حصلتُ على أب مُزيف - 7- لم يكُن حلمًا
الفصل السابع: لم يكن حلماً
حدّقت إيلي في السماء بشرود.
كانت الغيوم تنساب ببطء، وكأن شيئًا لم يحدث. بدا المشهد هادئًا للغاية، على عكس واقعها، الذي كان مؤلمًا لدرجة تكاد تموت فيها كل يوم.
ثم، فجأة، ظهر رجل يدّعي أنه والدها، وأشخاص ينادونها بـ”آنستي” ويعاملونها بمودة. لم يكن هذا تمثيلًا، ولا مجرد دور تلعبه.
وهكذا، وجدت إيلي نفسها غارقة في التفكير.
“هل يمكنني تصديق كلامهم؟ أنا…”.
لكن قلبها لم يكن مستعدًا لتقبّل الأمر بسهولة. لم يجلب لها الإيمان بالآخرين أي خير قط.
تنهدت بعمق، زفرة لا تليق بعمرها الصغير.
ماري، التي كانت تراقبها بصمت من الخلف، لم تستطع قول شيء.
في تلك الليلة…
بعد إنهاء أعماله المهمة، كان رايفن يسرع في خطواته.
بالنسبة للطفلة، قد يكون لكل دقيقة وثانية معنى مختلف. أراد أن يقضي معها وقتًا أطول، لكن الأمور لم تسر كما أراد، مما جعله يتأخر أكثر مما توقع.
“اللعنة. ذلك المعتوه لا يزال مختبئًا، ومع ذلك يثير كل هذه الفوضى بحثًا عن إيلي؟ لكن هذه المرة، أنا من وجدها أولًا. وسأحميها… لذا… سأقتله. ذلك المجنون.”
كان يتمتم بكلمات غامضة بينما يعض على أسنانه بغضب، إلا أن خطواته لم تتباطأ، بل ازدادت سرعة. لم يكن هناك من يطارده، لكنه كان مستعجلًا كما لو أن حياته تعتمد على ذلك.
ورغم أنه أرسل ديل إلى غرفة إيلي مسبقًا بدافع القلق، إلا أن التوتر لم يفارقه. ماذا لو حدث لها شيء في تلك الأثناء؟ لم يستطع التخلص من هذا القلق.
أمام غرفة إيلي
عندما وصل أخيرًا، كان ديل في انتظاره بالخارج وكأنه علم بقدومه مسبقًا.
“لقد أتيت، سيدي.”
“نعم. ماذا عن إيلي؟ هل كانت بخير طوال اليوم؟”
“نعم، تناولت طعامها جيدًا، ولعبت أيضًا. ماري قامت بقص شعرها وأرتها أنحاء الغرفة.”
“هذا مطمئن. لم يحدث أي شيء غريب؟”
“لا، لم يحدث.”
أطلّ رايفن بحذر من الباب، قلقًا من أن يزعجها.
داخل الغرفة، جلست إيلي على حافة النافذة، تحدق في الخارج بشرود.
أراد أن يدخل ويسألها عمّا تفكر فيه، لكنه تراجع، محاولًا كبح مشاعره.
تذكر الكتب التي قرأها حول تربية الأطفال قبل أن تصل إيلي، وقبل أن يدخل الغرفة، استدار نحو ديل وسأله بصوت منخفض، حتى لا تسمعه إيلي:
“ما الذي تحبه إيلي؟ الدمى؟ الألعاب؟ هذا ما قرأته في الكتب.”
“لا، آنستي تحب… الشرود.”
“ماذا؟”
“يبدو أنها تستمتع بالجلوس بهدوء والتحديق عبر النافذة. لقد مضى أكثر من ساعة وهي على هذه الحال.”
عند سماع ذلك، فتح رايفن الباب ودخل بهدوء، متجهًا نحوها.
عندما شعرت إيلي بحركته، ارتعش جسدها للحظة، لكنها لم تبتعد. جلس بجانبها دون أن ينطق بكلمة، ثم بدأ بالتحديق في الخارج مثلها تمامًا.
راقبته إيلي لفترة، وحين أدركت أنه لا ينوي إيذاءها، عادت بصرها إلى النافذة.
وهكذا… خيّم الصمت.
لم يتحدث أيٌّ منهما.
لم يبادر أيٌّ منهما بالكلام أولًا.
وبعد صمت طويل، استدارت إيلي ببطء. كانت لديها أسئلة تريد طرحها.
“أنا… في هذا المكان…”
“همم؟”
“أنا لا أنتمي إلى هنا… أليس كذلك؟”
“ماذا تعنين؟”
“قضيت يومًا كاملًا وأنا أشعر بالسعادة… ألا يفترض أن يُعاقَب الشخص على ذلك؟ لقد فكرت في هذا الأمر.”
“ماذا…؟”
“سمعت من ماري أنك تعتقد أنني ابنتك. ولكن… ماذا لو اكتشفت يومًا أنني لست كذلك؟ هل ستعاقبني؟”
كانت عينا إيلي تترقرقان بالدموع، وكأن فكرة التعرض للأذى حين تكون سعيدة كانت مألوفة لها. كما لو أن السعادة كانت دائمًا مقدمة للعقاب، تمامًا كما رأته يحدث في مكان ما من قبل.
بالطبع، لم يكن من الممكن أن تكون ابنته الحقيقية. فوالداها الحقيقيان لم يكونا سوى الإمبراطور الذي أساء معاملتها منذ ولادتها، والأم التي غادرت هذا العالم مبكرًا.
تأمل رايفن وجهها للحظة، ثم مال رأسه قليلًا بتعجب.
“لماذا تفكرين بهذه الطريقة؟ لا يوجد هنا من قد يؤذيك، يا إيلي. الجميع يهتمون بك. أنتِ ابنتي الحقيقية.”
“لماذا…؟ لماذا تعتبرني ابنتك؟”
“لماذا شخص مثلي؟”
“لأنكِ طفلتي المميزة.”
“أنا… لست مميزة. بل أنا ملعونة.”
“لا، إيلي. أنتِ أكثر شخص مميز على الإطلاق. شعرك الأسود، عيناك الداكنتان، وحتى أنفاسك… كل شيء فيك فريد.”
“لا، لا بد أنك مخطئ. أنا… لست الفتاة التي كنت تبحث عنها. ماري قالت إنك جُبت أماكن كثيرة للعثور على ابنتك، لكن… أظن أنني لست هي.”
“أنا مجرد فتاة عادية، لا شيء مميز بي. سوى اللعنة التي تحيط بي، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنني وصف نفسي به.”
كانت إيلي تدرك ذلك جيدًا، لذا لم تستطع تصديق كلامه.
سواء كان هو أو ماري، كلاهما وصفها بأنها مميزة، لكنها لم تستطع تصديق ذلك. الفكرة الوحيدة التي سيطرت عليها هي أنهم ربما أخطؤوا في التعرف عليها.
“لا، الفتاة التي كنت أبحث عنها طوال هذا الوقت… هي أنتِ.”
“لماذا؟ لماذا أنت واثق هكذا…؟”
“كيف يمكنك أن تكون متأكدًا بهذه الدرجة؟”
رفعت إيلي عينيها المرتبكتين نحوه.
كانت خائفة. خائفة من أن يأتي يوم ويقول لها إنه أخطأ، وإنها ليست الفتاة التي كان يبحث عنها. رغم أنه يقول الآن إنها ابنته، إلا أن الأمور قد تتغير في أي لحظة.
بدأ قلبها يتذبذب… وأصبح فقدانه أمرًا تخشاه.
“أنا… خائفة.”
“ممَ تخافين؟”
“السعادة التي مُنحت لي… تبدو كبيرة جدًا. لدرجة أنني أخشى أن تختفي فجأة. أخشى أن تظهر ابنتك الحقيقية ذات يوم.”
لم يجب رايفن على كلماتها الخافتة.
أصبح يفهم الآن. عدم قدرتها على الوثوق بالناس… كانت منطقية. بعد كل الإساءة التي تعرضت لها، من الطبيعي ألا تصدق كلماته بسهولة.
حتى لو قال إنه لن يتركها، فالأمر لا يعتمد عليه وحده. إذا لم تفتح قلبها، فلن تصل إليها مشاعره أبدًا.
استمر الصمت طويلًا، ولم ينطق رايفن بكلمة واحدة.
نظرت إيلي إليه، محاولة حبس دموعها.
“لكن… رغم ذلك، شكرًا لك. حتى لو كان ليوم واحد فقط… لقد منحتني هذه السعادة.”
“إيلي…”
“حقًا…”
غارقةً في أفكارها المثقلة بالحيرة والحزن، دفنت إيلي وجهها بين ركبتيها.
“أتمنى… لو أن هذا الحلم لا ينتهي. أنت حقًا تبحث عن ابنتك… وربما لأنك لا تعلم إن كنتُ أنا هي، لذلك أبقيتني معك… أودّ البقاء هنا قليلًا بعد…”
بدأت تتمتم بكلماتها بينما يغلبها النعاس، كأنها تعبر عن مشاعرها دون وعي. أراد رافين أن يسألها مجددًا عما تعنيه، لكن في تلك اللحظة، بدأت رأسها الصغيرة تتمايل يمينًا ويسارًا، عاجزة عن مقاومة النوم.
تأملها للحظة، ثم حرّكها بحذر لتستلقي على ساقيه. بحزنٍ واضح، مرّر يده بلطف على شعرها، لتستكين أكثر في نومها العميق، غير شاعرة بلمسته الهادئة.
لقد كان يومًا قاسيًا عليها. فقط في الصباح، كانت غارقة تحت المطر، تتجمد حتى العظم. من الطبيعي أن تنهك هكذا.
في تلك الأثناء، اقترب ديل بهدوء ووضع غطاءً دافئًا فوق جسدها الصغير. نظر إليها للحظة طويلة، وكأنه يفكر في شيء ما، ثم زفر بخفوت قبل أن يضع غطاءً آخر فوق كتفي رافين أيضًا.
“سيدي.”
“همم؟”
“ألستَ راغبًا في معرفة ما حدث لها؟ ما الذي مرت به؟”
عندها، حرّك رايفن أصابعه نحو الطفلة. في لحظة، انبعث منها ضوء ذهبي خافت، لكنه سرعان ما تلاشى حين هزّ رأسه نافيًا.
“سأنتظر حتى تخبرني بنفسها. لقد انتظرتُ سنوات طويلة، لن يكون من الصعب الانتظار قليلًا بعد.”
“حسنًا… كما تشاء.”
اختفى الضوء، لكن يده امتدت بحذر إلى خدها المليء بالكدمات. بمجرد أن لمسته أنامله، اختفت كل آثار الجروح وكأنها لم تكن.
ولكن حتى لو أزال العلامات الظاهرة، فالجروح التي في قلبها لن تندمل بهذه السهولة.
شعر بالحزن وهو يراقب وجهها النائم، ثم التفت نحو ديل الذي كان لا يزال واقفًا بجانبه.
“بالمناسبة، ديل.”
“نعم، سيدي؟”
بدا رايفن للحظة شاردًا وهو يحدّق عبر النافذة.
“ما الذي يحبه الأطفال عادةً؟ عرضتُ عليها الذهاب إلى السوق لكنها لم تبدُ متحمسة.”
“آه… لا أعلم إن كان لا يزال شائعًا، ولكن قبل بضع سنوات، كانت البالونات رائجة جدًا بين الأطفال.”
“بالونات؟”
“نعم، أشياء تطفو في الهواء. كان الأطفال يلحّون على والديهم لشرائها بشدة.”
“لكن لماذا؟ بإمكانهم الطيران إن أرادوا.”
أمال رأسه باستغراب، وكأن الفكرة لم تكن منطقية بالنسبة له.
“البشر لا يستطيعون الطيران، سيدي.”
”… هل تعتقد أن إيلي ستحبها؟”
“أظن ذلك.”
“أتمنى ذلك… أريدها أن تتصرف كطفلة.”
لكن لم يكن بإمكانه إجبارها على ذلك. كان عليه أن ينتظر، أن يتركها تأخذ وقتها، حتى تستطيع إخبارهم بكل ما مرّت به. وعندما يحين ذلك الوقت، يأمل أن يتمكن من مساعدتها على الشفاء، أن يكون معها في هذه الرحلة الطويلة نحو التعافي.
“إيلي، في الماضي، كنتِ تجدين السعادة في كل شيء أفعله لكِ. حتى وأنتِ تحتضرين، كنتِ تبتسمين لمجرد أنني من فعل ذلك لأجلك. لذا… أتمنى أن تسعدي هذه المرة أيضًا.”
تمتم بهذه الكلمات الحزينة، وهو يعلم أنها لن تصل إليها.
وبينما كان يتأملها بصمت، بدأت أضواء صغيرة ترفرف حولهما، وكأنها تستمع إلى أفكاره.
وسط هدوء الليل العميق، أغمض رايفن عينيه وربّت بلطف على كتفها الصغيرة.
“بعد هذا الزمن الطويل، أخيرًا وجدتكِ… لكنكِ دفعتِ ثمن جهلي وحدكِ. يا لكِ من طفلة مسكينة.”
نظر بعيدًا إلى الفراغ، غارقًا في أفكاره العميقة.
***
في صباح اليوم التالي.
قبل أن تشرق الشمس تمامًا، فتحت إيلي عينيها الواسعتين ونهضت من سريرها.
أدارت رأسها يمينًا ويسارًا، وكأنها تحاول التأكد مما حولها. ومع مرور اللحظات، بدأت ملامحها تشرق تدريجيًا.
“لم يكن… حلمًا.”
لطالما كانت أحلامها الجميلة مجرد استراحة مؤقتة وسط واقعها القاسي.
كانت تصلي يومًا ما أن تتمكن من الهرب، أن تتنفس بحرية بعيدًا عن العنف الذي أحاط بها. وفي اللحظة التي استسلمت فيها تمامًا، امتدت إليها يد وانتشلتها من قاع الهاوية.
كان سوء المعاملة أشد قسوة من أي كابوس.
لكنها أخيرًا وصلت إلى نهايته، بعد أن ظلت تسبح طويلًا في ظلامه بلا أمل. والآن، مع رايفن، وفي هذا المكان المليء بأشخاص يحبونها، وجدت السعادة التي لم تكن تظن أنها ممكنة.
عندما رأت أن هذا الواقع لم يكن حلمًا كما اعتقدت، وجدت نفسها محاطة بأشياء لم تتخيلها يومًا. أشياء لم تجرؤ حتى على الحلم بها.
لم يكن هناك أرضية باردة قاسية.
لم يكن هناك غرفة قذرة تزحف فيها الحشرات.
لم يكن هناك مكان مظلم بلا شمس، ولا ملابس بالية لا تذكر متى ارتدتها آخر مرة.
كل شيء بقي كما كان منذ وصولها إلى هنا بالأمس.
غير مصدقة، رفعت يديها وقرصت وجنتيها بقوة.
“آه…!”
كان الألم حقيقيًا. مهما فعلت، لم يكن هذا حلمًا.
“هل يجب أن أخرج؟ رؤيته ستجعل هذا يبدو أكثر واقعية… لا، لا يجب أن أطمع كثيرًا. فهو…”
“أوه، لقد استيقظتِ؟”
قبل أن تكمل أفكارها، جاءها صوت دافئ مترافق مع صرير الباب وهو يُفتح. ارتسمت ابتسامة خافتة على وجهها عندما أدركت من تكون.
“ماري.”
“لماذا تبدو عيناكِ حزينة هكذا؟”
كانت ماري قد أحضرت كوبًا من الماء الدافئ، ظنًا منها أن إيلي قد تكون عطشى بعد استيقاظها. ما إن اقتربت منها حتى جلست بجانبها بلطف.
حينها، همست إيلي وكأنها لا تزال غير مصدقة:
“لم يكن… حلمًا.”
~ ترجمة سول.
~ انستا : soulyinl