طفلة الحوت الأسود القاتل - 79
__ الفصل 79 __
‘فصيلةُ السَّحالِي…لا، بل على الأرجح كائنٌ ذو خِصَالِ الحِرباءِ.’
كنتُ على درايةٍ بهم حقَّ الدِّرايةِ.
ورغمَ أنَّهم لم يكونوا أهلَ بأسٍ في القتالِ، إلَّا أنَّهم في غمرةِ الحربِ أزعجونا أيّما إزعاجٍ، بفضلِ قدراتِهم التي كانت تُحدِثُ الاضطرابَ في صفوفِنا.
وإنَّ مهارتَهم الأساسيَّةَ هي ‘التَّخفِّي.’
يملكون قدرةً عجيبةً تُتيح لهم الاندماجَ في أيِّ بيئةٍ كانت.
وهذه القدرةُ، وإن بدت قريبةً من تلك التي شهدتُها سابقًا لدى الكائناتِ البشريَّة من فصيلةِ أسماكِ السلور، فهي تظلُّ مختلفةً عنها اختلافًا بيِّنًا.
بل إنَّ بين الكائناتِ البحريَّةِ طوائفَ تمتلكُ مهاراتٍ شبيهةً، تتجلَّى في التَّوارِي عن الأعينِ داخلَ بيئاتها الطَّبيعيَّةِ.
تلك المهاراتُ حُظِيَت بعنايةٍ خاصَّةٍ في أوساطِ كائناتِ البحرِ، ولم تكن كائناتُ اليابسةِ لتختلفَ عنها في هذا الشأن.
‘ما لم يتبدَّلْ نظامُ كائناتِ اليابسةِ…فإنَّ
الوضعَ باقٍ على حاله كما كان.’
وبما أنَّ الحرباءَ تُعدُّ ضعيفةً في قوتها القتاليَّةِ، فإنَّها تتحرَّكُ دومًا في فرقٍ مؤلَّفةٍ من اثنين، وغالبًا ما يكون شريكُها كائنًا مفترسًا.
“المنطقةُ هنا هادئةٌ يا هيرا.”
“نعم، كما العهدُ بها دائمًا، هادئةٌ.”
حينئذٍ أطلتْ امرأةٌ تسيرُ بخطًى متثاقلةٍ،
شعرُها بلونِ البيجِ، تتخلَّله بقعٌ سوداء، ويكسو أذنيها شعرٌ حالكُ السوادِ بشكلٍ غيرِ مُرتَّبٍ.
‘ضبع؟’
نعم، تلك المرأةُ كانت كائنًا بشريًّا
من فصيلةِ الضباعِ بلا ريب.
والضباعُ تُعَدُّ بين كائناتِ اليابسةِ من أقوى المفترسين، بل تُعتبر من العائلاتِ ذات النُّفوذِ الرَّفيعِ.
“آه، لما عليّ القيامُ بالدَّورياتِ هنا؟! لم أكن أتوقَّع
أنَّني سأبلغُ هذه الحالَ البائسةَ.”
“هاهاها، جميعُ المفترسينَ الذين يأتونَ إلى هنا يقولونَ الكلامَ ذاته.”
لكنَّ فكرةَ استدعاءِ كائنٍ بشريٍّ من فصيلةِ الضباعِ لمجردِ حراسةِ مبنًى قديمٍ بدتْ لي غايةً في الغرابةِ.
– الحُرَّاسُ المكلَّفونَ بمراقبةِ الدُّوق…أنهم خصومٌ أشدَّاء، ولديهم خطَّةٌ محكمةٌ دومًا لكل شيء.
آنذاك فهمتُ السِّرَّ الكامنَ وراءَ جِدِّيَّةِ توس.
إذا كان حارسُ المكانِ ضبعًا، فإنَّ قِلَّةً من الكائناتِ تجرؤُ على مواجهته.
“ومَن زار هذا المكانَ للمُراقبةِ قبلنا؟”
رفعتُ إصبعي إلى شفتي، مومئةً إلى توس بأنْ يلزمَ الصمتَ، وركَّزتُ سمعي على محادثتهم.
“أوه، لقد جاءَ أفرادٌ من عائلةِ النمر الأسود.”
“ماذا؟ عائلةُ النمر الأسود؟! هؤلاءِ ليسوا مِمَّن يُكَلَّفونَ بمَهامٍّ بسيطةٍ كهذه! ما أشدَّ ما أصابهم من عناءٍ لفعل مثل هذه التراهات كالمُراقبةِ والحراسة هنا.”
عائلةُ النمر، تلكَ إحدى العائلاتِ الرَّئيسيَّةِ في القصَّةِ الأصليَّةِ. ما إنْ سمعتُ اسمَهم، حتى انحبسَ النَّفَسُ في صدري.
‘الأمرُ بالغ الخطورةِ حقًا.’
لو أنَّ أفرادَ عائلةِ النمر كانوا لا يزالونَ هنا، لَما
استطعتُ أن أتقدَّمَ خطوةً واحدةً.
“من ذا الذي يصدِّقُ أننا هنا نراقبُ الدوقَ التَّنينِ، الذي يَجِلُّه الجميعُ ويُوقِّرونه! أيُّ سُخفٍ هذا؟!”
“هيرا، صوتُكِ عالٍ جدًا…أخفضيه!”
“ألا تلاحظ؟ لا أحدَ هنا، أنا واثقةٌ ممَّا أقول. أم أنَّكَ ترى أنَّني على خطأ؟”
“لا، لا إطلاقًا!”
“بالطبع، هذا هو الصَّواب. أنتَ أيضًا تتكبَّدُ عناءَ العملِ تحتَ لواءِ الإمبراطوريَّة. آه، كم أودُّ العودةَ إلى منزلي لألتهمَ قطعةَ لحمٍ دسمٍ! لكن لا يزال أمامي ثلاثةُ أيَّامٍ أخرى للمُراقبة هنا.”
“بالمناسبة، هيرا، هل سيُقامُ المهرجانُ هذا العام؟”
“ألقي نظرةً على هذا المكانِ البائسِ! هل يبدو لكَ أنَّ مهرجانَ التَّنينِ سيُقام؟”
“كلا، لا أظنُّ ذلك…”
“مَن يستطيعُ أنّ يتخيل أن العائلة الأمبراطورية تقومُ بسجنِ الدوق التنين في مثل هذا المكان! كلُّ شيءٍ هنا مزيفٌ بدءًا مِن تلك القلعة المُزينة التي تمَ التظاهرُ بأنَ الدوق التنين يعيش فيها.”
لم يكن توس هادئًا، بل كان جسدُه ملتفًّا حول معصمي، وهو يرتجفُ بشدَّةٍ حتى أصابتني قشعريرةٌ في ذراعي.
‘يا تُرى، أكان ذلك خوفًا أم غضبًا؟’
أمَّا أنا، فقد ظللتُ أراقبُ المشهدَ بهدوءٍ.
“أحذرْ جيِّدًا. العائلةُ الإمبراطوريَّةُ تستغلُّ مواردَ ونفوذ العائلاتِ الكبرى لتمنعَ تسرُّبَ المعلومات. وإلَّا، فكيفَ يستدعونَ عائلة النمر الاسُّودَ للحراسة هنا؟! من أرادَ الحفاظَ على حياته، فليُحْكِمِ الصَّمتَ.”
“نعم…بالطبع!”
“آه، دعنا نصبر قليلًا بعد، فما أن يهلكَ ذاكَ التنين ويُبعَثُ من جديدٍ، لعلَّ الأمورَ تتحسَّنُ.”
“يا الهي…أحقًّا سيحدثُ هذا؟!”
“نعم، هذا ما استنتجتهُ والدتي، وهي ربَّةُ العائلة، فلا أظنُّها مخطئةً.”
“شكرًا جزيلاً على هذه المعلومةِ القيِّمةِ!”
“أجل، لا بأسَ.”
وما أن بدأت أصواتُ الحديثِ تتلاشى تدريجيًّا، فقد كانا يبتعدانِ عن المكانِ.
ثمَّ ما لبثتْ أن اختفتْ تلك الكائناتُ تمامًا عن الأنظارِ.
وقفتُ حينها في مكاني، عاجزةً عن الكلامِ لبرهةٍ طويلةٍ، فقد سمعتُ الكثيرَ، لكنَّني لم أستوعبْ كلَّ ما قيلَ دفعةً واحدةً.
– توس، علينا أن ندخلَ الآن.
– …
– توس؟!
أطبقتُ يدي على معصمي، حيثُ كان توس مُلتفًّا، وملمسُ حراشِفهِ الناعمةِ واضحٌ تحتَ أناملي.
– لا وقتَ لدينا، توس. ينبغي أن أوصلَكَ وأعودَ قبلَ فواتِ الأوانِ. هل تستطيعُ أن تهدأَ قليلًا؟
رفع توس رأسهُ أخيرًا، وقد عادَ إلى شكلهِ الطَّبيعيِّ.
– شكرًا لكِ، كاليبسو.
– أجل، أعلمُ أنَّني مذهلةٌ. دعنا ننتهي من هذا الآن.
رغمَ أنَّني كنتُ أرغبُ بشدَّةٍ في مناقشةِ ما سمعناهُ للتوِّ، لكنَّ الوقتَ لم يكن مناسبًا.
– قلتَ إنَّه ما إن ندخلَ إلى الداخلِ فلن تكونَ هناك أيُّ حراسةٍ، أليسَ كذلك؟
– صحيح! الحراسةُ مشدَّدةٌ في الخارجِ فقط. الدُّخولُ هو الجزءُ الصَّعبُ.
على ما يبدو، كان الحراسُ قد ابتعدوا بما يكفي، لكنَّ حجمَ المبنى ليسَ كبيرًا، لذا من المحتملِ أنْ يعودوا بسرعةٍ.
كان علينا الإسراعُ والدخولُ قبلَ فواتِ الأوانِ.
لحسنِ الحظِّ، لم يكن الدُّخولُ صعبًا عليَّ.
ولو كان شخصٌ آخرُ مكاني، لكان الأمرُ شاقًّا للغاية.
فالمرورُ بجانبِ حيوانٍ مفترسٍ كضبعٍ دون لفتِ انتباهه، والتسلُّلُ إلى مبنًى مُحكَمِ الإغلاقِ بنوافذٍ مثبتةٍ بالمساميرِ، كان ليبدو مستحيلًا.
لكنَّني لم أكنْ كغيري.
– حقًّا، لقد وجدنا فتحةً صغيرةً هنا!
– نعم! توس استخدمَها سابقًا للخروجِ.
كما لقد كان الحظُّ حليفَنا.
بفضل تهالكِ المبنى، كانَت هنالكَ أجزاءٌ متآكلةٌ من الطوبِ، وبينها فتحةٌ تَسَعُ لمروري بصعوبة.
ولقد كان صِغَرُ حجمي بينَ أقراني نعمةً أغدقت بها الأقدار عليّ في تلكَ اللحظة.
وما إن تسللتُ إلى الداخلِ بصعوبة، حتّى ارتسمَ أمامَ ناظريَّ ممرٌّ شاسعٌ فسيحٌ كأنّه يمتدُّ إلى ما وراء الأفق.
‘يا للعجب! حتّى هذا المكانُ واسعٌ إلى حدٍّ مفرطٍ يُثير الدهشة!’
وكما شعرتُ حينما رأيتُ القصرَ الذي يستقبلُ الضيوف، فإنّ هذا المكان، على الرغم من تهالكه، لا يزال شاهداً على عظمة الدوقِ التنين.
يُقالُ إنّ التنينَ الذي غدا حامي الإمبراطوريّة منذ ألفِ عامٍ كانَ ضخماً للغاية، ولذلكَ بُنيتِ القصورُ لتتناسب مع هيبتهِ الفريدة.
– توس، أظنُّ أنّك تعرفُ هذا المكانَ جيّداً، أليس كذلك؟
– أجل، وكأنّها غرفتي الخاصّة! سأقودكِ في طريقنا.
ورغم أن توس أفصحَ لي سابقاً عن الأمر، فإنّ الممرَّ بدا فارغاً تماماً، لا أثرَ فيه لحارسٍ أو دورية.
بل حتى الخدمَ والعاملين لم يكن لهم ظلٌّ في الأرجاء.
‘لو أخبرني أحدٌ بأنّ هذا المكان خاوٍ تماماً، لصدّقته! ولكن كيف يُحكمون الحراسة في الخارج ويتركون الداخلَ بهذا الإهمالِ المشين؟!’
وبالاستناد إلى ما سمعته سابقاً، بدا واضحاً أنّهم يراقبون الدوقَ التنين.
ولكن، ومع هذا التهاون، ألا يُحتمل أن يجدَ الدوقُ منفذاً للهروبِ من داخلِ القصر؟
الأمرُ غريبٌ جداً، وكأنّهم غفلوا عن هذا الاحتمالِ بشكلٍ مثيرٍ للريبة.
– توس، ما الذي حلَّ بالدوقِ التننين؟ كيف للذين يجب أن يُقدّسوه أن يُهملوه بهذا الشكل؟
– لا أعلمُ جيّداً، لم أعِش طويلاً لأدركَ كلَّ شيء. ولكن منذُ أن فتحتُ عيني، كانَت تلكَ الوحوشُ المفترسةُ موجودةً.
وما إن هممتُ بطرحِ المزيدِ من الأسئلةِ على توس، حتى سمعنا وقعَ أقدامٍ قادمةٍ من الجهةِ المقابلة.
تسللتُ بسرعةٍ واختبأتُ بينَ الزخارفِ الكثيفةِ، مستغلةً ظلامَ الممرِّ لإخفاءِ جسدي.
‘خادمة؟’
لقد كانت الفتاةُ التي ظهرت خادمةً ذاتَ ملامحَ بريئةٍ، تحملُ بيدها طبقاً يبدو أنَّه يحتوي على وجبةٍ معدّةٍ للدوقِ التنين.
‘لكن أليسَ الوقتُ متأخراً جداً لتقديم الطعام؟’
غيرَ أنَّ ما أثارَ انتباهي حقّاً كان نظراتِها المرعوبةَ وارتجافَ يديها، حتى إنَّني استغربتُ كيف لم تُسقط الطبق وهي تسيرُ بهذه الحال.
– توس، هل تعرفُ هذه الخادمة؟
– أجل! إنّها متجهةٌ إلى غرفةِ الدوق.
أخبرني توس أنّ الخادمة كانت متوجهةً نحو غرفةِ الدوق التنين، فقررتُ أن أتبعها بصمتٍ دونَ أن ألفتَ انتباهها.
“آه! لماذا أنا دائمًا؟ لماذا يجبُ أن يكون دوري؟ أنا خائفةٌ…لا أريدُ الذهاب…أمي…”
كانت الخادمة تتحدثُ لنفسها، وكأنها في حالةِ ذعرٍ شديد، حتّى وصلت إلى بابٍ ضخمٍ شامخ.
‘هل هذه هي غرفةُ الدوقِ التنين؟ يا لهُ من بابٍ!’
ورغم تهالكِ المبنى، فإنّ عظمةَ البابِ وهيبتهِ ظلتا حاضرتين بقوةٍ تثير الإعجاب.
ومن تحتِ تنورتها، برز ذيلُ فأرٍ صغير، مما دلَّ على أنّها من جنسِ الفأر.
وكانَ هذا الذيلُ علامةً واضحةً على شدةِ خوفها، حيثُ تظهرُ أجزاءٌ من هيئتها الحيوانيّة في لحظاتِ الرعبِ الشديد.
مدّت الخادمة يدَها المرتجفةَ إلى الحبلِ المعلَّق بجوارِ الباب وسحبته، ليُصدرَ جرسٌ صوتًا رقيقًا وجميلًا تردّدَ صداه في الأرجاء.
وبينما كنتُ أفكرُ بجمالِ الصوت، انطلقَ صُراخٌ هائلٌ أرعبني.
‘ما هذا؟! أهو سحرٌ من قوى الماء؟ أم
أنّه شيءٌ أعظمُ وأشدُّ بأساً؟!’
وفي لحظةٍ، تحطّم الطبقُ من يدِ الخادمة، وبدأت بالصراخِ والركضِ هرباً، وكأنها فقدت عقلها من شدّةِ الهول.
وحتى أنا، رغمَ تمالكي، شعرتُ بوخزٍ مؤلمٍ في رأسي للحظات، فما بالكَ بخادمةٍ ضعيفةٍ أمام هذه القوةِ الجبّارة؟
دوي!
ارتفعت أصواتُ خطواتٍ ثقيلةٍ تهزُّ المكان، مما جعل قلبي ينبضُ بقوةٍ من شدّةِ التوتر.
‘بناءً على حديثِ الحرباء والضبعِ سابقاً، فإنَّ الإمبراطورية قد أمرت بحراسةٍ مشددةٍ وسجنٍ للدوق التنين. وهذا يعني أنّ لديهم سبباً قاهراً دفعهم لفعلِ ذلك.’
والاحتمالُ الأوضحُ كانَ بلا شكٍّ هو ‘الجنون’.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي
حساب الواتباد الجديد قريبا هتلاقو أحدث الفصول لكل رواياتي عليه♡!
اسم الحساب:
Kariby998@