طفلة الحوت الأسود القاتل - 28
__ الفصل 28 __
“أَوَصَلتِ؟”
في الآونةِ الأخيرةِ، لم يكنَ بايير يتواجدُ بالقربِ
منَ النَّافورةِ كما كانَ يفعلُ في السابقِ.
فمنذِ دُخولي الأولِ إلى هذا المبنى، كنتُ أجدهُ في غُرفتِه أو في المعيشةِ، وعندما يراني، كانَ يقولُ ليّ هذهِ الكلمات.
أحيانًا، كنتُ أراهُ جالسًا أمامَ نافذةٍ يُمكنهُ من خلالها مُراقبتي بسهولةٍ، وكنتُ أتساءلُ في نفسي: ‘هل ينتظرُ مَجيئي؟’
لكن ربما كانَ ذلكَ مجردَ وهمٍ فحسب.
“أُمم…مَرحبًا يا مُعلِّمي.”
“نعم.”
كنتُ أراقبُ والدي بحذرٍ شديدٍ.
حسنًا، لنرى هل هناكَ شيءٌ مُختلِفٌ اليوم؟
كانَ لا يزالُ وسيمًا بشكلٍ مُزعِجٍ، ومَلامِحهُ الجذابةُ التي تُشبهُ كبارَ زعماءِ العصاباتِ لم تتغيَّرْ.
كما أنَّ تعابيرَ وجههِ المُرهقةَ
والمُتعبةَ ظلَّتْ كما هي.
لم يكنْ هناكَ أيُّ شيءٍ مختلفٍ
يُمكنُ رؤيتُه بالعينِ المُجردةِ.
“…”
لا، ربما هناكَ شيءٌ مُختلِفٌ. أليسَ كذلكَ؟
‘لِماذا، لماذا ينظرُ إليَّ بهذهِ الطريقةِ الثاقبة؟’
هناكَ شيءٌ مختلفٌ…
هناكَ شيءٌ مختلفٌ قليلًا.
على غيرِ عادتهِ، كانَ يُحدِّقُ بي بعُمقٍ.
بدأ العَرَقُ الباردُ الذي ظننتُ أنَّه قد
توقفَ، بالانسِيابِ مرةً أخرى.
ماذا لو اكتشفَ والدي أنني خدعتُه؟ كيف سيردُّ؟
لم أفترضْ يومًا أنني سأتمكَّنُ من الكَذِبِ
إلى الأبدِ دون أن يتم كشفُ أمري.
ولكنني كنتُ أعتقدُ أنَّ بايير، الشخصَ الذي أعرفُه، سيستغرقُ وقتًا طويلًا لاكتشافِ ما أخفيتهُ عنه.
‘ظننتُ أنَّ والدي لن يهتمَّ بما يَحدثُ في العالمِ
الخارجي، وبالتالي سأتمكنُ من التلاعبِ بالأمرِ
لمدةِ شهرٍ على الأقل!’
لقد كنتُ أضعُ خُطَّةً مدروسةً، حتى أتمكنَ من التحكمِ في اللحظةِ التي سيتمُّ فيها اكتشافُ أمري!
لم أكنْ أتوقعُ أبدًا أن أُواجِهَهُ هذا اليوم بِسُرعة!
وما يزيدُ الأمرَ سوءًا هو أنَّهُ يُحدِّقُ بي بتلكَ النظرةِ التي تبدو وكأنها تقول:
‘أنتِ تعرفينَ ذَنبَكِ بخداعي، أليسَ كذلك؟’
من وجهةِ نظرِ شخصٍ يشعرُ بالذنبِ، كانَ
هذا الموقفُ مُحرجًا للغايةِ.
أنا لا أزالُ بحاجةٍ إلى حمايةِ والدي وإستخدامهِ
لرفع مكانتي حتى هذهِ المرحلةِ.
“ما هذا الشيءُ؟”
عندما تَحدَّثَ والدي أخيرًا، استجبتُ بسرعةٍ.
كانت هذه فُرصةً للخروجِ من هذا الموقفِ الصعب.
“ماذا؟ هل تقصدُ هذا؟ هل تَقصدُ
الأوراق التي أحمِلُها؟”
“نعم.”
آه! لقد كانَ ينظرُ إلى الأوراقِ التي كنتُ أحمِلُها؟
حينها بدأتُ أبتسمُ بسعادةٍ.
“هذا شيءٌ جلبتُهُ لكَ يا مُعلِّمي! ألا تشعرُ بالفضولِ
لمَعرفةِ ما هو؟ ألا تتحمَّسُ لمعرفةِ مُحتواه؟”
“…مُطلقًا.”
رائع!
هذا الردُّ الجافُّ الذي يقولهُ كُل مرةٍ…
عند رؤيةِ عدم تغير نبرة صوتهِ، أزالَ هذا بعضًا
من التوترِ الداخلي الذي كنتُ أشعرُ به.
لا أعلمُ لما طلبَ بايير من ليلى أن تعتني بيّ…
‘لكنهُ على الأرجح لا يرغبُ في إجراءِ مُحادثةٍ
محددةٍ عن هذا معي في الوقتِ الحالي.’
كنتُ أتساءلُ ما هو السببُ وراءَ هذا القرارِ الغريبِ، لكنني قررتُ أنَّ الوقتَ ليسَ مناسبًا لمناقشتهِ الآن، فأعدتُ تثبيتَ قبضتي على الأوراقِ، وقلتُ:
“انتظرْ يا مُعلِّمي! سأعدُّ لكَ اليومَ طَبقًا رائعًا!”
كنتُ قد طلبتُ من التؤام لوكا ولوبا شيئًا.
كانَ ذلكَ الشيءُ هو وصفةَ طعامٍ.
***
لم يكنْ بايير في مزاجٍ جيدٍ.
في الواقعِ، لم يكنْ يشعرُ بهذا السوءِ
منذَ ما يُقارِبُ ثلاثَ سنواتٍ.
غالبًا ما كانَ يشعرُ بالكسلِ، أو الإرهاقِ، أو المللِ.
وإن لم يكنْ أحدَ هذهِ المشاعرِ الثلاثةِ، فكانَ يَعيشُ مشاعرَ قريبةً من الاستسلامِ، مشاعرَ لا تتناسبُ مع طبيعتهِ.
أما حالتهُ الآن كانت بسببها فقط، بسببِ تلكَ
الطفلةِ التي قررَ أن يجعلها تلميذتهُ.
والتي هي ابنتهُ…
‘هل تحتاجُ إلى تلميذٍ ثانٍ؟’
بالأمسِ فقط، قامتِ ابنتهُ كاليبسو بشيءٍ لم يكن بعيدًا عما كانتْ تفعلهُ عندما ظهرتْ أمامهُ لأولِ مرةٍ.
لقد جلبتْ صبيًا وطلبتْ منهُ أن
يجعلهُ تلميذهُ الثاني.
وكانتِ المشكلةُ أنَّ الصبيَّ الذي أحضرتهُ
يُشبهها بشكلٍ لا يُخطئهُ أحدٌ.
كانَ ذلكَ هو ابنَهُ الثالثُ، وقد أيقظَ بالفعلِ قوةَ الماءِ بداخلهِ، وكأنَّ إدراكَ أبنهِ لغضبِ بايير جعلهُ شاحبَ اللونِ.
حتى الآن، كانَ هذا الموقفُ لا يُصدَّقُ.
‘هل تَنوِي إخفاءَ هذا عني؟’
في هذهِ المرحلةِ، كانَ بايير يتساءلُ عما
يدورُ في رأسِ ابنتهِ الصغيرةِ.
فمجرد أن تعرفَ الحقيقةَ وتطلبَ منهُ أن يأخذَ الصبيَّ كتلميذٍ دونَ أن يظهرَ عليها أيُّ تأثرٍ، كانَ ذلكَ أمرًا لا يُمكنُ القيامُ بهِ بعقلٍ سليمٍ.
وعلاوةً على ذلكَ، كانتْ تتفاخرُ أمامهُ بأبيها ‘الخيالي’ ذلك الأب الذي لم يكن موجودًا أبدًا فيه…
لم يكنْ هذا سلوكًا عاديًّا أبدًا.
هل يمكنُ أن يُصابَ الحوتُ القاتلُ بالجنونِ؟
الجوابُ كانَ ‘نعم’.
‘يا لكَ من مجنونٍ. أنتَ ابني، لكنك حقًا مجنونٌ.’
كانتْ هذهِ الكلماتُ التي قد سمعها
كثيرًا من والدتهِ.
وفي الواقعِ، كانَ هناكَ العديدُ من الحيتانِ القاتلةِ
التي نتيجةً لتطورِ غريزتها بشكلٍ مفرطٍ، لم تتمكنْ من السيطرةِ على الجنونِ أو الهوسِ الذي ينتجُ عنها، فاستسلمتْ له.
وكانتْ والدتهُ تقولُ دائمًا إنهم كانوا
ضُعفاءَ، ولهذا السببِ فقدوا عقولهم.
لكن بايير كانَ لهُ رأيٌ مختلفٌ.
كانَ يَعتقِدُ أنَّ الجُنونَ جُزءٌ لا يَتجزَّأُ من جيناتِ الحِيتانِ القاتِلةِ، شيءٌ مَحفورٌ فيهم لا يُمكنُ مَحوُهُ.
‘كلا، لا أحتاجُ إلى تلميذٍ ثانٍ. اغرُبْ عن وجهي.’
في هذهِ اللحظةِ، شعرَ بايير كما لو أنَّهُ قد خُدِعَ.
شعرَ بالدَّهشةِ والغضبِ معًا، فرفَضَ طلبَها فورًا.
وكانَ يُفكِّرُ في قطعِ هذهِ العلاقةِ البائسةِ
والخادعة بينَ المُعلِّمِ وتلميذتهِ.
لقد كانَ عازمًا على ذلكَ.
بالتأكيدِ كان سيفعلها.
‘مُعلِّمي، هل تعرفُ ماذا حدث؟ لقد تغلَّبتُ عليهِ اليومَ! لقد قلتَ ليّ أنني إذا خُضتُ مَعركةً، فلا يجبُ أن أعودَ مُضرَّجةً بالدِّماءِ، بل يجبُ أن أهزِمَهُ تمامًا!’
كانَ هذا ما خطَّطَ له.
‘هل حقًّا تغلَّبتِ عليه؟’
‘نعم، تغلَّبتُ عليه!’
لكن في اللحظةِ التي رأى فيها وجهَ كاليبسو المُبتهجَ والمليءَ بالثِّقةِ، ضاعت مشاعرُ الغضبِ.
لم يَحدثْ هذا من قبلِ.
لقد كانتْ علاقةً بدأها بدافعِ الفُضولِ الذي
لم يكنْ يشعرُ بهِ من قبلِ.
وكانَ يَظنُّ دائمًا أنَّهُ هو من يتحكَّمُ في نهايتِها.
‘لكن بعدَما تغلَّبتُ عليه، أصبحَ تابعًا لي. ولا أجدُ شيئًا أستخدمُهُ فيهِ. هل يُمكنُهُ أن يبقى هنا معنا؟’
لأولِ مرةٍ، شعرَ بايير أنَّ الأمورَ قد لا تكونُ كما كانَ يَظنُّ وقد لا تسير كما يشاء.
كانَ هذا شعورًا غريبًا، لا يُصدَّقُ، وصَعبَ الفهمِ.
‘هو أيضًا وحيدٌ مِثلي.’
هذهِ هي الكلماتُ التي نطقتها كاليبسو
وعيناها مليئتانِ بالوحدةِ.
عندما أدركَ ما حدثَ، كانَ قد وافقَ
بالفعلِ بطريقةٍ غيرِ متوقَّعةٍ.
كانَ ابنُهُ الثالثُ يَنظُرُ إليهِ بدهشةٍ، وكأنَّهُ لم يُصدِّقْ ما سمعهُ، لكنَّهُ لم يعترضْ على ما قالتْهُ كاليبسو.
وفي هذهِ اللحظةِ، شعرَ بايير بالفُضولِ.
كما يعرفُ، كانَ هناكَ فَجوةٌ كبيرةٌ في العمرِ
بينَ كاليبسو وابنهِ الثالثِ أجينور.
ولم يكنْ ذلكَ فقط، بل أجينور كانَ قد أيقظَ
قُوَّةَ الماءِ منذُ وِلادَتهِ، على عكسِ كاليبسو.
كيف تمكَّنَتْ من التلاعُبِ بهِ إلى حدٍّ
أنَّهُ لم ينبسْ ببنتِ شفةٍ؟
“مُعلِّمي، تَفضَّلْ! لقد انتظرتَ طويلًا، الطعامُ جاهزٌ!”
عندما عادَ بايير من أفكّارِه، وجدَ أمامهُ
طَبقًا تَتصاعدُ منهُ الأبخرةُ.
حينها تردَّدَ بايير للحظةٍ.
هل يُمكنُ لِطفلةٍ في الثالثةِ من عمرها أن تطبُخَ؟
كانَ ما أعدتهُ الآنَ يختلفُ تمامًا عن مُجرَّدِ ترتيبِ الطعامِ الذي كانَ يُحضِرهُ الخدمُ، أو تَسخينهِ، أو إجراءِ بعضِ التعديلاتِ البسيطةِ عليهِ.
ولكن، بايير، الذي لم يكنْ على دِرايةٍ بتفاصيلِ
نُموِّها وعبقريتها، قَبِلَ الأمرَ على مضضٍ كما هو.
“رأيتُ في المرةِ الماضيةِ أنَّكَ تُحبُّ سمكَ السَّلمونِ الأحمرِ! لذا بحثتُ عن وصفةٍ يُمكنني أن أضعَ فيها السمكَ.”
“بحثتِ عنها؟”
حينها نظرَ بايير إلى الطَّبَقِ ثم إلى وجهِ كاليبسو.
ثم تجهمَ قليلًا.
الطَّبقُ الذي قَدَّمتْهُ كاليبسو بثِقةٍ.
الطَّبقُ الذي كانتْ الأبخرةُ تَتصاعدُ منهُ.
كان…
عندما كشفَ الغِطاءَ عنهُ، كانَ يبدو بشكلٍ غريبٍ وغيرِ مألوفٍ، لا يُمكنُ أن يُقالَ إنَّهُ يحتوي على سمكَ السَّلمونِ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ.
ربما إذا كانَ هناكَ شيءٌ مثلَ ‘سَلمونٍ قادمٍ
من الجحيمِ’ فسيبدو الأمرُ منطقيًا.
‘…هذا كارثيٌّ.’
عندما طلبتْ أن تقطعَ لهُ الطعامَ، ظهرتْ
دلائلُ على هذهِ الفوضى منذُ البدايةِ.
يبدو أنَّ ابنتَهُ لا تُجيدُ الطَّبخَ على الإطلاقِ.
اعترفَ بايير بهذا الواقعِ بهدوءٍ.
من ناحيةٍ أخرى، شعرَ بالقلقِ لأنَّ الشخصَ الذي سيتعينُ عليهِ أن يَضَعَ هذا الطعامَ في فمهِ لا أحد سواه.
“هل يبدو جيدًا؟ ربما لا يبدو مظهرهُ كذلك، ولكنَّني
أخذتُ بعينِ الاعتبارِ العناصرَ الغذائيةَ أيضًا!”
والحقيقةُ أنَّ كاليبسو، كانتْ من النوعِ
الذي لا يُمانعُ أيَّ شيءٍ يدخلُ فمها.
في الحياتينِ الأولى والثانيةِ، كانتْ تُعاني من نقصِ التَّغذيةِ لدرجةِ أنَّها كانتْ تُعاني من ظُروفِ معيشيَّةٍ قريبةٍ من الإساءةِ في المنزلِ الذي بِيعتْ إليهِ.
وفي حياتِها السابقةِ، بعدَ أنْ تركتِ العائلةَ، عانتْ
كثيرًا، حيثُ كانتْ تعيشُ تقريبًا على صيدِ الحيواناتِ في المراعي أو الغاباتِ، وكانتْ تعيشُ بطريقةِ بقاءٍ قاسيةٍ.
لذلكَ، فقدَتْ حساسيتَها تجاهَ الطعامِ بشكلٍ كبيرٍ.
ومن المستحيلِ أنْ يمرَّ شخصٌ ما بثلاثِ مراتٍ
من إعادةِ الحياةِ دونَ أن يُصابَ بشيءٍ ما.
لذا فقد أظهرت كاليبسو العائدةُ منَ الزمنِ ثلاثة مراتٍ جُنونِها المتعلقِ بالطّعامِ والطَّبخِ دونَ أن تُدرِكَ ذلكَ بنفسِها.
“…هل تقولين إنَّكِ أخذتِ
القِيمَ الغذائيةَ في الحسبانِ؟”
“نعم، لقد حصلتُ على وصفةٍ ثمينةٍ! لقد راعيتُ
فيها كلَّ العناصرِ الغذائيةِ الأساسيَّةِ الثلاثةِ!”
‘…ولكن، يبدو لي أنَّني إذا أكلتُها، سأفقِدُ ليس فقط العناصرَ الغذائيةَ الثلاثةَ، بل حاسَّةَ التذوُّقِ بأكملِها.’
هكذا كانَ تَقييمُ بايير الهادئ لطبخ كاليبسو.
إذا كانَ لا يرغبُ في تناولِ هذا، كانَ بإمكانهِ
ببساطةٍ قلبَ الطَّبَقِ، أو رميَ الشوكةِ.
وحتى لو لم يكنْ يريدُه، كانَ يُمكنهُ
ببساطةٍ إبعادَ الطبق.
ولكن، لم تفعلْ يدُهُ أيًّا من هذا.
“في الحقيقةِ، لقد شعرتُ بالأسفِ
تجاهكَ يا مُعلِّمي، ولذلكَ…”
كالِيبسو، التي لم تكنْ على عِلمٍ بكلِّ ذلكَ، كانتْ تعبثُ بأصابعِها بتوترٍ بينما وضعَتِ الطَّبَقَ أمامَهُ.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي