طفلة الحوت الأسود القاتل - 16
__ الفصل 16 __
بَدا أنَّ النُّجومَ كانت مُتألِّقةً ومحفورةً بِعُمقٍ في عُيونِ الأطفالِ السَّوداءِ، ولكن سواءً كان ذلك صحيحًا أم لا، فقد بدأت أشعرُ بالقليلِ من الضَّجر.
‘هل قالَ بايير إنَّه لا يُحبُّ الأطفال؟ يبدو
أنَّني أيضًا لا أُحبُّهم كثيرًا…’
بِصراحةٍ، السَّببُ الأكبر ربما هو أنَّني قضيتُ يومًا كاملاً في المُعاناة المُستمرِ مع كارون وغيرهِ في أول يومٍ ليَّ.
“هل هذه المرةُ الأولى لكما في شيءٍ كهذا؟”
“ولا تقولا شيئًا لأحدٍّ عن هذا.”
“أنا كبيرٌ بما يكفي لِعَدَمِ قَولِ هذه الأشياء!”
“وأنا كذلك!”
“حسنًا حسنًا، أنتما رائعَانِ.”
لوَّحتُ لهما بيدٍ غيرِ مُباليةٍ بينما
وضعتُ قدمي على الدَّرج.
ولكن، التوأمَان اللَّذان كانا يُراقبانني
وأنا أَنْزِلُ أول دَرَجَةٍ، تحدثَا مرةً أخرى.
“الأميرة، هل الدَّرَجُ صعبٌ عليكِ؟”
“هل هو صعبٌ؟”
“لا، ليس صعبًا.”
حقًا، إنَّه ليس صعبًا.
‘يبدو أنَّ التَّدريبات التي قمتُ
بها مع والدي لم تكن بلا فائدةٍ.’
لم يكن الأمر مجردَ فائدةٍ، بل كان مُذهلًا.
لم أَتَخَيَّل أبدًا أنَّني سأتمكَّن من رَمْيِ طفلٍ يبلغُ من العمرِ ثمانيةِ سنواتٍ، ويكبرني بخمسِ سنواتٍ ويكبرني حجمًا بضعفينِ، بل أنَّي لا أستطيعُ حتى إيقاظَ قوةَ الماءِ.
كنتُ أظنُّ أنَّ التَّدريبات كانت قاسيةً دون مراعاةٍ
للعمرِ، ولكن ربَّما كنتُ مُخطئةً في تقديري.
على أيِّ حالٍ، أصبحتُ أقوى لذا النُّزول لم يكن صعبًا، ولكن المشكلة كانت في هذه الأرجل القصيرة.
‘…بالتَّأكيد الشَّخص الذي صنعَ هذا الدَّرج
لم يكن لديهِ أيُّ اعتبارٍ للأطفال!’
وفي اللحظة التي كنتُ أعقدُ فيها وجهي بعبوسٍ، شعرتُ فجأةً أنَّ جَسدي قد ارتفعَ في الهواءِ.
“نحن نساعدُ الأميرة!”
“نساعدها!”
“الأميرة أصبحت من فريقنا!”
“نعم! صديقةُ نَفْسِ الصَّف!”
عندما نظرتُ إلى الأسفل، رأيتُ التوأمين
يمسكانِ ساقيَّ، وكأنَّهما يحملانني في محملٍ.
لقد كانا قويَّين بشكلٍ أساسي، ربَّما بسبب
كونهما من الدلافين.
وفي غضونِ لحظةٍ فقط، نزلنا إلى الطابق
الأول، بينما كنتُ أبتلعُ لعابي بِصعوبةٍ.
نظرتُ إلى الممرِّ الطويلِ أمامي وحككتُ خدي، قائلةً:
“شكرًا لكُما.”
‘شِعاري هو أن أتذكَّر النعمَ التي تُقدّم
ليَّ بوضوحٍ والأعداءُ كذلك.’
“ما أسماؤكما؟”
بفضل ذلك، توقَّفتُ عن اعتبار هذا مُجرَّد
اهتمامٍ عابرٍ وبدأتُ أشعرُ بالفضول نحوهما.
بما أنَّني لا أتذكّر وجهيهما، فأنا متأكدةٌ من أنَّهما
لم يكونا من الذين التقيتهم في الحياة السَّابقة.
“أنا لوبا!”
“وأنا لوكا!”
“معًا نحن لوبا ولوكا!”
“أسماؤكما هؤدوبي دوبا…؟”
“كلا، بل لوكا ولوبا!”
ابتسمتُ وأنا أنظرُ إلى الأطفال ذوي
الشعر الأبيض كالدلافين تمامًا.
“حسنًا، أتمنى أن نكون على وفاقٍ جيّدٍ.”
بطريقةٍ غيرُ متوقعةٍ، يبدو أنَّني
حصلتُ على أتباعٍ لطيفين.
***
بدأتُ أشعرُ بالغرابة منذ أن ركبتُ العربة.
‘ما الأمر؟’
كانَ تَعبيرُ وجهُ الخادمةِ التي ركبت معي غريبًا للغاية.
ظننتُ أنَّها تَنظرُ إليَّ وكأنَّني شيءٌ مزعج، لكن عند النظر بتمعنٍ، كانَ تَعبيرهُا يبدو متوترًا للغايةِ حتى أنَّ العرق البارد كان يتصبَّب منها.
وعندما نظرتُ إليها بإمعانٍ، أطلقَتْ الخادمةُ
سعالًا صغيرًا وأدارت نظرها بعيدًا.
‘بالفعل، إنَّه أمرٌ غَريبٌ.’
كانت تصرفات الخادمةِ غامضةً حقًا.
سواءً كان في سلوكها أو تعابيرِ وجهها.
حتى تحيتها عندما ركبت العربة
كانت أمرًا لم أعتد عليهِ.
‘هل توّدينَ المُغادرةَ الآن سيدتي؟’
كانَ وجهها مُتجمدًا وتحيتها بدت شديدةَ الاحترامِ.
بل إنَّها كانت نبدو مُتصلبةً لدرجةِ المُبالغةِ
في التمسك بالرسميات.
ومن خلال النَظرِ إليها بتمعنٍ، لم يكن
من الصعب فهم الأمر.
‘آه، يبدو أنَّ الأمر قد وصل إلى مسامع جدتي؟’
وكما ذكرتُ سابقًا، الخادمة التي تأخذني وتعيدني
هي خادمةٌ تَعملُ تحتَ إمرةِ جدتي.
الآن فقط أدركتُ أنَّ جميعَ أفعالي
قد وصلت إلى مسامع جدتي.
‘نعم، يجب أن تكون الأمور التي فعلتُهَا مثيرةً للاهتمامِ لكي تصل إلى مسامعها، أليس كذلك؟’
ابتسمتُ بسخريةٍ وأنا أتكئ بيدي على
ذقني، ومن ثم استرخيتُ على المقعد.
لكن هذا لم يكن كل ما فاجأني…
عندما وصلتُ للتوِّ أمام المبنى، كان هناك
أشخاصٌ غرباءٌ كُثُر يقفونَ هنا.
حينها رمشتُ بعيني بذهولٍ.
‘مَن هؤلاء؟’
“سيدتي كاليبسو، هل ما زلتِ مُصرَّة
على البقاء في هذا المبنى لفترةٍ أطولَ؟”
“نعم.”
هذا هو المكانُ المُناسب للألتقاءِ بـ بايير.
“…كانت نيتُنا الأصليةُ أنتقالُ السيدة كاليبسو إلى المبنى الرئيسي، ولكن لأنكِ رفضتِ الانتقال، فقد قرروا إرسالَ الدعمِ من المبنى الرئيسي إلى هنا.”
“دعم؟”
“نعم، سيدتي كاليبسو. هؤلاء هنَّ الخادمات
اللواتي سيعتنين بكِ مُنذ الآن.”
أدركتُ الآن مَن هنَّ هؤلاء النساء
اللَّاتي يقفن أمام الباب.
وأدركتُ أيضًا سبب وقوفهنَّ هناك باحترامٍ.
عند رؤيةِ هذا، لم يسعني سوى الأبتسام.
‘آه، يبدو أنَّني بدأت أستحقُ بعضَ الاهتمامِ الآن؟’
بالنَظرِ إلى أنَّني قد التحقتُ بالأكاديميةِ الابتدائية وتجاوزتُ الصف الأول في اليوم الأول، فإنَّ هذه الأخبارَ قد وصلت إلى المبنى الرئيسي بلا شكٍ.
إذا كان اتخاذهم للإجراءاتِ يستغرقُ هذا الوقت فحسب، فإن توقعي بأنَّهم سيبدون اهتمامًا عندما أصل إلى الصف الأعلى كان صحيحًا.
وفي الواقع، السببُ في ذلك هو أنَّ إخوتي
الكبار مجانين ومهووسين للغاية، لذا فقد أفسح
ليَّ هذا المجالَ لأظهارِ موهبتي.
ولو استثنينا شخصياتهم هذه، لكانوا أذكياءً وعباقرةً.
‘ولكن…ألا تبدو ملابس الخادمات أغلى
من جدران المبنى الذي أعيشُ فيهِ حتى…’
كانت وجوه الخادمات كلها هادئة.
بالأدق، كنَّ ينظرن إليَّ بفضولٍ.
كانَ مُعظمهنَّ يملكن وجوهًا مُشرقةً، ولم يكن
هناك أيُّ شخصٍ يبدو غير راضٍ عن الوضع هنا.
آه، بالنسبةِ لهؤلاء الخادمات، يبدو أنَّ إرسالهنَّ فجأةً
إلى هذا المكان أشبه بالنَّفي، أليس كذلك؟
ربما هنَّ يُخفين مشاعرهنَّ خلفَ وجوهٍ بلا تعبيرٍ.
حينها لاحظتُ خادمةً واحدةً تقفُ بينَ
الخادماتِ، وتبدو غير مُرتاحةٍ.
كانت ميسيا.
الخادمةُ التي تم نقلها إلى هنا مؤخرًا.
والتي كانت موهوبةً بشكلٍ عبقري في أكتشاف
‘الموارد ومصادر المياه’ في حياتي السابقة.
“أمم، من الجيد أنهنَّ هنا، لكن… أريدُ أنَّ
أختارُ خادمتي الشخصية بنفسي.”
“خادمة شخصية؟”
“أقصدُ المُربية، يبدو أنَّهم لا ينوون توفيرَ مُربيةً
ليَّ، لذا هل ستكون هناك مُشكِلةٌ إذا اخترتها بنفسي؟”
“هاه؟ كلا، ليست هناك مشكلة…ولكن…”
“إذًا سأختارُ تلك.”
الخادم الذي نظر إلى إتجاه إصبعي بدا مُندهِشًا.
اقتربتُ من ميسيا التي كانت تقفُ بِمُفردها وقلت:
“ميسيا، هي التي كانت هنا معي مُنذ
البدايةِ، وقد ساعدتني كثيرًا.”
“ماذا…؟”
بالطبعِ، رُغمَ أنَّنا التقينا للمَرةِ الأولى قبلَ بضعةِ أيامٍ، إلا أنَّه يُقال إنَّ الأشخاص يمكنهم تكوينُ روابطٍ عميقةٍ حتى لو قضوا معًا بضعةَ أيامٍ فقط.
‘…وبالرُغمِ مِن أنَّنا لم نتحدث كثيرًا أيضًا.’
كانت ميسيا تنظر إليَّ بتعبيرٍ يشبه
التعبيرَ المُندهشَ الذي أبداهُ الخادم.
أشرتُ إليها بحركة شفاهٍ لكي تصمت
عندما حاولت قولَ شيءٍ.
“لقد كانت لطيفةً معي، تهتمُّ بي، وتهتمُّ بتوفيرِ
الطَّعام ليَّ بشكلٍ جيّدٍ. وخصوصًا الطَّعام.”
“الطَّعام…؟”
“نعم، الطَّعام. أنتَ تعلمُ أنَّنا نحن الحيتان القاتلة
والأطفالُ الآخرين نولدُ ضُعفاءً.”
‘ولهذا يُتركونَ هُنا. لتربيةِ أولئكَ الذين ينجون فقط.’
“ولهذا على الأقل يجبُ أنْ يتمَّ توفيرُ الطَّعامِ لنا…أليسَ كذلك؟ لكي نتمكَّنَ من البقاءِ على قيدِ الحياةِ كأطفالٍ يتمتَّعونَ بالقوةِ واللياقةِ البدنيَّةِ المُمتازةِ؟ وعلى ما أذكّرُ، هذا ما قرَّرتْهُ الجَدَّةُ، أعني رئيسةَ العائلةِ.”
“صَحيحٌ.”
“لقدْ عانيتُ من الجوعِ كثيرًا في طفولتي…كنتُ
على وشكِ أنْ أفقدَ فرصةَ عرضِ موهبتي أمامَ رئيسةِ العائلةِ بسبب إهمال الطَّعامِ هُنا.”
هذا الكلامُ لم يكن ليخرجَ مني
لو لم يتمَّ الاعترافُ بموهبتي.
ولكنْ هناكَ قولٌ مأثورٌ: عندما يمتلكُ الإنسانُ القوةَ، يستطيعُ تحويلَ المُستحيلِ إلى مُمكنٍ.
قد يكونُ هذا الأمرُ مزعجًا، ولكن عندما يزورُ سياسيٌّ أو شخصيةٌ بارزةٌ أيَّ مُستشفى، يحصلُ على الأولويَّةِ في العلاجِ على عكسِ الآخرين.
ولذا إذا كانت مكانتي قد تغيرتْ
خلالَ الأيامِ القليلةِ الماضيةِ.
فلِمَ لا أستفيدُ من هذا التغييرِ؟
‘لنْ أدَعَ الخادمةَ التي جَوَّعَتْني
وضَرَبَتْني تَمْضي بدونِ حسابٍ.’
الأطفالُ الذينَ يُرسَلونَ إلى هنا هم حديثو
الولادة، لا يستطيعونَ الكلامَ ولا المشيَ.
ولكن أنا التي أستطيعُ فِعلَ كُلِ هذا، لم تكنْ لديَّ أيُّ نيَّةٍ لتركِ الخادماتِ اللاتي يَستمتِعنَ بتعذيبِ هؤلاء الأطفالِ يهربنَّ من العقاب.
“مَن يَدري كَمْ مِنَ الأطفالِ الموهوبينَ قدْ ماتوا هنا؟”
“…إنَّها قاعدةٌ في عائلةِ الحيتان
القاتلة…أن البقاءَ للأقوى.”
“أعرفُ ذلك جيدًا.”
ابتسمتُ بلطفٍ، ومن ثم أكملت قائلةً:
“ولكنْ، هلْ الاستحمامُ بالماءِ الساخنِ حتى الإصابةِ بحروقٍ، وتناولُ طَّعامٍ عَفنٍ برائحةٍ كريهةٍ، وتحملُ ألمِ المعدةِ دونَ دواءٍ، يُعتبَرُ جزءًا من هذا التحدي؟”
بعضُ الخادماتِ اللواتيَ كُنَّ يستمعْنَ، شَحِبَتْ وجوههنَّ.
بعضُهنَّ وضعْنَ أيديَهنَّ على أفواهِهنَّ حتى.
هاه، يبدو أنكنَّ قد مررْتُنَّ بذلك أيضًا، أليسَ كذلك؟
“هلْ كان هناكَ من يقومُ بهذه التصرفاتِ؟”
“أعتقدُ أنَّ الإشرافَ على الأمرِ كان من مسؤوليةِ
المبنى الرئيسيِّ، أليسَ كذلك؟”
“…”
“ألستَ فَضُولِيًّا لمعرفةِ ما يمكنُ أنْ أقولَ
لجدتي في لقائنا المُقبلِ؟”
على الرغمِ من أنني لنْ ألتقيَ بجدتي
مرةً أخرى إلا إذا حققتُ إنجازاتٍ كبيرةً.
كما قد كان لديَّ أشياءُ أخرى لأقولها، وليس عن هذه الأمور، ولكن ما دمتُ هنا فَلِما لا أستغلُ جدتي و والدي؟
“لكنني سأخبرُ والدي. يبدو أنَّه مهتمٌّ
بمعرفةِ كيفَ كنتُ أعيشُ.”
“با-بايير؟ هل تقصدينَ السيد بايير؟”
“نعم. والدي.”
قلتُ هذا ومن ثمَّ ابتسمتُ بوجهٍ مشرقٍ.
إذ كنتُ سأستفيدُ مِن كلِّ شيءٍ ممكنٍ.
“آه، ألم تعلموا بأنني دخلتُ الصفَّ الأعلى في
الأكاديميةِ التعليميةِ؟ إذًا لما لا تعلمونَ
بشأنِ شيءٍ بسيطٍ كهذا؟”
“…”
مِن المستحيلِ ألا يكونوا قدْ علموا.
إذا كانت كلُّ تحركاتي تصلُ إليهم.
فبالتأكيد كانوا يعرفونَ أنني ذكرتُ والدي
خلالَ هذه الفترة مرارًا وتكرارًا.
“والدي كان مهتمًّا جدًّا بمعرفةِ المزيدِ
عني. كنتُ على وشكِ زيارتِهِ اليوم.”
“…سيدتي كاليبسو.”
“ماذا؟”
“سوف نبدأُ التحقيقَ الشاملَ حولَ هذا.”
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي