طفلة الحوت الأسود القاتل - 78
__ الفصل 78 __
“سأتظاهرُ بأني لم أسمعْ ما قلتِ للتوِّ. رغم أنني أدركتُ شيئًا مؤخرًا…”
نظرَ والدي إليَّ مباشرةً، ثم مدَّ يدهُ وقرصَ خدي بلطفٍ.
لم يكنَ الأمرُ مؤلمًا، لكن شدَّةَ خدي الممطوطين أزالت فجأةً الجوَّ الجادَّ، وشعرتُ وكأنَّ كلَّ شيءٍ قد انهارَ فجأةً.
“أنتِ بحاجةٍ لأن تكوني أكثرَ طفوليةً.”
“ماذا؟”
“أعترفُ، حتى أنا لم أكنْ بمثلِ إمكانياتكِ في سنِّ الثالثة. من المعروفِ أن العباقرةَ يُظهرونَ نضجًا مبكرًا. في هذه الحالات، من المهمِّ تقديمُ تعليمٍ يناسبُ مستواهم العقلي، مع السماحِ لهم بالاستمتاعِ بما يستمتعُ به أقرانهم.”
…ما هذا الكلام؟
مع استمرارِ حديثِ والدي، بدأتُ أشعرُ بالارتباكِ أكثرَ فأكثرَ دونَ وعيٍ مني، ووجهتُ نظري إلى ما حوله.
لم أكنْ قد أوليتُ اهتمامًا لما يحيطُ بنا منذ لحظةِ دخولي الغرفةِ، فقد كانَ هدفي الوحيدُ هو الحديثُ عن النقطةِ الرئيسية.
‘كتاب؟’
بالقربِ من قدميه، كانَ هناكَ كتابٌ مقلوبٌ، وكأنهُ كانَ يقرأهُ ثم تركَهُ مؤقتًا.
حين قرأتُ عنوانَهُ، اجتاحتني مشاعرٌ لا أستطيعُ وصفَها.
「كيف تُربِّي طفلكَ بطريقةٍ صحيحةٍ」
رمشتُ بعيني عدةَ مراتٍ.
ثم خرجتْ من داخلي ملاحظةٌ صريحةٌ للغاية.
“لا يُناسبك.”
أن يقرأَ العظيمُ ‘بايير’ كتابًا عن التربيةِ؟ حتى لو قلتُ هذا لأحدٍ آخرَ، لن يُصدقني أحدٌ.
وأيضًا، أنا لستُ عبقريةً، بل أنا فقطُ شخصٌ عائدٌ إلى الماضيِ.
آسفةٌ، ولكن فكرةُ النموِّ الصحيحِ كانت قد استُبعدتْ تمامًا منذ فترةٍ طويلة.
“بعدَ كلِّ هذا الإهمالِ، هل تعتقدُ أن قراءةَ هذا الكتابِ الآنَ ستجعلكَ والدًا جيدًا؟”
“ربما، ولكنْ ما العيبُ في المحاولةِ؟ هل كنتِ تعتقدينَ أنني لن أحاولَ حتى؟”
“نعم.”
“…يبدوُ أنني قد حصلتُ على تقييمٍ سيءٍ للغايةِ.”
“لو كنتَ مهتمًا، لاعتبرتني فتاةً في الثالثةِ منذ البدايةِ. ما الذي سيتغيرُ الآنَ بعدَ أن تنظرَ إليَّ بهذهِ الطريقةِ؟”
لو كنتَ قد أوليتَ اهتمامًا منذ حياتي الأولى، لكانَ الوضعُ مختلفًا.
الآن، حتى وإن حاولتَ التغييرَ، فلن يُغيِّرَ ذلكَ شيئًا.
لقد اتخذتُ قراري بالعودةِ إلى منزلي، ولن يغيِّرَ هذا التغييرُ قراري.
رفعني أبي بين ذراعيهِ، ونظرَ إليَّ من جميعِ الزواياِ.
“هلْ بسببِ السفرِ الطويلِ؟ تبدو تعابيرُ وجهكِ اليومَ غريبةً. هل تشعرينَ بالألمِ؟”
“بمن تشبَّهتُ لأكونَ بهذا الصلابةِ برأيكَ؟ أنا قويةٌ بما يكفي لعدمِ الشعورِ بالإرهاقِ أو المرضِ من سفرٍ كهذا. ألم ترَني في غُرفةِ الطعام وأنا أُسقطُ ذاك الثعلبَ؟”
ضحكَ أبي بصوتٍ منخفضٍ.
“أجل، كانَ ذلكَ مُرضيًا.”
“…”
أعترفُ بذلك.
لو أننا وصلنا إلى هذه العلاقةِ مبكرًا قليلاً، ربما كنتُ قد فكرتُ بشكلٍ مختلفٍ.
أو على الأقل، لو عشتُ على هذا النحوِ حتى سنِّ العاشرةِ، ربما كنتُ سأفكرُ بطريقةٍ مختلفةٍ.
‘وصلنا إلى مدينةِ التنينِ بسرعةٍ كبيرةٍ.’
ما قامَ بهِ من أجلي قد أصبحَ الآنَ سببًا لعدمِ قدرتنا على البقاءِ معًا.
إنَّ الطريقَ للعودةِ إلى منزلي باتَ قريبًا للغايةِ، فلماذا يجبُ عليَّ أن أستسلمَ الآن؟
‘لكنَّ ردَّةَ فعلهِ قبلَ قليلٍ كانت مُرعبةً…’
لو قلتُ لهُ فعلاً أنني أريدُ البقاءَ هنا وحدي، ربما كانتْ العواقبُ ستكونُ وخيمةً.
عليَّ أن أكونَ حذرةً.
بعدَ تفكيرٍ قصيرٍ، توصلتُ إلى نتيجةٍ بسيطةٍ.
سأتظاهرُ بعدمِ معرفتي مؤقتًا.
سيحدثُ ما سيحدثُ.
لم يكنْ ذلكَ مجردَ يأسٍ أو تأجيلٍ، بل كانَ قرارًا مؤقتًا حتى ألتقي بالدوقِ التنينِ.
كلُّ شيءٍ سيصبحُ واضحًا بعدَ ذلك.
ومعَ ذلكَ، وجدتُ نفسي أنظرُ إلى والدي وكأنني شخصٌ لا يزالُ متعلِّقًا بهِ.
“…يا مُعلِّمي، كُنْ جيدًا معي.”
حتى وأنا أقولُ ذلك، كنتُ أعلمُ أنني
أمتلكُ عنادَ حوت الأوركا.
وأنا أعرفُ مدى تَعلُّقِ الأوركا، لأنني واحدةٌ منهم.
لو كنتَ والدي المُحبَّ منذ البدايةِ، لما كنتَ قد تُوفيتَ بسببِ المرضِ.
حتى وإن كنتَ تُعاني من ألمٍ مبرحٍ، ربما كنتُ سأمنعُ وفاتكَ.
نحنُ أفضلُ الآنَ كما نحنُ عليهِ.
“حسنًا. سأفكرُ يوميًا في كيفَ أستطيعُ أن أكونَ أفضلَ من أجلكِ.”
لم أجبْ على ذلك.
حتى دفءُ حضنهِ قررتُ أن أتركَهُ يمرُّ بصمتٍ.
***
وفي تلك الليلة.
حين كانَ الليلُ قد أرخى سدولَهُ تمامًا، فتحتُ عيني فجأةً.
في الواقعِ، لم أكنْ نائمةً، بل كنتُ أرقبُ الوقتَ بعينينِ مفتوحتين، أنتظرُ مرورَه فقط.
‘لقد كانَ من الجيّدِ أنني أخذتُ قيلولةً في النهار.’
بعد أن خضتُ حديثًا عجيبًا ومُربكًا مع أبي، عدتُ إلى غرفتي واستلقيتُ مباشرةً.
كنتُ أعلمُ أن التفكيرَ فيما جرى لن يُفضي إلّا إلى تعقيدِ مشاعري، لذا أجبرتُ نفسي على النومِ، على غيرِ رغبةٍ منّي.
“يا للعجبِ! يبدو أن سيّدتنا الصغيرةَ قد أُرهِقت كثيرًا!”
“حقًّا! إننا نراها تغفو بين الحينِ والآخر! كم هي لطيفةٌ…!”
وحينما حلّ المساء، أيقظتني أصواتُ خادماتي سمكات الرنجةِ الثلاث يدعونني لتناول الطعام.
نهضتُ قليلًا، وتناولتُ وجبتي.
ولسببٍ ما، كان بيلوس حاضرًا أثناء العشاءِ أيضًا.
وجدتُ نفسي عاجزةً عن مواجهةِ عينَي أبي مباشرةً، فاكتفيتُ بالتركيزِ على الطعام.
ومِن ثَمّ، أصبح حديثي منصبًّا على الخادماتِ العائداتِ من التنزّهِ وميسيا.
“كيف كانت مدينةُ التنين؟”
“رائعةٌ! كانت مختلفةً تمامًا عن منطقتِنا!”
“أجل، لقد بدأ الاحتفالُ التحضيريُّ للمهرجان، وكان ممتعًا للغاية.”
“هل تعرّضتنَّ لأيِّ مشكلاتٍ أو مضايقات؟”
“لا، لقد ارتدينا أرديةً للتخفّي، فلم يتعرّض لنا أحد. وكان هناك كثيرون في السوق يرتدون مثلنا.”
كانت الخادماتُ وميسيا مفعماتٍ بالحيويةِ والنشاط.
حتى ميسيا، التي عُرفت بهدوئها، كانت وجنتاها محمرّتَين وهي تشرحُ بحماسةٍ ما رأته.
وأنا أراها، لم أتمالك نفسي عن التفكير…
‘حتى لو لم أتمكّن من الخروج، فمن الجيّد أنهنَّ استمتعن.’
وبعد أن انتهينا من تناول الطعام، استلقيتُ متظاهرةً بالنومِ حتى حانت اللحظة المناسبة.
‘ليس وكأنني كنتُ مستلقيةً بلا جدوى.’
بعد العشاء، أخرجتُ الأدواتَ التي طلبتُها مسبقًا من الخادماتِ: خنجرًا صغيرًا للأطفال، وحزامًا يُربطُ على الخصر، وعباءةً صغيرةً كنتُ قد تظاهرتُ برغبتي في تجربتها.
‘أثناء استلقائي، استفسرتُ من توس عن تفاصيلِ هذه المنطقةِ.’
– كاليبسو، هل أنتِ جاهزة؟
حينما كنتُ أرتدي العباءة، كان توس جاهزًا بالفعل، ملتفًّا حول معصمي.
– نعم، أنا مستعدة. لنذهب.
فتحتُ النافذة.
ورغم أنّ المكانَ كان مرتفعًا للغاية، قفزتُ دون تردّد.
وأثناء القفز، أمسكتُ بغصنِ شجرةٍ قريبةٍ، مما قلّل من سرعتي.
بالنسبة لشخصٍ عاديٍّ، كان ذلك كافيًا ليخلع كتفيه، لكنّ جسدي، الذي اشتدّت قوته، لم يتأثّر.
هبطتُ على الأرض بسلاسةٍ ودون صوتٍ يُذكر.
‘لم أفعلْ شيئًا كهذا منذ مدةٍ طويلة.’
في حياتي السابقة، لم يكن لديَّ أيُّ مواردٍ تُعينني، فكنتُ أضطرُّ للتصرّف بمفردي.
كان من بين تلك المهام مراقبةُ أعدائي ليلًا، وما زالت ذكرياتُ تنقّلي بين أسطح المنازل حاضرةً في ذهني.
– الغربُ، أليس كذلك؟
– نعم! ينبغي أن تركضي لمسافةٍ طويلةٍ جدًّا!
من ميزاتِ الحديث مع الكائنات نصف البشريةِ هو أنّ صوتنا كان يصلُ فقط لبعضنا البعض، أشبهَ بما يُسمّى في الرواياتِ القتاليةِ ‘النقلَ الصوتي’.
حيث كانت تلك الأصوات تنتقل ما بين رؤوسنا نحن الأثنين فقط وكأنها أشبهُ بمجموعةٍ من الأفكّار تنتقل منهُ وإليّ وبالعكس.
– فهمتُ المسافةَ تقريبًا. تمسّك جيدًا، سأركضُ بأقصى سرعتي.
– ماذا؟! آآآآآه!
كانت تلك أول مرةٍ أكتشفُ فيها أنّ الثعابين يمكنها أن تصرخ.
***
وبعد عشرين دقيقة.
تحدّث توس بصوتٍ مرتعشٍ:
– كاليبسو، سرعتكِ مدهشة! مدهشة للغاية!
– ولماذا كلُّ هذا الذعر إذن؟ أنّ الدوقُ التنين يركضُ أسرعَ مني بكثير.
– الدوق…لا يستطيع الركض.
– لماذا؟
– المكان الذي هو فيه ضيّقٌ للغاية وصغير.
كانت إجابته غامضةً، ولم يُفصح عن المزيد.
رفعتُ رأسي، فلم يكن هناك داعٍ للسؤال؛ كنتُ على وشك معرفة الحقيقةِ بنفسي.
وبالفعل لقد وصلتُ أمام المبنى الذي وصفه توس.
– ما هذا؟! هذا مربكٌ للغاية.
لم أستطعْ إخفاء دهشتي وأنا أنظرُ إلى المبنى.
كان يبدو كقلعةٍ قديمةٍ مهجورةٍ، أشبه بمأوى للأشباح.
هل يمكنُ أن يكون هذا هو المكانُ الذي يعيشُ فيه الدوقُ التنين؟!
حتى القصرُ المخصّصُ للضيوف كان رائعًا، ناهيك عن القصر الذي قيل إنّ الدوق يسكنُه، والذي وُصف بالعظمةِ والجلال.
‘كلُّ ما سمعته كان خاطئًا تمامًا.’
رغم ذلك، حقيقةُ أن الدوقَ يعيش هنا كانت كافيةً لتكشف أن ظروفه ليست على ما يُرام.
– كيف يمكننا الدخول؟
– كاليبسو، كوني هادئة من الآن فصاعدًا.
قبل أن أستوعب كلماتَ توس، انخفضتُ بسرعةٍ دون تفكير.
كانت حجارةُ الجدران سوداءَ داكنةً، وتحت ضوء القمرِ أظهرت لمعانًا أزرقَ خافتًا.
ومن مكانٍ بدا خاليًا تمامًا، ظهر شخصٌ فجأةً.
رأيتُ بعينيَّ كيف تحوّل لونُ جلده وملابسه من الأسود الداكن إلى لونِ البشرةِ الطبيعي.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي
حساب الواتباد الجديد قريبا هتلاقو أحدث الفصول لكل رواياتي عليه♡!
اسم الحساب:
Kariby998@