حصلتُ على أب مُزيف - 2
“فقط… أتمنى لو يتركوني وشأني.”
كانت أمنية صغيرة، لأن الطفله كان بحاجة إلى اللامبالاة أكثر من اللطف.
في تلك الأثناء، توقف ديل والطفله أمام غرفة كبيرة.
“تفضلي بالدخول.”
كانت الغرفة تبدو فخمة بمجرد النظر إليها. توقفت الطفله التي كانت تسير بخطوات بطيئة أصلًا فجأة.
هل من الصواب الدخول إلى هذه الغرفة؟ هل سيبدأ كل شيء من جديد؟
ارتجف جسد الطفله بشدة، ولم تستطع حتى فتح عينيها. تساءلت بخوف؛ هل جاؤوا بي إلى هنا ليضربوني في مكان جديد، بعيدًا عن القصر الإمبراطوري؟
أفكار كهذه ملأت رأس الطفله، حتى انبثقت أمامها فجأة أضواء ساطعة.
الطفله، التي كانت قد أغلقت عينيها بشدة حتى تلك اللحظة، فتحتهما بسرعة بسبب الضوء المفاجئ. وعندها رأت…
لم تكن هناك زنزانة تحت الأرض، حيث لم يكن حتى صراخها يصل إلى الخارج مهما ضربوه. ولم تكن هناك حظيرة الخنازير التي كان يُجبر عليها النوم فيها، عندما وصفوها بأنها أقل من حيوان.
ما كان أمامها هو غرفة فاخرة.
عندما رأت الطفله مشهدًا مختلفًا تمامًا عن كل ما تخيله، لم تستطع فعل أي شيء سوى أن تبقى مفزوعة وفمها مفتوح وعاجزاً عن الحركة.
ما هذا بحق السماء…؟
“آه…”
“لقد أعدّها السيد من أجلك.”
كان المكان جميلًا بشكل لا يمكن وصفه بالكلمات.
الغرفة الكبيرة كانت تتألق بلون وردي ناعم يغمر أرجاءها. والثريا المعلقة منخفضة كانت تلمع ببريق ساحر كلما انعكست عليها الأضواء، مما جعل الغرفة بأكملها تتوهج بجمال مدهش.
في منتصف الغرفة كان هناك سرير ضخم، كبير لدرجة يصعب استيعاب حجمه بنظرة واحدة. الستائر الشفافة المعلقة فوق السرير، والدمى المنتشرة هنا وهناك، والأثاث المزخرف بأناقة، كلها أشياء لم ترها الطفلة في حياتها من قبل.
بدت الغرفة كأنها غرفة لابنة عائلة نبيلة.
الدمى الكثيرة المصطفة بعناية عند رأس السرير كانت دليلًا واضحًا على مدى أهمية صاحبة هذه الغرفة.
تذكرت الطفلة إحدى الخادمات، “أرييل”، التي كانت تعتني بها حتى اللحظة الأخيرة. ذات يوم، أحضرت أرييل دمية ممزقة وملطخة بالوحل. قالت لها “الأطفال في العائلات الثرية يلعبون بمثل هذه الدمى منذ صغرهم. سأصنع لكِ واحدة مماثلة، فقط انتظري.” ثم انشغلت بالخياطة لفترة.
لكنها لم تستطع سوى أن تخيط أذني أرنب صغير قبل أن تفارق الحياة.
تُوفيت أرييل دون أن تحقق أمنيتها الصغيرة بأن تمنح “الأميرة المسكينة” فرصة اللعب بدمية.
لهذا، عندما رأت الطفلة الدمى على السرير، علت وجهها ملامح الحزن. ذكرياتها الماضية جعلتها تشعر برغبة عابرة في امتلاك واحدة منها، لكن سرعان ما غمرها الخوف الذي عاد ليحيط بها.
لمن تكون هذه الغرفة؟ هل سأعمل هنا؟ إنها بالتأكيد غرفة سيدة نبيلة… هل يليق بإنسانة قذرة مثلي أن تعمل في مكان كهذا؟ أم أنهم سيضربونني في هذا المكان النظيف؟
كانت الطفلة خائفة.
خائفة من أن دخولها لهذه الغرفة سيجلب لها ألمًا جديدًا.
لكن مع ذلك، لم يكن بإمكانها الآن أن تخرج إلى مكان آخر. شعرت بأنه إذا تراجعت، فإن الوجه اللطيف للرجل الذي كان يقودها سيتحول فجأة إلى شيء مخيف.
قمعت رغبتها في الهروب، وقررت أن تتبع ديل بهدوء بينما قادها إلى الداخل.
لكن، لم تكن هناك سيدة نبيلة في الغرفة الجميلة والنظيفة.
كان هناك فقط امرأة بدت دافئة المظهر.
هل هذه هي السيدة؟
لم تستطع الطفلة أن ترفع نظرها، وأبقت رأسها منخفضًا بخجل.
في تلك اللحظة، ترك ديل يد الطفلة، وجلس على ركبتيه ليصبح في مستوى نظرها.
قال لها بهدوء “هذه هي غرفة الآنسة.”
سألت الطفلة بتردد “أين هي الآنسة؟ هل… هل عليّ أن أحييها؟”
ابتسم ديل وقال “الآنسة هنا أمامي.”
ثم قابل بنظره عيني الطفلة المرتبكتين.
“ماذا…؟”
“أنتِ الآنسة. أنتِ صاحبة هذه الغرفة.”
“أنا… أنا؟”
“نعم.”
اتسعت عينا الطفلة بدهشة عند سماع هذه الكلمات.
أن تُدعى “الآنسة”، وأن تكون هذه الغرفة غرفتها؟ كان ذلك أمرًا يفوق استيعابها. التفتت بسرعة لتنظر إلى المرأة التي كانت تقف في زاوية الغرفة.
لكن المرأة لم تقل شيئًا، فقط اكتفت بابتسامة صامتة.
“هذه غرفتكِ.”
“غرفتي؟ لماذا… لماذا؟”
ألم يجلبوني هنا ليضربوني؟ ألم يكن الهدف أن أجبر على العمل؟
لم تستطع الطفلة سوى الشعور بالمفاجأة. حتى أنها لم تتمكن من السؤال عن سبب حصولها على غرفة مثل هذه، كانت مذهولة للغاية.
الغرفة تشبه تلك التي كانت تراها في كتب الحكايات، غرف الأميرات. مكان لم تجرؤ على أن تحلم به حتى في أحلامها. ومع ذلك، سرعان ما ملأت القلق عينيها من جديد.
إنهم يعاملونني بلطف مبالغ فيه…
لقد كان الألم دائمًا ما يتبع اللطف.
كانت ملامح الطفلة قد بدأت تتغير قليلًا نحو التفاؤل، لكنها سرعان ما عادت للعبوس الداكن بمجرد أن استسلمت لمخاوفها.
في تلك اللحظة،
“من الآن فصاعدًا، ستصبحين ابنتي. هل أعجبتكِ الغرفة؟”
دخل شخص إلى الغرفة بصوت لطيف.
رفعت الطفلة رأسها على عجل لتنظر إلى وجه القادم، ثم خفضته بسرعة مجددًا، موجهة نظرها إلى قدميها.
كان هو الرجل الذي أمسك بيدها وأحضرها إلى هنا. بدا وكأنه قد غسل لتوه، حيث كانت قطرات الماء لا تزال تتساقط من شعره، وكانت تعابير وجهه تبدو هادئة ومسترخية.
لكن عندما لاحظ أن الطفلة ما زالت ترتجف خوفًا، عقد حاجبيه بإرباك.
هل هي تشعر بالبرد؟
لم يفكر طويلًا.
دون أن يفهم تمامًا سلوكها، أمسك بالبطانية المرتبة بعناية على السرير وسحبها بقوة، ثم لفها حول الطفلة.
“يبدو أنكِ تشعرين بالبرد كثيرًا.”
رغم أن تصرفه كان مليئًا باللطف، إلا أن الطفلة شعرت بالخوف.
لا تضربوني.
وهذا ما جعلها أكثر خوفًا. ماذا لو غطاني بالبطانية ليبدأ بضربي؟
اللطف كان شيئًا يفهمه من تلقى اللطف سابقًا. بالنسبة لها، كان هذا اللطف مرعبًا. كل شيء كان يبدو كأنه تمهيد للضرب.
ارتجفت الطفلة بشكل ملحوظ، وكأنها تنتظر حدوث شيء مروع. بقيت ثابتة في مكانها دون أن تتحرك، مستسلمة لما سيأتي.
لكن، بعد مرور وقت طويل، لم يُسمع أي صوت في الغرفة سوى صوت الأنفاس.
لم يطلب منها أحد التحدث أو التوضيح. كانت هناك فقط لحظة انتظار طويلة. في النهاية، لم تستطع الطفلة تحمل الصمت أكثر من ذلك وقررت التحدث.
“…عذرًا.”
“نعم؟”
رفعت الطفلة رأسها قليلًا لتنظر إلى الرجل الذي يقف أمامها. كان طويل القامة لدرجة أن وجهه بدا بعيدًا عن رؤيتها بوضوح. ضخامته ذكرتها بوالدها، مما جعلها تشعر بالخوف.
كان هو الرجل الذي أمسك بيدها. حتى الآن، إذا رفعت رأسها، كانت تستطيع الشعور بيديه الكبيرتين. يدان دافئتان ولطيفتان. وهذا ما أعطاها شجاعة صغيرة.
رغم أن جسدها كان يرتجف بشدة، ورغم أنها لم تستطع رفع عينيها تمامًا من القلق، إلا أنها جمعت القليل من الشجاعة وسألت بصوت خافت
“لماذا… أنا؟”
“تسألين لماذا أحضرتكِ إلى هنا، أليس كذلك؟”
هزت الطفلة رأسها الصغيرة مبثعر الشعر بخفة.
“لأنكِ، بالنسبة لي، شخص مهم. لهذا السبب أحضرتكِ. لذا، هل ستساعدينني؟”
قال الرجل ذلك بينما جلس في مكانه. كان يشعر أن وضعية الطفلة وهي ترفع رأسها لتنظر إليه بدت غير مريحة، وأراد أن يرى وجهها بشكل أوضح.
لا ينبغي أن تتأذى.
كانت كلماته مدروسة بعناية كي لا تبدو كنوع من الشفقة، لكنه لم يستطع إخفاء القلق الذي غمر عينيه وهو ينظر إلى الطفلة بثبات.
“شخص مهم…”
كان هذا أول مرة تسمع فيها الطفلة هذه الكلمة، مما جعل ملامحها تزداد جمودًا.
كائن غير ضروري. طفلة ملعونة. شخص لم يكن يجب أن يولد.
كانت تلك الكلمات التي اعتادت سماعها عن نفسها. أما أن يقال إنها مُهمة؟ فكان ذلك شيئًا جديدًا تمامًا.
هل هذا الكلام حقيقي؟ أم أنه مجرد وسيلة أخرى لاستغلالي؟ أو ربما لإيذائي؟
رغم الكلمات اللطيفة، كانت الريبة الشديدة تملأ عقلها. لم تستطع الوثوق بأي شخص.
بدت أفكارها وكأنها تخترق الأجواء، حيث مال الرجل رأسه قليلًا وأغلق شفتيه بتفكير عميق.
قال بعد لحظة “لذا، اغتسلي وعودي. سنأكل معًا.”
ثم وقف من مكانه، مفضلًا ألا يضغط عليها أكثر. كان يعلم أن الاقتراب المفاجئ يجعل الآخرين يهربون، ولهذا قرر التمهل.
كان لديه الوقت هذه المرة. الوقت لينتظر، الوقت ليشهد تغيرها تدريجيًا.
لكن عندما كان على وشك المغادرة، توقف وكأنه تذكر شيئًا.
“بالمناسبة، هل لديكِ اسم؟”
“… …”
“لا يوجد لديكِ اسم، أليس كذلك؟”
“… آسفة.”
ربما كان يجب أن أخترع اسمًا… سيغضب لأنني بلا اسم.
لم يكن لديها اسم على الإطلاق طوال حياتها.
أنتِ، أيتها القذرة، يا عديمة الفائدة…
تلك كانت الأسماء التي عُرفت بها. أما والدها، فقد كان يصرخ دائمًا بأنها ليست ابنته، وأنه لن يضيع وقتًا بتسمية شيء لا يعنيه.
كانت الخادمة أرييل الوحيدة التي نادتها بـ “الأميرة”. لكنها كانت تقول دائمًا إنها لا تستطيع منحها اسمًا لأن ذلك أمر يخص النبلاء ولا يحق لها فعله. حتى عندما طلبت منها الطفلة تسمية لها، كانت أرييل تعتذر قائلة إنه من المحرمات في بلدها أن تُمنح الأسماء من غير الوالدين.
الأسماء تأتي من الوالدين…
ولكن… ليس لدي والدين.
خفضت الطفلة رأسها بعمق، معتقدة أنها ارتكبت خطأ ما.
نظر إليها الرجل وهي في حالتها تلك، وتنهد بخفة قبل أن يقترب خطوة واحدة.
كان يشعر بالحزن الشديد لرؤيتها هكذا. أراد فقط أن يضمها بين ذراعيه ويطمئنها، يخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام.
لقد كانت طفلة ثمينة، وجدتها بعد طريق طويل وشاق.
لكن في حالتها الحالية، كان من الواضح أن أي محاولة للاقتراب منها ستجعلها تهلع وتهرب.
لذلك، كتم الرجل مشاعره بعناية، وحرص على أن يكون صوته خاليًا من أي عاطفة ظاهرة.
“اسمي رايفِن.”
“…ماذا؟”
“اسمي.”
“…”
“لكن… أممم… سيكون رائعًا لو ناديتني… أبي.”
“أ… أبي؟”
“نعم. سيكون ذلك جيدًا. أما اسمك، فسأمنحك إياه. لكن أولًا، اذهبي واغتسلي.”
بعد أن نطق بهذه الكلمات، استدار رايفِن فجأة مبتعدًا.
أبي؟! كانت الكلمة بحد ذاتها غريبة حتى عليه. شعر بحرارة في وجهه، وخشي أن يكون احمرار وجنتيه قد انكشف. أراد أن يبدو كأب جيد، وربما حتى مثالياً، لكن تلك اللحظة جعلته يشعر وكأنه كشف ضعفه.
أما الطفلة، فقد خفضت رأسها بشدة وهي تراقب استدارته المفاجئة.
هل فعلت شيئًا خاطئًا؟ هل غضب؟ كان يجب أن أناديه بذلك بشكل صحيح… لكن أبي؟ لماذا؟ لقد التقيته للتو اليوم…
لم تفهم الطفلة الموقف، لكنها كانت متأكدة من أنها مخطئة.
كما هو الحال دائمًا.
لقد مرّت بمواقف لا حصر لها حيث تم إلقاء اللوم عليها دون سبب. حتى وهي جالسة بلا حراك، كانت تُتَّهم بأنها مذنبة. لطالما قيل لها إنها ولدت بلا سبب، وإن وجودها جعل الجميع تعساء.
إذا بقيت صامتة، فهذا خطأ. وإذا حاولت الفرار، ستُضرب وتُوبَّخ.
كانت استدارة الرجل المفاجئة تثير فيها شعورًا مألوفًا “إنه غاضب“.
هل يجب أن أعتذر؟ ولكن، أبي؟ كيف لي أن أنادي شخصًا بالكاد أعرفه بهذا الشكل؟
ازدحمت أفكار الطفلة برأسها، وبدأت ترتجف مجددًا، كما لو أن وزن العالم يضغط عليها.
لاحظ ديل، الذي كان يراقبها عن قرب، ارتجافها، فاستدعى امرأة قريبة لتتولى أمرها.
“ماري، ساعدي الآنسة الصغيرة لتستحم. لقد تعرضت للكثير من المطر.”
“نعم، يا كبير الخدم. سأجهز كل شيء فورًا.”
كانت ماري امرأة ممتلئة الجسم، لكنها بدت دافئة ومطمئنة. اقتربت من الطفلة بخطوات هادئة، وانحنت برفق أمامها.
“عزيزتي الآنسة، هل أساعدك؟”
لكن على الرغم من لطف ماري، لم تُظهر الطفلة أي رد فعل.
يبدو أن الجميع هنا كانوا يعرفون سبب خوف الطفلة، لذا لم يضغطوا عليها. بل اكتفوا بالنظر إليها وانتظارها.
ماري أيضًا لم تتحدث أكثر، بل جلست على الأرض ونظرت بتركيز إلى وجه الطفلة التي كانت قد خفضت رأسها بشدة.
ربما بسبب عدم غسلها بشكل جيد، كانت شعرها الأسود متشابكًا، وكان وجهها مليئًا بجروح حديثة.
وكانت الطفلة التي كانت تحاول منع نفسها من البكاء، قد قبضت قبضتها بشدة وأخفضت رأسها. انتظرت ماري بهدوء حتى تتحسن الطفلة.
بعد أن نظر قليلاً إلى هذا المشهد، تنهد ديل بعمق وتوجه نحو الباب، متقدمًا خطوة أمام رايفن.
“سيدي،يجب أن تخرج معي.”
“أه، أه، نعم، سأخرج.”
عندها خرج رايفن.
الطفلة التي كانت تنظر إلى أطراف قدميه بحذر توقفت أخيرًا و تمتمت شفتيها وقالت بصوت منخفض
“غاضب… ربما يكون غاضبًا.”
~ ترجمه : سول.
~ واتباد : punnychanehe@