طفلة الحوت الأسود القاتل - 64
__ الفصل 64 __
بصورة غريزية، هممت باتخاذ وضعية دفاعية، ولكن، يا للعجب! إذ بيدٍ كبيرة تقترب من خدي ثم…
قامت بقرصه بخفة دون أن تسببَ ليّ ألمًا.
“ماذا ت-تفعل؟ و-ولماذا تقرصني؟”
خرجت كلماتي بنطقٍ غيرِ صحيحٍ بسبب اليد التي أمسكت بخدي وكانت تسحبه بلطف.
“أوه، يبدو أنني لو فعلت ذلك فسوف يسوء نطقكِ.”
“لا، م-ما ه-هذا الذي ت-تقومُ بهِ؟”
وعندما دفعتهُ بعيدًا عني، انسحبت يده بسرعة، وكأن نيته لم تكن البقاء هكذا طويلاً.
“هل تقوم بإساءة معاملةِ طفلةٍ صغيرةٍ الآن؟”
كان ذلك في اللحظة نفسها.
التفت بفزع تجاه الصوت الذي لم أسمعه من قبل.
وكان ذلك بيلوس، الذي أنزل الكتاب
الذي كان يطالعه ونظر نحوي.
‘ماذا يقول هذا الأحمق؟’
كان الأمر صادمًا. ماذا يقصد بقوله هذا؟
“لم أكن أعلم أن السيد بايير، الذي يقال إنه قوي مثل سيدةِ العائلة وغيرُ مهتمٍ بأيَّ شيءٍ، لديهِ هوايةُ مضايقةِ طفلةٍ لا تصلُ حتى إلى ركبتيه.”
أدركت حينها.
‘هذا اللعين، إنه يحاول بدء شجار.’
يقولون إن الأبناء مرآة آبائهم.
ولكن إخوتي هؤلاء لا يملكون حتى مرآةً، فمن
أين تعلموا هذه الصفات العجيبة؟
ربما لأنهم نشؤوا بهذه الطريقة.
‘أسمع كلامًا عجيبًا وغريبًا حقًا في الآونة الأخيرة.’
ولحسن الحظ، كان والدي شخصًا راشدًا.
“أنتَ من جاء راكضًا وراءنا، فلا
تزعجنا بالكلام غير المجدي.”
… إنهُ ليس شخصًا راشدًا جدًا.
حقًا، كانت العلاقة بين الأب والابن
باردة كرياح الشتاء.
‘لا أملك أبًا.’
لماذا أتذكر الآن تعبيرَ بيلوس عندما قالَ
تلك الكلمات بوضوح؟
على الرغم من ذلك، أجينور كان يتعامل
مع والدنا بشكل جيد.
هل المشكلة تكمن في شخصية بيلوس؟
ولكن، لم يكن من العدل لوم بيلوس وحده.
فوالدي هو السبب الأساسي في النهاية.
‘لماذا أفكر في أمور معقدة كهذه؟ هذه ليست
مشكلتي أصلاً.’
ولكن، كان من الضروري منع الشجار بين هذا الصبي المراهق وأبي في هذه اللحظة.
ماذا لو تحطمت العربة أو أصيب أحدهم بجروح خطيرة؟
سيؤثر ذلك على رحلتنا لحضور مهرجان التنين.
“إذا كنتم تريدون الشجار، فعليكم القيام بذلك خارج العربة. وإذا كان أحدكم سيموت، فتأكدوا من دفنه بشكل لا يلفت الانتباه.”
“…”
“أنا أريد حقًا الذهاب إلى مهرجان التنين. إذا أصيب أحدكم واضطررنا للعودة، ماذا ستقول جدتي؟”
وبهذا التصريح، حاولت التدخل بقدر
الإمكان للحفاظ على الهدوء.
نعم، إذا كنتم ستتقاتلون، فلتكن معركة
حتى النهاية في الخارط.
وبالطبع، بيلوس سيخسر.
“إذا حدث شيء بالفعل ومات أحدكم، لن أستطيع الذهاب إلى مهرجان التنين، أليس كذلك؟”
نظرتُ إليهم واحدًا تلو الأخر بعيونٍ مُشتعلةٍ.
“إذا حدث ذلك، سأجعلكم تندمون طيلة حياتكم.”
وعلى الرغم من قولي ذلك، لم أعتقد حقًا أن هؤلاء سيأخذون كلامي على محمل الجد.
كان الأمر مجرد محاولة مني للتهدئة قليلاً.
أما إذا بدأ الشجار…
‘سأسرع نحو العربة التي فيها ميسيا.’
بينما كنت أفكر في ذلك ألقيت
نظرة خفيفة عليهما…يا للعجب.
لقد هدأ الجو داخل العربة.
ما هذا؟ لماذا أصبح المكان هادئًا؟
بل وحتى الجو المشحون بالتوتر، الذي كان يبدو أنه سينفجر في أيَّ لحظةٍ، اختفى.
يمكن أن نقول إن والدي يمكن أن يفعل ذلك، ولكن
لماذا هدأ بيلوس بهذه السهولة؟
‘هل شعر بالإحباط بسبب هذه الفوضى؟’
ربما، فهذا ممكن.
من وجهة نظره، أنا، البالغة من العمر ثلاث سنوات فقط، لا أبدو إلا كسمكة صغيرة خرجت من البيضة.
ربما كان يشعر أن الأمر كان سخيفًا.
إنه لأمر جيد.
‘إذا لم نستطع مغادرة المكان بسبب شجاركم، فمن
الأفضل أن تبقوا هادئين.’
لكنني تجاهلت شيئًا واحدًا.
ففي حين قد يكون والدي وأخي الأكبر
معتادين على الصمت والهدوء.
أنا لست كذلك.
ولا أحب مثل هذا الجو.
‘أليست تلك المرأة قادمة من البحر الغربي؟’
آه، أشعر وكأن رائحة السمك تفوح منها.’
‘بففت…! لا تقل هذا، فقد تسمعك.’
في الأماكن الهادئة، حتى الكلمات التي لا ترغب
بسماعها يمكن أن تكون واضحة جدًا.
وتصبح الأمور التي لا ترغب في تذكرها محفورةً
في ذهنك لتزعجك وتسيطر عليك.
‘آه، أشعر بعدم الارتياح.’
‘ربما هذا بسبب التوجه إلى أرض
هؤلاء البريين الأوغاد.’
رغم أن مدينة التنين تبعد عن العاصمة مسافةً ليست بالقصيرة، إلا أنها لا تزال تقع داخل أراضي الإمبراطورية.
على عكس المكان الذي تقطنُ الحيتان القاتلة
الواقعة على حدود الإمبراطورية.
“مُعلِّمي كيف يكون مهرجان التنين؟”
“ألم تكوني تعرفين بالفعل كيف يكون بل
كنتِ تترقبينَ ذلك فحسب؟”
لم أجد بُدًّا سوى أن أبدأ الحديث مع والدي.
بالطبع كنت أعلم بالفعل، ولكنني تعمدت طرح السؤال.
“أجل، أعرف. لكن سماع قصة من شخص حضر المهرجان وخاض التجربة مرةً واحدة يختلف عن المعرفة النظرية.”
لقد كان تقديري أن الحوار غير المجدي مع والدي
أفضل من الصمت وسط هذه العربة.
“أنتَ ذهبت إلى هناك، أليس كذلك؟”
“لم أحضر مهرجان التنين، ولكنني شاركت في المهرجانات والحفلات التي أقيمت في العاصمة الإمبراطورية.”
“حقًا؟ متى ذهبت؟”
“أتذكر أنني ذهبت عدة مرات في صغري. أما بعد أن أصبحت بالغًا، فقد شاركت في مهرجانين فقط.”
لقد كان أكثر مما توقعت.
“لقد شاركت في الكثير من المهرجانات، أليس
كذلك؟ كيف كانت التجربة؟”
“لا تختلف كثيرًا عن المهرجانات التي تقيمها الحيتان القاتلة. ربما تشبه إلى حدٍ كبير مهرجان الماء.”
كان مهرجان الماء هو أكبرُ حدثٍ يجمع جميع
أفراد سويين الحيوانات المائية.
وكان يُقال إنه يعادل مهرجان الأرض الخاص بالبريين، ومهرجان التنين الخاص بالدوق التنين، ليُعتبروا معًا ثلاثية المهرجانات الكبرى في الإمبراطورية.
بالطبع، كان البريين يسخرون من مهرجاناتنا
بوصفها ‘حفلات روائح السمك الكريهة.’
“يتجمع هناك عدد كبير جدًا من الناس، وتندلع العديد من المعارك، كما أن هناك من يموتون في تلك الفوضى.”
“هل نتحدث عن مهرجاننا حقًا؟”
كيف يمكن لشرح مهرجان يُفترض أن يكون
مبهجًا أن يتضمن كل هذا الدماء؟
“لا أعلم، ولكن ذكرياتي كلها تقتصر على القتال.”
“مُعلِّمي هل كنتَ تتعمدُ إثارة المشاكل؟”
“بشكل أدق، كنت دائمًا المستهدف
بالمشاكل، لا من يثيرها.”
بدأ والدي يحكي لي بعضًا من مغامراته
في مهرجان التنين.
لقد قاتل دبًا قطبيًا. وفاز.
ثم قاتل نمرًا عمره خمسون عامًا. وفاز.
ثم قاتل ثلعبًا استخدم السم، لكنه رغم ذلك فاز أيضًا.
ما هذا بحق السماء؟
“هل من الممكن أن يكون وجودك بحد ذاته مصدرًا للمشاكل؟ لماذا لا تحتوي قصصك هذه عن المهرجانات إلا على القتال؟”
“الأمر الأهم هو أنني فزت.”
“بالطبع يجب أن تفوز. الهزيمة أمام البريين
ستكون عارًا علينا.”
أجبت بجفافٍ ثم أكملتُ:
“أنت فخر الحيتان القاتلة يا مُعلِّمي.”
“…”
إنه لأمر استثنائي أن يكون شخصٌ مثل بايير ليس برئيس العائلةِ حتى، أن يكون قويًا بما يكفي لمقارنتهِ بجدتي.
لقد أثنيت عليه، لكن لو لم يصب والدي بالمرض، لما كان هناك حاجة لاختيار وريث بين الأحفاد الآن.
كانت جدتي، المهووسة بالقوة، ستختاره بلا تردد.
‘لا عجب أنه في حياتي السابقة، حتى بعد أن أصبحت رئيسةَ العائلةِ، ظل أتباعي يتحدثون عنهُ طيلةَ الوقتِ.’
قرأت مرةً أن النجوم المتلألئة هم أولئك الذين
يجذبون المعجبين والمنتقدين على حدٍ سواء.
إذا نظرنا من هذا المنظور، فإن والدي، الذي استمر ذكره سواءً بالإيجاب أو السلب، كان نجمًا في عائلةِ الحيتان القاتلة.
‘أعترف بأنه شخصٌ رائعٌ. قوتهُ أمرٌ مُدهِشٌ حقًا.’
وبينما كنت أفكر في ذلك، رفعت رأسي
لأجد والدي ينظر إلي.
كانت نظرتنا قد تلاقت، لكن للحظة قصيرة، بدا
على وجهه تعبير غريب.
ما هذا؟ لم أره من قبل هكذا. بدا وكأنه نوع من الأحراج…
“ما الأمر؟ هل يمكن أن تكون…تشعرُ
بالخجلِ يا مُعلِّمي؟”
“لم أختبر هذا الشعور من قبل، لذا لا أعرف. لكنني أشعر بالارتباك، وهذا شيء لم يحدث ليّ منذ فترة طويلة…”
“عادةً ما يُطلق الناس على هذا الشعور بالخجل. ألا تعتقد أنه أمرٌ غريب أن تشعر به الآن بعد كل هذا الوقت؟”
مال والدي رأسه قليلاً كما لو أنه يحاول فهم ما يجري.
‘هل هذا هو الوقت المناسب لكي أوجه
لهذا الأب كلماتٍ استفزازيةٍ؟’
هل يمكنني أن أرد له قليلاً من تلك الأيام الصعبة التي قضيتها في التدريب تحت إشرافه؟
شعرت شفتي ترتعش، وكانت الإثارة تملأ قلبي.
كنت على وشك أن أقول شيئًا آخر عندما…
“في مهرجان التنين، يُسمح بالمبارزات والقتال.”
صوت خافت قطع حديثي وأجبرني على التوقف.
عندما نظرت، رأيت بيلوس يبتسم بشكل غامض.
“ولهذا، فإن طريقة استمتاع الحيوانات العادية بالمهرجان تختلف عن تلك الخاصة بالوحوش
المفترسة.”
“…حقًا؟”
رغم أنني كنت غير راضية، إلا أن حديثهُ كانَ مُثيرًا للاهتمامِ بحيث لم أتمكن من تجاهلهِ.
في حياتي السابقة، سمعت كثيرًا عن مهرجان
التنين، لكنني لم أشارك فيه قط.
لقد ساءت علاقتي مع البريين بعد أن
أصبحت رئيسة العائلةِ.
‘على أيَّ حال، لقد انتقمت منهم بما فيه
الكفاية في حياتي السابقة.’
لكنني تساءلت، ما الخطأ في الانتقام ممن
آذوني بعد أن اكتسبت القوة؟
هؤلاء الأشخاص كانوا قساةً معي في كُلِّ حياةّ، لذا لم أشعر بالذنب مطلقًا عند القتال معهم.
“إذا كنتِ ترغبينَ في الاستمتاع بالمهرجان بشكل كامل ودون قتال، فهناك طريقةٌ جيّدةٌ.”
“ما هي؟”
“قومي بتقليد الكائنات الضعيفة.”
“….”
“يمكنك تقليد سمكة صغيرة، أو حتى سلحفاة. ربما جورين أو فيلبير سيكون خيارًا مناسبًا.”
يا لهُ من متقنٍ في استفزازاته هذه.
كان أرنب البحر، والمعروف أيضًا باسم ‘جورين’ و’فيلبير’ من المخلوقات التي تُدعى أحيانًا بـ ‘أرانب البحر’.
‘هل حقًا يستخدم مثل هذه الطريقة السخيفة
ليجعلني أصمتُ؟’
يا لهُ من وغدٍ.
ولكن، لأسباب غير معروفة، استمر بيلوس في الحديث عن مهرجان التنين، وكشف عن معلومات مفصلة.
ورغم أنني شعرت بالإهانة وحاولت تجاهل حديثه، إلا أن قصصهُ كانت مثيرة للاهتمام لدرجة أنني لم أستطع إلا التركيز عليها.
‘هذا الشخص كان يجب أن يصبح معلمًا بدلاً من المشاغبة والعبث هنا وهناك. أو ربما حكواتيًا.’
لقد كان يمتلك موهبةً لدرجةِ أنهُ لو افتتحَ أكاديميةٍ للتدريس، لكان المُعلِّم الأول والأفضل بلا شك.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي