حين يسود الظلام - 2
كبرت فيوليت والينور كأنهما نجمين يضيئان سماء الإمبراطورية، كل واحدة منهما تشع بمجدها الخاص. فيوليت، برقة قلبها وحبها للحياة، كانت تجذب القلوب بروحها المرحة وضحكتها الصافية. في حين أن الينور، ذات العيون البنفسجية والشعر الأسود المشرق، كانت تشبه سرًّا غامضًا يكتنفه الظلام، يثير الفضول والخوف في نفس الوقت. كانت تبتعد عن الأضواء، وتغوص في الكتب القديمة وتستمع لأساطير المحاربين والملوك القدامى، حتى أنها كانت تجلس ساعات طويلة تتأمل في القمر وتنسج خيوطًا من الشعر الغامض الذي يروي قصصًا عن المستقبل.
كبرت فيوليت وإلينور كأنهما نجمتان تضيئان سماء الإمبراطورية، لكنهما كانتا في مسارين متناقضين تمامًا. فيوليت، رمز النور والحياة، تجذب القلوب بسهولة بروحها المرحة وسحرها الفطري. أما إلينور، بشعرها الأسود اللامع وعينيها البنفسجيتين الغامضتين، فكانت لغزًا محيرًا، أقرب إلى الظلام من النور.
كان الجميع ينتظر يوم الاحتفال الكبير بفارغ الصبر، حيث ستُقام طقوس إيقاظ السحر الخاص بالأميرتين. كان اليوم مشحونًا بالترقب والآمال، وكانت الإمبراطورية بأكملها تحتفل بهذا الحدث الاستثنائي.
في تلك اللحظة، التفتت إلينور إلى والدتها بابتسامة خجولة وقالت:
“أمي، هل تعتقدين أن لديّ سحرًا؟”
ابتسمت والدتها ابتسامة وأجابت :
“سنرى يا صغيرتي.”
اصطف الحشد في ساحة الاحتفال، وكانت الأنظار كلها تتجه نحو فيوليت، التي تألقت كأنها شعاع من النور وسط الظلام. أما إلينور، فكانت تسير بجانب والدها، الذي بالكاد التفت إليها. كان قلبها الصغير يرتجف وهي تحاول مواكبة خطواته السريعة.
بينما كانت تسير بتوتر، تعثرت وسقطت على الأرض. رفعت عينيها بخجل إلى والدها، لكنه لم يلتفت إليها، بل أكمل سيره غير مكترث. حاولت إلينور كتم دموعها، ورسمت ابتسامة ضعيفة على وجهها لتواصل المشي خلفه.
حين بدأت المراسم، أُعلن أن فيوليت هي الأولى لتلمس الكرة السحرية. تقدمت بخطوات واثقة ولمست الكرة بيدها، لتغمر الساحة بإشعاع ذهبي باهر أضاء المكان بأسره. وقف رئيس السحرة مذهولًا وأعلن بصوت جهوري:
“إنها تمتلك طاقة سحرية عظيمة! هذا هو سحر النور النقي.”
عمّ الهتاف المكان، ووقف الإمبراطور مبتسمًا بفخر، ثم ركضت فيوليت نحوه لترتمي بين ذراعيه، فاحتضنها بحب وقلق وهو يتحقق من سلامتها.
حين جاء دور إلينور، ساد صمت ثقيل. تقدمت بخطوات مترددة نحو الكرة، ولمستها بيد مرتجفة، لكن لم يحدث شيء. حاولت مرة أخرى، ثم ثالثة، ولكن دون جدوى. ارتفعت الهمسات بين الحضور، ثم أعلن رئيس السحرة ببرود:
“لا يبدو أن الأميرة إلينور تمتلك أي سحر.”
تحولت الهمسات إلى ضحكات مكتومة ونظرات استصغار. رمقها الإمبراطور بنظرة ملؤها الخيبة والكره، في حين سارت إلينور نحو والدتها وهي تبكي، متوقعة منها الدعم. لكن والدتها، بدلاً من احتضانها، صفعَتها بقسوة وقالت بصوت مليء بالاحتقار:
“ما الفائدة من إنجاب طفلة مثلك؟”
وقفت إلينور مذهولة، والدموع تغطي وجهها، بينما شعرت بثقل الظلام يزحف إلى قلبها الصغير لأول مرة. كان ذلك اليوم بداية تحولها، ليس فقط من طفلة صغيرة إلى فتاة ناضجة، بل من أميرة منبوذة إلى رمز للغموض الذي سيغير مصير الإمبراطورية بأكملها.
بعد حادثة الطقوس، تغيّرت حياة إلينور بالكامل. كانت والدتها، التي كانت تحبها ، قد تحولت إلى كابوس يومي. كلما وقعت عيناها على إلينور، كانت مشاعر الغضب والاحتقار تفور بداخلها، فتنهال عليها بالضرب والتوبيخ.
“لقد أحرجتني أمام الجميع!” تصرخ والدتها وهي تدفعها بقسوة. “يا لكِ من طفلة غير مفيدة! لماذا أنجبت مخلوقًا غبيًا مثلك؟ كنت أتمنى صبيًا قويًا يرث العرش… لكنكِ؟ أنتِ مجرد عار!”
كانت كلماتها كالسهام، تخترق قلب إلينور بلا رحمة. كل مقارنة بينها وبين فيوليت كانت تضاعف من جراحها.
“لماذا لستِ مثلها؟ فيوليت نور الإمبراطورية، أما أنتِ… فأنتِ قمامة!”
مع الوقت، بدأت إلينور تتجنب والدتها. كانت تخشى حتى المرور بجانبها، وتتمنى ألا تتلاقى أعينهما. لجأت إلى زوايا القصر المهجورة، حيث تستطيع الهروب من نظرات الاحتقار وكلمات الكره التي تلاحقها.
في ليلة باردة كأنها انعكاس لبرودة حياتها، كانت إلينور تختبئ في أحد أروقة القصر المعتمة. كان الظلام يلف المكان، والصمت لا يُقطع سوى بأنفاسها المرتجفة. فجأة، سمعت صوت خطوات تقترب، فأحست قلبها ينقبض خوفًا. ظنت أن والدتها قد جاءت مجددًا، وربما هذه المرة سيكون العقاب أقسى.
تراجعت إلى الوراء وهي تضم ركبتيها إلى صدرها، تحاول أن تختفي تمامًا، لكن ما ظهر أمامها لم يكن والدتها.
ظهر من الظلام مخلوق غريب… كان تنينًا صغيرًا، بحجم لا يتجاوز قطة كبيرة، تكسوه قشور سوداء تلمع كالأونيكس في ضوء القمر الخافت. كانت عيناه حمراوين كالجمر، لكنه بدا وديعًا بطريقة لا تتوافق مع شكله المهيب.
حدقت إلينور فيه بعينين متسعتين من الذعر، وانكمشت أكثر وهي تهمس بخوف:
“ما… ما هذا؟!”
اقترب التنين منها بخطوات بطيئة وحذرة، ثم تحدث بصوت عميق وهادئ، صوت بدا وكأنه ينبع من أعماق عقلها:
“لا تخافي يا صغيرتي… أنا هنا لحمايتك.”
ازدادت ارتجافة جسدها، وعيناها تبحثان عن طريق للهروب، لكن التنين أكمل بصوت مطمئن:
“لا أحد يستحق ما مررتِ به. أنا هنا لأنكِ استدعيتِني، حتى لو لم تدركي ذلك بعد.”
قبل أن تستطيع الرد، شعرت برأسها يدور، وبأنها تفقد السيطرة على جسدها. الظلام الذي كانت تختبئ فيه ابتلعها بالكامل، وسقطت فاقدةً الوعي.
عندما استيقظت، كانت تجلس في مكان غريب. بدت السماء فوقها مغطاة بغيم أسود كثيف، والأرض مكسوة بعشب أرجواني يتلألأ كأن النجوم هبطت عليه. التنين كان هناك، يجلس بهدوء بجانبها، وينظر إليها بعينيه المتوهجتين.
“أين أنا؟” سألت إلينور بصوت ضعيف، بينما تحاول استيعاب ما يجري.
أجاب التنين:
“أنتِ في عالم الظلال… مكان لا يدخله إلا من اختارهم القدر. هذا العالم ليس للجميع، بل لأولئك الذين يحملون قوة لا يمكن للنور أن يستوعبها.”
حاولت أن تقف، لكنها شعرت بثقل في جسدها، وكأنها مربوطة بشيء غير مرئي.
“لماذا أنا هنا؟” قالت بإحباط. “لا أملك قوة، لا أملك شيئًا… أنا مجرد ظل.”
ابتسم التنين ابتسامة خفيفة، وقال بصوت مليء بالحكمة:
“هذا ما يريدونكِ أن تصدقيه. ولكنني أراكِ كما أنتِ… لديكِ قوة أعظم مما يتخيلون. قوة لا تحتاج إلى النور لتتألق.”
أخرج التنين من تحت جناحه قطعة صغيرة من البلور الأسود، وقدمها لها:
“هذه هي البداية، إلينور. إذا اخترتِ قبولها، فإنكِ ستكتشفين من أنتِ حقًا. ولكن تذكري… كل قوة تأتي بثمن.”
أمسكت إلينور البلورة بيد مرتجفة. في داخلها شعرت بصراع. هل تقبل هذه القوة الغامضة وتترك الظلال تحتضنها، أم تظل تلك الفتاة التي يعيش الجميع في استصغارها؟
نظرت إلى التنين بعزم جديد، وقالت:
“سأفعل. إذا كان هذا هو قدري، فلن أهرب منه بعد الآن.”
ابتسم التنين وقال بصوت حازم:
“جيد جدًا… لأن رحلتك الحقيقية تبدأ الآن.”
استيقظت إلينور على صمت ثقيل يلف الغرفة. عيناها كانت نصف مفتوحة، تحاول التركيز على ما حولها. شعرت بيدها اليمنى تمسك بشيء بارد وصلب. نظرت إلى يدها فرأت بلورة سوداء صغيرة تلمع بوميض غامض، كأنها تحمل سرًا خطيرًا. حاولت تذكر ما حدث، كيف وصلت إلى هنا، لكن عقلها كان غارقًا في فراغ عميق، وكأن ذكرياتها قد سُرقت منها.
قبل أن تستوعب الوضع، انفتح باب الغرفة بعنف، واندفعت والدتها إلى الداخل كإعصار. كانت عيناها مشتعلة بالغضب، وصوت خطواتها على الأرضية الحجرية كان كدقات طبول الحرب.
تراجعت إلينور فورًا، وجلست على ركبتيها وهي ترتجف كعصفور صغير عالق في عاصفة. عيناها علقتا بالأرض، لا تجرؤان على النظر إلى ملامح الغضب المتفجرة في وجه والدتها.
“أنتِ!” صرخت والدتها بصوت كأنه صدى غاضب يمزق الجدران. “لماذا أنجبت طفلة مثلك؟ غبية! عديمة الفائدة!”
خطواتها كانت تقترب أكثر فأكثر، وإلينور تتراجع للخلف حتى شعرت بظهرها يلتصق بجدار الغرفة البارد. كانت تحاول تقليص نفسها، كأنها تتمنى أن تختفي تمامًا.
بصوت مليء بالقسوة، تابعت والدتها وهي تلوح بيدها:
“كل يوم أنظر إليكِ وأتساءل… لماذا لم تكوني مثل فيوليت؟! لماذا لم تكوني شيئًا أفتخر به؟ أنتِ مجرد وصمة عار!”
ثم انهالت عليها بالضرب. كل صفعة كانت تحمل غضب سنوات من الإحباط، وكل كلمة كانت تطعن روح إلينور بعمق أكبر.
“أنتِ لا تستحقين حتى أن تكوني هنا! لماذا لم تأخذكِ الظلال التي تحوم حولكِ؟!”
إلينور كانت متكومة على الأرض، يداها تحاولان حماية وجهها، لكن جسدها كان يرتعش بشدة. بين الألم والخوف، شعرت بالبلورة السوداء في يدها تبعث حرارة غريبة، كأنها تستجيب لما يحدث.
في لحظة، وبينما والدتها ترفع يدها مرة أخرى لتضربها، انبعث من البلورة وميض خافت، كأن الظلام ذاته قرر أن يتدخل. توقف جسد والدتها للحظة، وشعرت بشيء غريب، شيء جعلها تتراجع خطوة للوراء دون أن تدرك السبب.
إلينور، التي كانت عيناها مغرورقتين بالدموع، رفعت رأسها ببطء. كان الخوف ما زال موجودًا، لكنه هذه المرة كان ممزوجًا بشيء آخر. كان هناك بريق غريب في عينيها البنفسجيتين، بريق لم تلاحظه والدتها، لكنه كان كافيًا ليزرع بذرة تغيير داخلها.
في تلك اللحظة، أدركت إلينور أن الألم ليس سوى بداية لشيء أكبر، شيء لم تكن تعرفه بعد، لكنه كان ينتظر اللحظة المناسبة لينطلق.