طفلة الحوت الأسود القاتل - 40
__ الفصل 40 __
وبالقربِ من مقعدِها كان أجينور جالسًا، حيثُ
بدا وكأنَّه قد وصل مُبكِّرًا.
وعندما تلاقَتْ أعينُهُما، لَوَّحَ بيدِهِ بشكلٍ غيرِ رسمي.
هذا التصرُّفُ العفوي أثار استغرابَ مَن حولهما.
“هل قامَ صاحبُ السُّموِّ الأمير أَجينور
فعلًا بالتلويحِ بيدِهِ بشكلٍ وُدِّي لأختهِ؟”
“يا للعَجَب! من المعروف أنَّ علاقتَهُ
بإخوتِهِ ليست جيِّدة.”
“أليس من الشائع أنَّ الأمراء أبناء بايير لا
يتحدَّثون مع بعضهم البعض؟ بل وحتى عندَ
لِقائهِمْ يكونُ الشِّجارُ هو السَّائدُ بينَهم.”
أخذت كالِيبسو تتفحصُ أرجاءَ القاعةِ حتى توقَّفَتْ عيناها عند مجموعةٍ من الوجوهِ المألوفة.
كانت تلك وجوه بايون وأعوانِهِ.
ويبدو أنَّهم كانوا يُحدِّقون بها بنظراتٍ عدائيةٍ حتى قبل أن تلتفتَ إليهم، إذ كانت نظراتُهُم مليئةً بالغضبِ.
‘تبدو نظراتهم وكأنهم يريدون تمزيق جسدي وقتلي.’
عند هذا، ابتسمت كالِيبسو بسخريةٍ.
ثم ابتسمت بلطفٍ ورفعت إصبعَها الأوسطَ في وجهِهم.
قد لا يفهمونَ معنى هذا التصرُّف، لكنَّه بالتأكيد
لن يكونَ أمرًا مُفرحًا لهم.
تحوَّلت نظرات كالِيبسو من بايون الغاضبِ إلى السيدةِ التي تجلس بجانبهِ، ذات المظهرِ الهادئ.
‘كما توقعت، لم يحضر عمي.’
كان من المفترض أن يأتيَ أحدُ الوالدين.
ولم يكن الأمرُ مهمًّا من منهما يحضر.
كانت تلك السيدة هي زوجةَ عمِّي.
‘تبًا. كان من الأفضلِ لو حضر عمي بنفسهِ.’
كانت تلك السيدةُ الهادئةُ، رغم كل الضوضاءِ من حولها، ورغم نظراتِ ابنها العدائيةِ، تجلسُ ببرودٍ، وكأنها في عالمٍ آخر.
شعرُها الرماديُّ كان مرفوعًا بأناقةٍ.
حتى هي كانت من عائلةِ الحيتان القاتلة.
وتحديدًا من عائلةٍ فرعيةٍ مرموقةٍ في البحار.
لكن بايون الذي لم يحضر الاجتماعَ اليوم بسبب الجلسة التأديبية، سيؤثرُ عليهم سلبًا بشكلٍ كبيرٍ.
‘جدتي تحبُّ أن تستعرضَ نفوذَها
في اجتماعاتِ العائلة.’
هذه الاجتماعاتُ ليست مجردَ تجمعٍ عاديٍّ.
إنها حيث تُتخذ جميعُ القراراتِ الكبرى والصغرى.
الاستبعادُ من هذه الاجتماعاتِ يعني العزلةَ عن
المركزِ الرئيسيِّ لهذا المجتمعِ البحريِّ.
‘كنتُ أرغبُ بشدةٍ في حضورِ هذا الاجتماعِ، ولكن للأسفِ، لم يكن بالإمكانِ ذلك.’
بغيابِ بايون بدا أنَّ عمَّه روديسن قد استغلَّ
الفرصةَ ليحاول كسبَ وِدِّ جدَّتهم.
ضحكت كالِيبسو بخفةٍ وهي تتخيلُ ذلك.
‘آه، عمي بارعٌ حقًّا في التملق.’
مرَّ الوقتُ، وحان موعدُ بدءِ الجلسةِ التأديبية.
في مكانٍ آخر، كان اجتماعُ
العائلةِ على وشكِ أن يبدأَ.
‘هل بدأ الآن؟’
كانت هذه القاعةُ الكبيرةُ مُعدةً
لاستضافةِ الجلسات.
طاولةٌ نصفُ دائريةٍ، ومقعدُ رئيسِ
الجلسةِ المُشابهِ لمقعدِ القضاةِ.
على الطاولةِ النصفِ دائرية، كان كُلٌّ من كالِيبسو و أجينور وأطرافُ القضيةِ، بالإضافةِ إلى آبائهم، يجلسونَ جميعًا هنا.
كما كان هناك بعضُ المستشارينَ الذين يلعبونَ
دورَ شهادة القسم حاضرين.
وعلى مقعدِ الرئيسةِ، جلست ليلى ومعها شخصانِ آخرانِ. استطاعت كالِيبسو بسهولةٍ التعرفَ على أحدِهما باعتبارها مديرة الأكاديميةِ المتوسطةِ.
‘مَن هو الشخصُ الآخر؟ ملامحُهُ تبدو
مألوفةً بطريقةٍ غريبة.’
“الرجاءُ الهدوء. سنبدأُ الآنَ جلسةَ
لجنةِ التأديبِ العُليا.”
قالت ليلى ذلك من مقعدها الذي في المُقدمةِ، فخَيَّمَ الهدوءُ على القاعةِ.
“أنا ليلى سأتولى رئاسةَ الجلسةِ وإدارتها. في هذه الجلسةِ، أطلبُ من الجميعِ الالتزامَ بالصدقِ التامِّ بغضِّ النظرِ عن رُتَبِهم، وأن يتحدثوا فقط الحقيقةَ باسمِ البحرِ. أولاً، السيد بايون المتهمُ في هذه القضية.”
“…أقسمُ باسمِ البحرِ أن أكونَ صادقًا.”
“والسيدة كالِيبسو الضحيةُ في هذه القضية.”
“أقسمُ باسمِ البحرِ أن أكونَ صادقةً.”
“والسيد أَجينور.”
“أقسمُ باسمِ البحرِ أن أكونَ صادقًا.”
بالإضافةِ إلى ذلك، جعلتْ ليلى جميعَ الأطرافِ يُقسِمون، ولم يتبقَّ إلّا أطفالُ من العائلاتِ الفرعية، الذين أدّوا قَسَمَهم أخيرًا.
في حين كنتُ أتفحّصُ القاعةَ بعينين هادئتَين.
عندما تلاقتْ عيناها مع كالِيبسو لم تكن ليلى
هي من تكلّمَتْ، بل شخصٌ آخر.
كان المتحدثُ مديرَة الأكاديميةِ المتوسطةِ، التي ظلّت صامتةً طوالَ الوقت.
“قبل أن نبدأ، أنا تشايا أحدُ رؤساءِ
الجلسةِ. لديّ سؤالٌ كرئيسةٍ.”
رفعتْ تشايا يدَها، وكانت امرأةً مسنّةً ذاتَ عينين مائلتينِ للأسفلِ بسبب التجاعيد، لكنّ نظرتها كانت حادةً وقويةً، تملأ الجوّ هيبةً.
“هذه الجلسةُ تُعقدُ لمناقشةِ سلوكِ طلابٍ قاصرينَ في الأكاديميوِ تعليميةٍ، ولذلك…كان من المفترضِ أن يحضرَ الوصيُّ معَ الطالبِ، وقد تمّ إبلاغكم بذلكَ مسبقًا.”
كانت هذهِ المرأةُ قد قاتلت إلى جانبِ رئيسِة العائلةِ الحاليّة، وهي الآن تكرّسُ نفسها لتدريبِ الأجيالِ الجديدة.
“فلِماذا لا يوجدُ وصيٌّ بجانبِ السيدةِ كالِيبْسو
والسيدِ أجينور؟”
في تلك اللحظة، شعرَتْ كالِيبْسو بوخزةٍ صغيرةٍ
في قلبِها، ولكنْ سرعانَ ما تجاوزت الأمر.
‘ها قد وصلْنا إلى اللحظةِ المتوقّعةِ.’
نعمْ، كان الأمرُ متوقعًا فحسبْ.
‘ظننتُ أن ليلى ستتجاوزُ هذا الأمرَ بذكاءِ
وسأستطيعُ الهربَ.’
من المُحتملِ أنْ هذا كان نوعًا من التقديرِ من ليلى.
على الرغمِ من أنّها قد وجدتِ الأمرَ غريبًا، إلّا أنّها
لم تذكرْهُ عندما تبادلَنا التحيةَ.
“هل يستغرقُ الأمرُ بعضَ الوقتِ؟”
لفتَ الصوتُ القويُّ انتباهَ كالِيبْسو فألقتْ نظرةً على
تشايا ثمّ تلاقتْ أعينُهما بنظراتٍ واثقةٍ.
ظهرتْ لمحةُ دهشةٍ في عيني تشايا
لكنها اختفتْ بسرعةٍ.
“ليس لديَّ وصيٌّ.”
عندَ هذا التصريحِ الجريءِ من كالِيبْسو
دُهِشَّ من في القاعةُ بأكملِها.
حتى تشايا التي طرحتِ السؤالَ، تجمدتْ في مكانِها.
“وجودُ الوصيِّ هنا هو لضمانِ المساعدةِ لنا، نحنُ القاصرينَ، نظرًا لعدمِ نضجِنا الكاملِ. أليسَ
كذلكَ، سيدتي الرئيسةِ؟”
“…نعمْ، هذا صحيحٌ.”
أومأتْ ليلى برأسِها موافقةً على كلمات كاليبسو.
في حين نظرتْ كالِيبْسو بعيدًا.
“أنا وأخي أجينور سنكونُ المُدافعيين لأنفسِنا.”
‘وجودُ الوصيِّ سيكونُ عبئًا فحسبْ. لا بأسَ بدونهِ.’
‘أنا قادرةٌ على تجاوزِ هذا الأمرِ بِمُفردي.’
بدأتِ الفوضى تعمُّ أماكنَ الجلوسِ بينَ الجالسينَ في مقاعدِ رؤساءِ الجلسةِ وبينَ شواهد القسم الذينَ يمثلونَ مستشاري العائلةِ.
كان الجدالُ في الغالبِ حولَ ما إذا كان يمكنُ قبولُ طلبِ كالِيبْسو بعدمِ حضورِ الوصيِّ.
“حتى لو لم يكن لديَّ وصيٌّ، فإنّ ذلكَ سيكونُ ضارًا بي وبأخي أجينور وليسَ بالطرفِ الآخرِ. لذلك، أطلبُ الاستمرارَ في الجلسةِ كما هي.”
ولكن، بسببِ كلامِ كالِيبْسو الواضحِ والقويِّ، بدا أنّ الجميعَ بدأوا في قبولِ رأيِها، باستثناءِ شخصٍ واحدٍ.
“أعترضُ! هذهِ الجلسةُ تنعقدُ وفقًا للقوانينِ الصارمةِ. كيفَ يمكنُنا عقدُ الجلسةِ معَ أحدِ الأطرافِ الذي لم يلتزمْ حتى بالقواعدِ الأساسيةِ؟”
تحدثتْ تشايا بقوةٍ، ورفعتْ يدَها
بغضبٍ لتضربَ الطاولةَ.
على الرغمِ من إعجابِها بشجاعةِ كالِيبْسو إلّا أنّها كانتْ مؤمنةً بالقواعدِ والأنظمةِ إلى أقصى حدٍّ.
‘آه، إنها صديقةُ جدتي، أليسَ كذلكَ؟ أو ربما
زميلتُها؟ هذا ليس في صالحي حقًا…’
بسببِ موقفِ تشايا الحازمِ، انقسمتِ الآراءُ بينَ الحاضرينَ، ولكنّها بدأتْ تميلُ نحوَ جانبِ
تشايا تدريجيًّا.
“حتى لو استغرقَ الأمرُ بعضَ الوقتِ، استدعي
الوصيَّ الخاصَ بكِ، يا آنسةَ كالِيبْسو.”
نظرَ أجينور إلى كالِبْسو وكأنهُ
يسألُها عن خطتِها.
في حينِ قد تجهمَتْ ملامحُ كالِيبْسو قليلًا.
في الحقيقةِ، لم تكنْ هذهِ النتيجةُ
غيرَ متوقعةٍ بالنسبةِ لها.
ولكن الحلَّ الذي فكرتْ فيهِ الآن لم يكنْ
ما كانت ترغبُ في استخدامِهِ.
“…تقولُ الشائعاتُ إن الأميرةَ على علاقةٍ جيدةٍ بالسيدِ بايير، أليسَ كذلكَ؟”
“نعمْ، سمعتُ نفسَ الشائعةِ. يقولونَ
إنّهُ يهتمُّ بها كثيرًا…”
“إذاً، لِماذا لا يظهرُ هنا اليومَ؟”
“أتراهُ مريضًا؟”
كانتِ الهمساتُ تطرقُ أذنَ كالِيبْسو بوضوحٍ.
‘إذا حدثَ أيُّ خطأٍ هنا، فقد ينكشفُ كذبي
وتتحولُ الأمورُ إلى ضدي.’
ضحكَ بايون على الوضع وقالَ بسخريةٍ:
“لِماذا لا تدعينَ الأمرَ يمر بسلامٍ أيتها الرئيسة؟ إذا كانتْ لا تملكُ أبًا معها، فما العملُ؟”
“هاهاها، السيدُ بايون على حقٍّ.”
“فلنبدأِ الجلسةَ، سيدتي الرئيسةُ.”
“صحيحٌ. دعونا نبدأُ الجلسةَ حتى نتمكنَ
من حضورِ الاجتماعِ العائلي لاحقًا.”
تجهمَتْ ملامحُ تشايا بسببِ هذا الموقفِ.
إذا استمرتِ الجلسةُ بهذهِ الطريقةِ، فسوف يتمُّ
تجاوزُ القوانينِ والنظامِ الأساسيِّ.
ومعَ ذلكَ، كان من الصعبِ على تشايا الاستمرارُ في اعتراضِها إذا كانتِ الأجواءُ العامةُ تسيرُ ضدّها.
في حينِ حاولتْ كاليبسو إخفاءَ تنهدها بتوترٍ.
في هذهِ الحالةِ، حتى لو انتهتِ الجلسةُ بنجاحٍ، لن تتمكنَ من تجنبِ الشائعاتِ عن سوءِ العلاقةِ بينها وبينَ بايير.
‘للأسفِ، لا مفرَّ من ذلكَ.’
حسمتْ كالِيبْسو أمرَها وطلبتْ مرةً أخرى المضيَّ
قدمًا في الجلسةِ بدونِ حضورِ وصيٍّ.
“إذنْ، السيدةُ كالِيبْسو والسيدُ أجينور يرغبانِ في
المضيِّ قدمًا دونَ حضورِ وصيٍّ…”
‘هذا ليسَ ما كنتُ أفكرُ فيهِ.’
فتحتْ كالِيبْسو عينيها باندهاشٍ.
…كان ذلك عند سماعها هذا الصوتُ غيرَ متوقعٍ.
“القوانينُ هي القوانينُ.”
استدارتْ كالِيبْسو ببطءٍ لترى من أينَ جاءَ الصوتُ.
عندها، رأتْ ظلًا طويلًا ورفيعًا دخلَ
من البابِ دونَ أن يُلاحظَ.
كان هذا الشخصُ ذو هيئةٍ رشيقةٍ ونبيلةٍ، ولم يكن يرتدي ملابسَ فضفاضةً كما اعتادتْ رؤيتَهُ من قبلِ.
“ولذلك، يجبُ الالتزامُ بالقوانينِ.”
اتسعتْ عينا كالِيبْسو بدهشةٍ.
“الوصيُّ على ابنتي وابني، حاضرٌ الآن.”
كان يرتدي زيًّا رسميًّا أزرقَ، مطابقًا
تمامًا لزيِّ كالِيبْسو.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي