحُ للأكل.
“لكن هذه الحبة…إنّها فاسدة!”
كانت الطماطمُ في حالةٍ يُرثى لها، وأدركتُ ذلك فوراً.
كيف لا؟ فقد اختبرتُ سابقاً مرارةَ تناولِ الطعامِ الفاسدِ حين كنتُ عبدةً لدى عائلةِ النمرِ الأسود.
‘ألا يملكونَ سوى هذا؟! ما الذي
يحدثُ في هذا المكان؟’
كيف للدوقِ التنين، الذي يُفترض أن يكونَ رمزَ الإمبراطوريةِ وأعظمَ كائنٍ يُحترمُ بين الجميع، أن يُعامَلَ بهذه الطريقة؟
ألم يكن من الواجبِ أن يُعامَلَ على الأقلِّ كبشرٍ؟
“دع هذه الحبة، إنّها فاسدةٌ ولا تصلحُ للأكل.”
حين نطقتُ بذلك، شعرتُ أنَّه كان ينبغي أن أختارَ كلماتي بعنايةٍ أكبر، ولكن الوقتَ قد فات.
وحين رفعتُ بصري إليه، رأيتُ وجهه الأبيضَ الناصع.
‘رغمَ أنّ عمره لا يُشبهُ ما كنتُ أتخيله، فإنّ ملامحه لم تختلف أبداً عمّا توقعتُ.’
شعره الأزرقُ الباردُ كان يُثيرُ إعجابي، تحتَه بشرةٌ بيضاءُ كالثلجِ، وعينانِ ذهبيتانِ تخطفانِ الأنظار.
ولكن…لماذا يبدو في هذه الحالة؟
‘ليس هذا هو الجنونُ الذي عهدتُه من قبل.’
لم تكن عيناهُ مشتعلةً بالجنون، بل كانت
شاردةً، تائهةً، خاويةً من الحياة.
‘هل يعاني من سوء التغذية؟’
بدا ذلك واضحاً من خدّيه الغائرين، وعنقه الضعيف، ومعصمه الهزيلِ الذي أمسكته.
‘كأنّ أحداً يتعمّدُ تجويعه ببطءٍ عبرَ
تقديمِ الطعامِ الفاسدِ له.’
وفي تلك اللحظة، انتفضتُ عندما تذكّرتُ كلماتًا سمعتُها ذات يوم:
“دعنا نصبر قليلاً، سيتحسّنُ كلُّ شيءٍ عندما يموتُ ذاك التنين ويُبعَثُ مجدداً.”
‘لكن توس لم يُخبرني بشيءٍ عن هذا.’
شعرتُ بأنّ قطعَ الأحجيةِ بدأت تتّضحُ لي شيئاً فشيئاً، فارتعدتُ من شدّةِ الشعورِ بالرعب.
‘لكن انتظر…لا شيء مؤكدٌ بعد. يجبُ أن أهدأ. قد تعودُ الخادمةُ في أيِّ لحظة.’
“أنتَ الدوقُ التنين، أليس كذلك؟”
“…”
لم يُجبني.
“لا تقلق، لستُ عدوةً. أريدُ فقط أن أتحدثَ معك.”
“…”
وحتى بعد هذا…ظلَّ صامتاً.
“ألا تُجيب؟”
هذه هي المرة الأولى التي أقابل فيها
شخصًا هادئًا مثل والدي.
ما زالَ ينظرُ إليّ بصمتٍ تامّ، يُحدّقُ فيّ تارةً وفي الطماطمِ التي يحملها تارةً أخرى، وكأنَّه غيرُ مدركٍ لما يجري.
“هل ستظلُّ ممسكاً بهذه الطماطم؟ قلتُ
لكَ اتركها فقط.”
وحين فتحتُ أصابعَه بالقوّة، تركَ الحبةَ تسقطُ دون أيِّ مقاومة.
ورغم ذلك، كان يهزُّ رأسه بحيرةٍ وكأنَّه غيرُ متأكدٍ مما يحدث.
“مهلًا! توس، توقف عن البكاءِ وساعدني في هذا الوضع…!”
وسيطٌ بيننا… أو بالأحرى، مَن يُسهل التواصل بيننا، توس، كان عديمَ الجدوى تماماً منذ اللحظة التي أمسكتُ فيها بمعصمِ دوقِ التنانين. فقد كان يبكي بحرقةٍ دون توقف.
“توس…”
ما إن نطقتُ باسمِ الثعبانِ الصغيرِ حتى فتح الدوقُ التنين فمهُ للمرةِ الأولى ونطق بأسم توس.
يبدو وكأنّه لم يكن يعلمُ بوجودِ توس على كتفي حتى تلك اللحظة.
“انظر، ها هو أمامك. لقد أحضرتُ لك تابعَك. لذلك، لماذا لا نتحدثُ قليلاً؟”
“تحدُّث؟ تحدُّث؟”
“نعم، الحديث.”
حينها أشرتُ إلى البابِ المفتوحِ قائلةً:
“في البداية، دعنا ندخلُ، فقد يأتي أحدٌ في أيِّ لحظة.”
المشكلةُ الوحيدةُ هي أنَّ وقتي كان محدوداً. كان عليّ إنهاءُ الحديثِ والعودةُ سريعاً.
بعد لحظاتٍ من دخولِ غرفةِ الدوقِ التنين، زفرتُ زفرةً صغيرةً.
‘يا إلهي، لقد أرعبني.’
حين طلبتُ منه الدخولَ، تجاهلَ كلامي فجأةً وبدأ يجلسُ على الأرضِ محاولًا التقاطَ الطعامِ الفاسدِ ليأكله.
لم أكن بحاجةٍ إلى تدقيقٍ لمعرفةِ أنَّ الطعامَ كان فاسداً تماماً، فاضطررتُ إلى منعهِ وإجبارهِ على الدخولِ بالقوة.
لحسنِ الحظ، كان غضبي قد بلغَ ذروته، فأمسكتُ بياقته وجررتهُ معي.
لكنَّ الغريبَ في الأمرِ أنَّه لم يُبدِ أيَّ مقاومةٍ طوالَ الوقت.
في تلك الأثناء، كان توس يبكي بلا توقفٍ وهو متشبثٌ بالدوقِ التنين.
–دوق…أنا آسف…توس آسف…
لكنَّ الغريبَ أنَّ الدوقَ لم يقم حتى بمعانقتهِ أو مسحِ دموعِه، بل كان يُحدّقُ إليه بلا أيِّ تعبير.
أملتُ رأسي جانبًا وأنا أراقبُ هذا المشهدَ الغريب.
“أيها الدوق، آآه، لا بأس. سأكلمكَ بشكل مريح وواضح أكثر. ألا تستطيعُ أن تمسحَ دموعَ تابعِكَ هذا؟ إنَّه يبكي بحرقةٍ شديدة. هل تعلمُ كم بكى لأنه أرادَ أن يراك؟”
لم يُجبني بشيء.
‘إنّه قليلُ الكلامِ حقًا.’
لو لم يُنطق اسمُ توس في البداية، لكنتُ اعتقدتُ
أنَّه لا يعرفُ الكلامَ أصلاً.
‘لم تكن هذه هي شخصيتهُ التي رأيتها في القصة الأصلية.’
تصرفاتُ الدوقِ التنين كانت غيرَ متوقعةٍ تماماً، سواءٌ حين كان في حالةِ الجنونِ أو حتى الآن.
‘هل يمكنني حتى إجراءُ حديثٍ معه؟’
في تلك اللحظة، رفع توس رأسهُ أخيراً، وقد كان ما يزالُ يشهقُ بين الحينِ والآخر.
لكنّه استطاعَ الحديثَ دون مشاكل.
– كاليبسو، أنا آسف. توس كان سعيداً للغايةِ لدرجةِ أنَّه بكى.
– لا بأس. ابكِ كما تشاء، لكن أرجوكَ أخبرني بما يحدثُ أولاً. ماذا يجري هنا؟
بينما كانت الأسئلةُ تتوالدُ في رأسي، حاولتُ تنظيمَ أفكاري.
لكن ما إن فتحتُ فمي، حتى خرجتِ الأسئلةُ دفعةً واحدة:
– لماذا يأكلُ شخصٌ بمكانةِ الدوقِ التنينِ طعاماً فاسداً؟! بل لماذا يلتقطُ طعاماً من على الأرضِ ليأكله؟
كان مظهرُ الدوقِ التنين يوحي بأنَّه أكبرُ منّي عمراً.
ربما بدا في السادسةِ أو السابعةِ من عمرهِ، لكن في هذا العمر، أليس من المفترضِ أن يكونَ قد تعلّمَ على الأقلِّ الأساسيات؟
– الدوقُ لا يستطيعُ تناولَ الطعامِ من دونِ توس.
– لقد ذكرتَ ذلك أثناءَ ركوبِ العربة. لكن هل كنتَ تقصدُ بهذا أنَّه سيأكلُ من الأرضِ لو لم تكنْ موجوداً؟!
لم يكنْ هذا ما فهمتُهُ حينها.
كنتُ أظنُّ أنَّه نشأ مدللاً ولا يأكلُ إلا بمساعدةِ تابعهِ، لكنَّ الحقيقةَ كانت مختلفةً تماماً.
تردد توس للحظاتٍ وهو ينظرُ إلى يدِ الدوقِ قبل أن يُكملَ:
– كاليبسو، الدوقُ لا يحتاجُ إلى تناولِ الطعامِ ليعيش. حتى لو ماتَ، فإنَّ الدوق التنين التالي سيُولدُ مباشرةً.
– أنا أعرفُ ذلك.
في القصةِ الأصلية، لهذا السببِ تحديداً لم يكن الدوقُ التنينِ مرشحًا ليكونَ بطلَ الرواية.
كان موتهُ يعني ولادةَ دوقٍ جديدٍ يحلُّ محلَّه.
– بصفتي تابعاً للدوقِ التنين، فقد وُلدتُ بفطرةٍ تجعلني أعلمُ كلَّ ما يتعلقُ بخدمته: كيفيةُ رعايتهِ، استخدامُ قوته، الولاءُ له، وكلُّ شيءٍ عنه.
أكمل توس بنبرةٍ حزينة:
– لكن الدوقَ التنينِ يجبُ أن يتعلّمَ كلَّ شيءٍ بنفسهِ منذ ولادته. إن لم يتعلّم، فإنّ جسدهُ فقط سينمو لا عقله.
“إذًا حاليًا، هل هذا يعني أنَّ الدوقَ التنينِ…”
توقفتُ عن الكلامِ للحظةٍ ثم أكملتُ:
“بليد؟”
[توضيح/ بليد تأتي بمعنى ضعيف الإدراك وغليظ الذِّهن، خامِد الفطنة.]
لم يفهم توس معنى الكلمةِ فوراً، فشرحتُها له ببساطة.
حين فهمها، أومأ برأسه موافقاً.
– الدوقُ لا يستطيعُ تناولَ الطعامِ وحدهُ لأنَّ البشرَ لم يُعلّموهُ حتى كيف يمسكُ الملعقة. أما أنا، كوني تابعاً له، فلا يُسمحُ لي بتعليمه.
حين سمعتُ كلامَ توس، بدا الطفلُ الذي يجلسُ أمامي وكأنَّه شخصٌ مختلف.
لم يكن يتجاهلُ كلامي عن عمدٍ، بل ببساطةٍ لم يكن لديه ما يستطيعُ قوله.
في تلك اللحظة، أطبقتُ شفتيَّ بصمت.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي
حساب الواتباد الجديد قريبا هتلاقو أحدث الفصول لكل رواياتي عليه♡!
اسم الحساب:
Kariby998@