طفلة الحوت الأسود القاتل - 29
__ الفصل 29 __
حَدَّقَ بايير في كاليبْسو بتمعُّنٍ.
“أتشعُرين بِالأَسَفِ؟”
“نعم. لقد جَلَبتُ شخصًا بالأمسِ
فجأةً وطلبتُ أن يكونَ تِلميذًا لكَ.”
“…”
كانَ موضوعًا مُزعجًا.
“في الواقعِ، بعدَ التفكيرِ، أَدرَكتُ أنَّ الوضعَ قد يكونُ غيرَ مريحٍ لكَ يا سَيِّدي…وأظُنُّ أنني كنتُ غيرَ مُبَاليةٍ للغايةِ.”
“أدرِكتِ ذلكَ أخيرًا.”
قالَ بايير هذا بينما كانَ يُثَبِّتُ
نَظَرَهُ على أَصابِعِ كاليبْسو.
كانَ واضحًا أنَّ الجُروحَ التي لم تَكُنْ موجودةً عندما دخلت هنا لأول مرة أصبحت الآن مَلحوظةً.
إذا فكَّرتَ في الأمر، لم يكن من المُمكنِ لطفلةٍ
في الثالثةِ من عمرِها أنْ تَطهُوَ بإتقانٍ.
كانتِ الحروقُ والبثورُ والجروحُ التي تَغطي تلك الأصابعِ قد نشأت بالتأكيدِ أثناء محاولةِ صُنعِ شيءٍ ما، سواءٌ كانَ طبقًا أو شيئًا غريبًا جاءَ من العالمِ الآخر.
“نعم، كنتُ غيرَ مُبَالِيَةٍ. أنا آسِفَةٌ.”
الابنةُ التي كانت أمامهُ كانت ذَكِيَّةً.
ربما كانت كذلكَ.
وإلا، كيفَ يُمكِنُها أن تَبدوَ مُتهالِكَةً في مثلِ
هذه المواقفِ بينما تُراقبُ تعابيري بذكاءِ؟
بلْ حتى أنَّها استخدمت أسلوبَ التَّخاطُبِ
الرسميِّ الذي لم تَستخدمهُ من قبلُ.
“سَّيِّدي.”
ربما بسببِ مُواجهتِها لهُ بوجهٍ وقحٍ في البدايةِ.
لقد كانَ من المُزعِجِ رؤيةُ مَظهرِها الخَجُولِ
والوديع أثناء إعتذارها وهيَ تَنظُرُ إلى الأرضِ.
‘ارفعي رأسكِ. أينَ ذَهبَ ذلكَ الوجهُ
الوَقِحُ الذي خَدَعَتني بهِ؟’
“…”
امتدَّ تيارٌ مائيٌّ لِيُمسكَ بخدِّ
كاليبْسو ويَرفَعَ رأسَها بالقوةِ.
حينها رمشتْ كاليبْسو بعينيها الكبيرتينِ بتفاجؤٍ.
“عندما تتحدَّثِين، انظُري إلى عيونِ
مَن تتحدَّثِين إليهِ.”
“آه؟ آه، نعمْ.”
“اشرَحِي الطبقَ.”
“ماذا؟”
“استَمِرِّي في ما كنتِ تقولينَهُ.”
ثم استمرَّتْ كاليبْسو في الشَّرحِ بحَذَرٍ.
أوضحتْ أنَّها رشَّتْ عصيرَ الليمونِ على طبقِ
السَّلمونِ هذا، وأنَّه يجبُ أن يحتوي على خمسةِ أنواعٍ من الأعشابِ، لكنَّها لم تتمكَّنْ من العثورِ على أحدِ المكوناتِ، لذا استخدمتْ أربعةً فقطْ.
وعلى الرغمِ من أنَّ هناكَ بعضَ النقصِ، إلا أنَّه كانَ جيدًا بالنِّسبةِ لِأنَّهُ تمَّ إعدادُهُ بمُفردِها.
حتَّى أنَّها أعربَتْ عن رضاها عن الطهيِ بفضلِ
توفُّرِ جميعِ المكوناتِ في مطبخِ السَّيِّدِ.
استمَعَ بايير بصمتٍ لهذا الكلامِ غيرِ
المعقولِ دونَ أنْ يرمشَ.
وكانَ التيارُ المائيُّ الذي خلقَهُ بايير قد بدأ يلفُّ يدَها المُصابةَ بالحروقِ، ليُبرِدَ الجروحَ بهدوءٍ.
كانتْ كاليبْسو مستغرقةً في الشَّرحِ
لدرجةِ أنَّها لم تلاحظْ ذلكَ.
‘لقد كانتْ مُتحمِّلَةً للألمِ والجروحِ بشكلٍ غيرِ عاديٍّ.’
كانَ هذا شيئًا يعرفهُ بايير وحدَهُ
من خلالِ تدريبِهِ لها.
كانتْ كاليبْسو تتحمَّلُ الألمَ والجروحَ بشكلٍ غيرِ عاديٍّ.
وبالتَّحديدِ، كانَت لديها موهِبَةٌ استثنائيَّةٌ في التَّحمُّلِ.
كما لو أنَّها قد مَرَّتْ بالفعلِ بألمٍ شديدٍ للغايةِ.
كانتْ تتحمَّلُهُ بوجهٍ يُظهِرُ أنَّه لا شيء يُذكَرُ.
“…هذا كلُّ شيءٍ. ما رأيُكَ يا سَيِّدي؟”
بعدَ أنْ انتهتْ من شرحِ كلِّ شيءٍ، نظرتْ كاليبْسو بحذرٍ.
لكنَّ بايير أثارَ موضوعًا آخرَ بدلًا من تقديمِ
انطباعِهِ عن الشرحِ الذي قدمتهُ.
“لا يُعجِبُني الأمرُ.”
“ماذا؟ الطَّهيُ؟”
“أنا لا أقبَلُ أيَّ شخصٍ كتِلميذٍ.”
“أوهْ…نعمْ. أنا آسِفَةٌ يا سَيِّدي.”
أخفضَتْ كاليبْسو رأسَها بعمقٍ كما لو أنَّها أدرَكَتْ خطأَها.
تجَهَّمَتْ ملامِحُ بايير بشكلٍ لا إراديٍّ، وأعادَ التيارُ
المائيُّ ظهرَ كاليبْسو إلى وضعِهِ الصَّحيحِ.
“الاعتذارُ مرةً واحدةً يَكفي. إذا كرَّرتِ نفسَ الخطأِ، فهذا يعني أنَّكِ تُعانِين من نقصٍ في الذكاءِ.”
“أجلْ. هذا يعني نقصًا في الذكاءِ.”
هزَّتْ كاليبْسو رأسَها بنشاطٍ.
في نفسِ الوقتِ، عندما رأتْ جَبينَ بايير
المُقطَبَ يَتراخى، تَذكَّرتْ شيئًا ما.
“هلْ يمكنُ أنْ يكونَ سَيِّدي قد غضِبَ
عندما جلبتُ تِلميذًا آخرَ فجأةً؟”
“غضِبَ؟”
“لا، إذا لم يكنِ الأمرُ كذلكَ، لا بأسَ. ولكنْ
بدا ليّ وكأنَّكَ كنتَ غاضبًا.”
ابتسَمَتْ كاليبْسو ابتسامةً مَرِحةً.
“ظَنَنتُ أنَّ سَيِّدي قد يكونُ مُستاءً.”
كانَ تَعبيرُها وقِحًا.
“مُستاءً؟”
“هل…حقًا كنتَ مُستاءً؟”
“…”
“لا، لا. هذا مُستحيلٌ. أنتَ مُعلِّمي العظيمُ. لقدْ أسأتُ الكلامَ. لذا من فضلكَ لا تَرمِ الطبقَ من النافذةِ…”
نظرتْ كاليبْسو إلى الطبقِ الذي أُعيدَ
وضعُهُ على الطاولةِ وأبتسمت.
تلكَ الابتسامةُ كانت بريئةً بشكلٍ غريبٍ.
كانتْ نفسُ الابتسامةِ الوقحةِ التي تظهرُ على
وجهِها عندما تتصرفُ بجرأةٍ أمامَهُ.
“في الحقيقةِ، ألم تشعُرْ بالفخرِ يا سَيِّدي؟ لقدْ هَزمتُ طفلًا في التاسعةِ من عُمرهِ!”
بدلًا من الردِّ، طوى باييرُ ذراعَيْهِ. كانَ وجهُهُ غيرَ مُبَالٍ.
“هذا أمرٌ بديهيٌّ.”
‘هذا بديهيٌّ. فأنتِ ابنتي، أليسَ كذلكَ؟’
‘لا حاجةَ لأنْ تفخري بأمرٍ بسيطٍ كهذا.’
“لا تتفاخري بهذا. لقدْ هَزمتُ شخصًا يبلغُ من العمرِ
أربعةَ عشرَ عامًا عندما كنتُ في سِنِّكِ.”
“…”
حينها تمتمتْ كاليبْسو في سرِّها:
‘نعم، نعم، أنتَ الأفضلُ، أبي العزيزُ!’
يا إلهي، لم أكنْ أعلم قط أنني سأسمعُ قصةً
تبدأُ بِـ ‘عندما كنتُ في عُمركِ…’
كانتْ كاليبْسو تَتمتمُ في سرِّها، لكنها رَفَعتْ
رأسَها بحذرٍ لتنظرَ إليهِ.
‘أوهْ، يبدو أنَّ ملامحَ وجهِهِ قد تحسَّنتْ.’
بايير الذي بدا غيرَ مُرتاحٍ منذ لحظاتٍ، كانَ
يبدو أكثرَ استرخاءً الآنَ.
لكنْ بطريقةٍ ما، بدا وكأنَّه أصبحَ
أكثرَ هدوءًا بعدَ المحادثةِ.
“نعمْ. فهمتُ. سَيِّدي، تفضَّلْ بتناول الطعامِ. لن
أزعِجَكَ بعدَ الآنَ.”
“إزعاجٌ…”
على الرَّغمِ من أنَّها قالَت ذلك كدعابَةٍ بوجهٍ وَقِحٍ، إلَّا أنَّها لم تكن تعتقدُ حَقًّا أنَّه كانَ مُستاءً.
على ما يبدو، فإنَّ إحضارَ أَجينور قد أزعجَهُ أكثرَ مما كانت تتوقعُ.
لذا قررتْ كاليبْسو أنْ تكونَ أكثرَ حذرًا في المُستقبلِ.
وبينما كانتْ تُراقبُ وجهَ بايير الذي عادَ إلى طبيعتِهِ المعتادةِ، بَلَعَتْ كاليبْسو ريقَها بصعوبةٍ وقالت:
“مُعلِّمي…هل تعلمُ؟”
“ماذا هناك؟”
كانَ بايير يهمُّ بأخذِ الشَّوكةِ عندما ردَّ.
لسببٍ ما، بدا أنَّه وضعَ الشَّوكةَ جانبًا
بسرعةٍ فائقةٍ…هذا غريبٌ.
‘ربما كنتُ أتوهمُ فحسب؟’
“في الحقيقةِ، حَدَثَ شيءٌ غريبٌ
اليومَ في الأكاديميةِ التَّعليميةِ.”
“شيءٌ غريبٌ؟”
نظرَ بايير إليها بتمعُّنٍ، مما جعلَ
كاليبْسو تنسى الأمرَ للحظةٍ.
ثم بادرتْ بسرعةٍ بالحديثِ عن الأمرِ، بينما
كانتْ تُراقبُ ردَّ فِعلِهِ.
“نعم. لقد طلبَ أبي…من ليلى أنْ تعتني
بيّ وأنا في الأكاديميةِ.”
***
قلتُ ذلك ثم بدأتُ أراقبُ الوضعَ بصمتٍ.
ابتلعتُ أنفاسي وريقِي بصعوبة، لكنني حرصتُ
على ألا يُكتشف ذلك، فاكتفيتُ بابتلاعِهِ سرًا.
“آه، ليلى هي مديرةُ الأكاديميةِ الابتدائيةِ.”
“أعلمُ ذلك.”
كانتْ تعابيرُ وجهِ بايير بلا تَعبيرٍ.
كعادتهِ، بدَا عليهِ اللامبالاةُ والمللُ.
بل إنَّ التعبيرَ الذي كان يبدو عليه الآن هو الانزعاجُ وحتى لحظاتٍ مضتْ قد اختفى تمامًا، ليبدو وجهُهُ الآن هادئًا لا يشوبهُ أيُّ اضطرابٍ.
لهذا لم أملكْ إلا أن أُضيفَ كلمةً أخرى رغم أنني شعرتُ كأنني أُقحمُ نفسي في فمِ القرشِ.
“ماذا تعتقدُ حولَ هذا يا مُعلِّمي؟”
ربما كانَ اختيارَ هذا الموضوعِ
في هذا الوقتِ قرارًا سيئًا.
فلم تكنْ أجواؤنا الحالية سيئةً.
ولكن…
‘لا أطيقُ الأمورَ الغيرَ المؤكدة.’
كيفَ كنتُ أتصرفُ في حيواتي الثلاثِ السابقةِ؟
‘كلُّ مرةٍ راهنتُ فيها على شيءٍ
غير مؤكدٍ، دمرتُ حياتي.’
خصوصًا في المرةِ الأخيرةِ، حينما تسببَتْ ‘ثورةُ الدوقِ التنين’ في دمارِ العالمِ بأسرهِ بسببِ شيءٍ غيرِ مؤكدٍ.
لذلك، لم أستطعْ منعَ نفسي من التأكدِ من الأمرِ
الآن، رغمَ أنني كنتُ أدركُ أنَّ هذا التصرفَ قد يكونُ متهورًا أو حتى انتحاريًّا.
“ما رأيُّكَ بذلك؟”
ركَّزتُ اهتمامي على شفتي والدي المتيبستين.
في تلك اللحظة، ارتفعَ التوترُ إلى حدٍ لم أعهدهُ من قبل، حتى بدَتِ هذه اللحظةُ وكأنها تتجمدُ دون أن تمضي.
“لماذا تسأليني؟”
وكما لو كانَ ممثلًا يتلاعبُ بـ جمهورهُ في ذروةِ الأحداث، نطقَ والدي ببطءٍ، وردَّ بجوابٍ لم يكنْ مُتوقعًا أبدًا.
كانَ ردًّا محايدًا، لا هوَ بالنفيِ ولا هو بالإيجابِ.
“أنا لستُ والدكِ، أليسَ كذلك؟”
كان عليَّ أن أبذلَ جهدًا كبيرًا حتى لا أظهرَ أيَّ
ارتباكٍ بسببِ هذا الردِّ الذي أصابني في مَقتلٍ.
‘…إذًا، كانَ هذا ما تقصدُه.’
من خلال هذا الردِّ، استطعتُ أن أفهمَ الحقيقةَ.
‘لقد كشفَ أكاذيبي.’
كان واضحًا أن والدي كان يعرفُ
أنني أمثلُ.
‘لكن كيفَ ومتى اكتشفَ ذلك؟ وبأيِّ وسيلةٍ؟’
‘لم يكنْ ينظرُ إليَّ حتى عندما وُلدتُ، فكيفَ
لهُ أن يتعرفَ عليَّ الآن؟’
علاوةً على ذلك، مظهري كانَ مختلفًا تمامًا عن بقيةِ
أفرادِ الأسرةِ، حيثُ كنتُ أشبهُ والدتي التي كانتْ قد تزوجتْ والدي زواجًا مرتبًا كما أعتقدُ، لذا لم يكنْ من المستغربِ أنه لم يتعرفْ عليَّ.
“هذا صحيحٌ، ولكن…”
راقبتُ والدي بعينيّ.
في الحقيقةِ، والدي بالتبني في كوريا
وبايير كانَا في العمرِ ذاتهِ تقريبًا.
في الواقع، كانا في عمرِ بعضهما
حينما كنتُ في الثالثةِ من عمري.
‘لقد تمَّ تبنيي عندما كنتُ في عامي الأول.’
كانَ والداي قد تبنياني في سنٍ صغيرةٍ.
“والدي ومُعلِّمي في عمرٍ مُتقاربٍ، لذلك كنتُ
فضوليّةً لأعرفَ رأيكَ باعتباركَ راشدًا مثلهُ.”
إذا كانَ والدي قد كشفَ مسرحيتي…
ما الذي كانَ يفكرُ فيه وهوَ يستمعُ إليَّ أتحدثُ
عن ‘والدٍ محبٍ’ و’أبٍ يهتمُ بي كثيرًا’؟
إذ أن كل تلك التراهات ستبدو من خيالي فحسب…
‘لابدَّ أنَّه كانَ يتساءلُ: لماذا تقومُ هذه الطفلةُ
بتمثيلِ مسرحيةٍ مُبتذلةٍ كهذه؟’
ولكنني كنتُ فضوليّةً.
لماذا لم يقلْ شيئًا عندما كانَ يعرفُ كلَّ شيءٍ؟
لماذا لم يغضبْ؟
‘لقد طلبَ مني السِّيد بايير أن أعتني بك يا كاليبْسو.’
‘لما تطلبُ مثل هذه الأمور في الأساس؟’
لماذا أخبرتَ ليلى بذلك؟
“ليسَ كلُّ الراشدينَ سواءً. يبدو أنكِ
لا تزالينَ صغيرةً لتفهمي ذلك.”
“أنا لستُ صغيرةً.”
ابتسمَ بايير بشكلٍ خفيفٍ.
…لقد أدهشني ذلكَ قليلًا حقًا.
“قولُكِ هذا هوَ دليلٌ على أنكِ صغيرةٌ.”
“…”
في تلك اللحظة، شعرتُ بغضبٍ يتصاعدُ في داخلي.
‘عفوًا، ولكنني شخصٌ عاشَ ما يزيدُ
عن ستينَ عامًا، حسنًا؟’
حتى هذا النطقُ الصحيحُ اكتسبتُه بصعوبةٍ بعدَ
مروري بتجاربٍ مريرةٍ في حيواتي الثلاث.
حينها نفختُ خديّ بغضبٍ وأنا أفكّرُ بهذا.
‘آه، حسنًا. لن أستمعَ إليه بعدَ الآن. لا يستحقُّ ذلك.’
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي