طفلة الحوت الأسود القاتل - 30
__ الفصل 30 __
لا بأسَ إذا لم يُخبرني بايير.
ففي النِّهايةِ، ليس من المُستحيلِ
مَعرفةُ الأمرِ بطريقةٍ أُخرى.
يمكنني ببساطةٍ الرَّكضُ إلى ليلى وسُؤالُها.
أنا مِنَ النَّوعِ الذي يُفضِّلُ التَّخلِّيَ عن الأُمورِ المُستحيلةِ بسرعةٍ، لذا كنتُ على وشكِ أن أُوجِّهَ كلماتي للطعامِ الذي كان يَبرُدُ أمامي.
كانتُ على وشكِ أن تقولَ لهُ: ‘كُلْ قبلَ أن يَبرُدَ.’
ولكنَّ كلماتها لم تَجِدْ طريقَها إلى لسانها لتنّطقِ.
لأنَّ بايير بادَرَ بالكلامِ أوَّلاً.
“ألستِ مَن قالَ إنهُ يحبِّك ويحرص عليكِ؟”
لم تَقُل كاليبسو شيئًا ونظرت إليهِ بعدم فهمٍ فحسب.
“ألم تقولي بنفسِكِ أنَّ والدَكِ
يُحبُّكِ ويحرِصُ عليكِ جدًا؟”
“…أجل.”
أمسَكَ بايير بالسكينِ والشوكةِ، وبدأ في تَقطيعِ قطعةٍ مُحترِقةٍ قليلًا دون أن يبدو عليهِ أيُّ انزِعاجٍ.
وسرعان ما ضَغطَتِ الشَّوكةِ على
القطعةُ الصَّغيرةُ من السَّلمونِ.
“إذًا، هذا هو الجوابُ، أليسَ كذلك؟”
وبينما كنتُ أُراقبُ بايير وهو يَضعُ القطعةَ
في فمِهِ، لم أستطع التَّفوُّهَ بأيِّ كلمةٍ.
***
ابنُ باييرَ الثَّالث، أجينور.
كان هذا الصَّبيُّ مُنذُ طُفولَتِهِ يُشبهُ الحوتَ
القاتلَ الذي وُلِدَ بقُدرةٍ فريدةٍ.
إنَّ أبناءَ بايير الثَّلاثةَ هم بالفعلِ ‘عباقرةٌ’ قد ولدوا بهذه القدرات الفطرية.
و من بينهم، كان أجينور بشكلٍ خاصٍّ يمتلكُ
قُدرةً فِطريةً على التلاعبِ بقوةِ الماءِ بِمَهارةٍ.
ولكنَّ أجينور كان على عِلمٍ بأنَّ هذه القُدرةَ لا يمكنُها إلا أن تصلَ إلى حُدودِها عندما تَصطدِمُ بالقوةِ النَّقيةِ.
وعلى الرَّغم من مَعرِفَتِه بذلك، فإنَّه لم يَجِد شخصًا من بينِ أقرانهِ قادرًا على إثباتِ ذلك أو إظهارهِ لهُ، مما جعَلَهُ يَغترُّ بنفسِهِ.
‘إنهُ بالفعلِ ابنُ بايير.’
لقد كان ابنَ بايير حقًا.
بالطبع، لم يكن والِدُهُ قد قدَّمَ لهُ شيئًا سوى الموهبةِ والقوةِ والجسدِ، وكان الأمرُ نفسُهُ ينطبقُ على إخوتهِ الآخرين، لذلك لم يكن يهتمُّ بكسب إهتمام والده.
أجينور كان يستخدمُ هذه القُدرةَ الفِطريةَ
بكلِّ حُرِّيةٍ منذُ طفولتِهِ.
لكنَّهُ على الأقلِّ لم يستخدِمْها ضدَّ أولئكَ الأضعفَ منه.
لأنَّ ذلك لم يكن مُثيرًا للاهتمامِ.
‘يا لهذا الأحمق العَنيدِ. تعال إليَّ بعد أن تَكبُرَ بسنتين.’
كان يُهاجمُ أخاهُ الثانيَ أتلان، الذي كان قريبًا منه في العُمرِ، أو يُهاجمُ حِيتانًا قاتلةً أُخرى تكبرهُ قليلًا في السِّنِّ.
وأحيانًا كان يتحدَّى أخاهُ الأكبرَ بيلوس، على الرَّغم من علمه بأنَّهُ سيَخسرُ.
وفي النِّهايةِ، لم يكن الإخوةُ يُبالونَ بآلامِ بعضِهم البعضِ، وكانوا يُفكِّرونَ فقط في كيفيَّةِ القَضاءِ على بعضِهم.
‘آه، لقد خَسِرتُ، خَسِرتُ، يا سيِّدَ أجينور!’
في مرحلةٍ ما، شعرَ أجينور بأنَّ الانتِصارَ بات مُمِلًّا.
عندما انتَشرت سُمعتُه كقويٍّ، لم يَجِد أحدًا يتحدَّى
قُوَّتَهُ في الأكاديميةِ.
لذا كان الأمرُ مُحبِطًا.
كانِ أجينور يُحبُّ رؤيةَ الأقوياءِ يَنهارونَ
عندما يستهينونَ بهِ.
لذا، عندما التَحَقَ بالأكاديميةِ المُتوسِّطةِ، قرَّرَ إخفاءَ هُوِيَّتِهِ.
ونجح في ذلك، بل وتعرَّضَ للتَّنمُّرِ بشكلٍ كبيرٍ.
لكنَّ ذلك لم يكن سوى نوعٍ جديدٍ من التَّحفِيزِ لهُ.
فالتَّنمُّرُ، إذا تأملتَ فيهِ، هو شكلٌ آخرُ
من أشكالِ الاهتِمامِ المُفرطِ.
أجينور كان يعلمُ أنَّ هؤلاء الذين يُحفِّزونهُ سيُهزمونَ في النِّهايةِ بين يديه، وكان ذلك يُثيرُهُ.
كان ينتظرُ ذلك اليوم.
‘أنتَ أخي، أليسَ كذلك؟’
لم يكن يعلمُ أنَّ الأمورَ ستنهارُ في
اتِّجاهٍ لم يَتوقَّعهُ أبدًا.
‘كلما أُفكِّرُ في الأمرِ، يبدو هذا لا يُصدِّقُ حقًا.’
أجينور الذي يرتدي زيَّ التَّدريبِ
المُريحِ، بدا عليه الذُّهولُ.
لم يكن يستطيعُ فهمَ سببِ وجودِهِ في هذا المكانِ.
بالطبع، لو لم يأتِ لكانت كرامتُهُ قد تأذت، لذلك
لم يكن لديه خيارٌ آخر سوى الحُضور.
قبل أسبوعٍ، ظَهَرت فجأةً أُختُهُ الصَّغيرةُ، كاليبسو.
لم يكن فقط قد خَسرَ أمامَ تلكَ الفتاةِ
الصَّغيرةِ، بل حتى أنَّهُ قد أذعنَ لها للحظةٍ.
وبعدما علم لاحقًا أنَّ أُختَهُ لم تكن سوى في الثَّالثةِ من عُمرِها، شعرَ بالعارِ حقًا من خسارتهِ ضدها.
لكنَّ الصَّدمات لم تتوقَّفْ هنا.
المكانُ الذي أخذتْهُ إليهِ كاليبسو بعدَ أن هزمَتْهُ
كان مكانَ إقامةِ والدِهما بايير.
‘هل تحتاجُ إلى تلميذٍ ثانٍ؟’
عندما سمِعَ تلك الكلماتِ، ظنَّ أجينور
للحظةٍ أنَّ هذه الأُختَ مجنونةٌ بلا شكٍّ.
فقد كان هناك أطفالٌ في عائلةِ الحوتِ القاتلِ
يُولَدونَ بقوةٍ كبيرةٍ ولكن مع عيبٍ قاتلٍ.
مثل والدهما بايير، الذي كان قويًا للغايةِ ولكنَّهُ ضعيفٌ جسديًّا، كان هناك أيضًا أطفالٌ يفقِدونَ عقولَهم مثل أختهِ هذه.
فكّر في ذلك، وشعرَ بالعارِ لأنَّهُ خَسِرَ
أمامَ فتاةٍ غير مُتَّزِنةٍ عقليًا حتى.
ولكن ما كان أكثرَ غَرابَةً هو أنَّ والدهُ
استجابَ لكلماتِ أُختِهِ!
‘هااااه…’
وهكذا، قبلَ أن يتاحَ لأجينور فُرصةٌ أن يُناديَ
والدَهُ بـ ‘أبي’ وجد نفسَهُ يُناديهِ ‘يا مُعلِّمي’.
‘كيف يُمكِنُ لهذا أن يَحدُث؟’
مثل كاليبسو، كان أجينور أيضًا ينمو بدونِ أيِّ رعايةٍ خاصةٍ، كالعُشبِ الذي ينبتُ بين الصُّخورِ.
يبدو أنَّ أخويهِ الأكبرَ قد وَجدا طريقَهما في الحياةِ، لكنَّهُ كان لا يزالُ يَبحثُ عن طريقهِ.
ولذلك، كان من الجيِّدِ أن يُصبحَ أقوى.
نعم، بهذهِ العقليَّةِ، حاوَلَ أجينور تَجاوزَ
هذه المواقفِ الغريبةِ بطريقةٍ ما…ولكن…
‘هذا، حقًا، أمرٌ لا يُصدَّق.’
ابتلعَ أجينور ريقَهُ بصعوبةٍ
وهو ينظرُ إلى المشهدِ الذي أمامهُ.
“ثلاثُمائةٍ وخمسٌ وثلاثون!”
“الساقُ اليمنى…لقد انحرَفَت.”
“آه! فهمتُ، فهمتُ، فقط لا تزيد
من حجمِ الصُّخورِ!”
كانت أُختُهُ الصَّغيرةُ، ذات الثلاثِ
سنواتٍ، كاليبسو، تَقفِزُ مثل الأرنبِ.
نعم، من المُمكنِ أن تقفِزَ مثل الأرنبِ.
وجهها المُستديرُ والطفولي غيرُ المُعتادِ بالنسبةِ
لعائلةِ الحوتِ القاتلِ كان يَليقُ بها إلى حدٍّ ما…
المُشكلةُ كانت في وزنِ الصُّخورِ
المُعلَّقةِ على جسدِها الصَّغيرِ.
‘كَم كان وزنُها؟’
إذا حاولنا إعادةَ تقديرِ وزنِ الصُّخورِ، فمنَ المؤكَّدِ أنَّها كانت أثقلَ من وزنِ كاليبسو التي كانت تَقفِز الآن.
ولم يكن هذا كُلُّ شيءٍ.
‘هو يرمِي الصُّخور عليها؟ وذلك باستخدامِ قوةِ الماءِ؟’
كُلَّما قفزَت كاليبسو كالأرنبِ، كان بايير، الذي يَجلِسُ بالقربِ من النَّافورةِ، يَرمِي الصُّخورَ دون أدنَى تردُّدٍ.
بل إنَّ حجمَ الصُّخورِ كان يَزدادُ شيئًا فشيئًا…!
كان هذا مَشهدًا لا يُصدَّق.
‘هذا مُستحيل! في عمري ذلك، كان الرَّكضُ
هو أقصَى ما أستطيعُ فعلَهُ.’
أجينور نفسهُ، بموهبتِهِ العظيمةِ، كان يَعلمُ ذلك.
كان يَعرِفُ أنَّهُ حتى في عُمرِ الثَّلاثِ سنواتٍ، كان يَمتلِكُ موهبةً غيرَ عاديَّةٍ لا تتناسَبُ مع عُمرِهِ، وعاشَ حياةً غيرَ عاديَّةٍ وهو مميزٌ بين أقرانهِ.
ولكنهُ…
ولكنَّهُ لم يكن قادِرًا على فِعلِ ما تفعلهُ هي!
‘لا يُمكنُ لأيّ طفلٍ في سن الثالثةِ من العُمرِ القَفزُ كالأرنبِ خمسمائةِ مرةً! لا يُمكِنُهم ذلك بالتأكيد!’
لو أنَّ أجينور ذو الثَّلاث سنواتٍ كان مُلزَمًا بحملِ صخرةٍ أثقلَ من وزنِهِ والقيامِ بقَفزاتِ الأرنبِ هذه مثل كاليبسو، لكان قد فرَّ هاربًا قبل أن يحملَ الصَّخرةَ، أو لاختَنَقَ تحت وطأةِ ثِقلِها.
كان ذلكَ مُستحيلًا. مُستحيلًا حقًا.
حتى أخاهُ الأكبرَ الذي كان أقوَى
منهُ، لم يكن ليَتمكَّن من ذلكَ.
ابتلَعَ أجينور ريقَهُ وهو يَستوعِبُ
شيئًا فكّر بهِ طوالَ الأُسبوعِ.
…لقد أدركَ السَّببَ الذي جعلَ
تلكَ الأُختَ الصَّغيرةَ تَهزِمُهُ.
في الواقِعِ، كانت هذهِ معركةً مَحكومًا
عليها بالخسارةِ منذُ البدايةِ.
“آه، مُعلِّمي. حقًا، لن تَرمِي ذلكَ، أليسَ كذلكَ؟”
“لماذا أضعُها هنا إن لم أكُن أنوي رميَها؟”
“إنَّهُ قتل! لا، بل إنَّهُ ذَبح!”
“ما دُمتِ تَملِكين الوقتَ للتفوُّه بهذهِ الحماقاتِ، فيبدو
أنَّهُ يجبُ عليَّ زيادةُ الصُّعوبةِ.”
“آه، هذا مُرهِقٌ للغاية، يا مُعلِّمي.”
كُلُّ ما كان مجهولًا بالنِّسبةِ لكاليبسو وبايير
تَكَشَّفَ الآن من خلالِ أعيُنِ أجينور.
لم يكن ذلكَ تدريبًا عاديًّا بأيِّ حالٍ.
‘لماذا تستطيعُ القيامَ بهذاِ التدريبِ، ولكنَّها
لا تستطيعُ إيقاظ قوة الماءِ؟’
كان هذا التدريبُ مُمكِنًا بفضلِ قوةِ الماءِ.
وكان يَعني أيضًا أنَّ جَسدَها يتحمَّلُ قوةَ الماءِ.
كيف يمكن أن تكونَ قد أعدَّت جَسدَها وعقلَها بهذاِ الشكلِ، ومع ذلك لم تَستيقظ قوة الماء فيها بَعد؟
هذا كان جَديًرًا بالدِّراسةِ والبحث حقًا.
لو أُرسِلَ هذا الموضوعُ إلى مُختبرِ البحثِ في عائلةِ الحوتِ القاتلِ، لكان العلماءُ المجانينَ هناك قد قَفزوا فرحًا.
شَدَّ أجينور قَبضتَهُ.
أجينور أكواسياديل.
كان، شخصًا يُحِبُّ أن يُخادِعَ الأقوياءَ ويُسقِطَهُم.
ذكيًا، ومجنونًا، ولكنَّهُ كان أيضًا يمتلكُ القُدرةَ
على تقبُّلِ الواقِعِ والاعترافِ به بوضوحٍ.
‘إنَّها حقيقيَّة…!’
كُلَّما كانَ الحوتُ القاتلُ أقوَى، زادَت
رغبتُهُ في القوَّةِ.
وكما زادَت احتراماتهُ وتعلُّقُهُ بالأقوياء.
كانت قاعدةَ حياتِهم: ‘إذا لم أستطِع
الحصولَ على ذلكَ، فسأدمِّرُهُ’.
ولكن، ماذا يفعل إذا كان يواجهُ حوتًا
قويًّا لدرجةٍ لا يُمكِنُ تدميرُهُ؟
إذًا يجبُ عليكَ التشبثُ بهِ.
واحترامُهُ!
“ماذا تَفعَلُ؟ الآن دَورُك.”
في عيني أجينور، كانت كاليبسو التي تَتبَعُ
هذاِ التدريبَ مُجردَ مَجنونةٍ.
ولكن والدهُ، الذي كان يَفرِضُ هذاِ التدريبَ الثَّوريَّ على طفلةٍ في الثَّالثةِ من عُمرِها، لم يكن أقلَّ جُنونًا…!
لكن إذا ما قَسنا دَرَجاتِ الجُنونِ، فقد سَبقت
كاليبسو والدَها بقليلٍ.
من وجهةِ نظرِ أجينور، لم يكن هذاِ
تدريبًا يُمكِنُ لأيِّ أحدٍ استيعابَهُ.
في اليومِ الأوَّلِ، الثاني، والثَّالثِ كانت الدَّهشةُ هي ما تحتوي خلدهُ عند رؤيةِ هذا، وفي اليومِ الرَّابعِ والخامسِ كانَ الغضبُ هو ما يحتويه، ثمَّ جاءَت مرحلةُ القُبولِ في اليومِ السَّادسِ.
وفي عيني أجينور ظهرَ بريقٌ كالنجومِ
وهو ينظرُ إلى كاليبسو.
“أرجو من مُعلِّمي أن يَستخدِمَ صَخرةً أصغرَ
من تلكَ التي تَستخدمُها كاليبسو.”
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي