حديقة الأحلام ~ زواجي الزائف مع الملازم ~ - 4
الفصل 4
منذ أكثر من عشرين عامًا، بدأت تلك الحرب.
قيل إنها بدأت بمبادرة من الدولة المجاورة.
لصدّ الغزو القادم من الجانب الآخر، استثمرت البلاد أعدادًا هائلة من الجنود والأسلحة، وخاضت معارك على طول الحدود.
لم يقتصر عدد الضحايا والمصابين على الجنود فحسب، بل شمل عددًا كبيرًا من المدنيين، حيث تصاعدت الاشتباكات العنيفة بين الدولتين.
ومع ذلك، وبسبب تقارب القوة العسكرية وتشابه إمكانياتهما، بالإضافة إلى نقص الاستعدادات من كلا الجانبين، لم تتمكن أي من الدولتين من توجيه الضربة الحاسمة، واستمرت المعارك بين تقدم وتراجع.
طال أمد الحرب دون جدوى.
في نهاية المطاف، بدأت الدولتان تعانيان من الإرهاق العسكري والاقتصادي، وبدأت المفاوضات لإقرار هدنة.
في ذلك الوقت، انقسمت الآراء داخل الجيش إلى نصفين، مما أثار جدلًا كبيرًا.
هناك من رأى ضرورة استمرار القتال لتحقيق النصر، وآخرون اعتقدوا أن إنهاء الحرب في تلك المرحلة هو القرار الأفضل.
لكن في النهاية، تم التوصل إلى اتفاقية مع الدولة المجاورة، وأُعلنت نهاية الحرب رسميًا.
كان ذلك بعد عامين من بدء القتال.
“بصراحة، لا أتذكر تلك الفترة بوضوح شديد.”
في ذلك الوقت، كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري.
للأسف، لا أستطيع حتى تذكر وجوه والديّ الحقيقيين سوى بشكل ضبابي.
كأنها صورة غير واضحة عالقة في ذهني.
كنت أعيش في مدينة صغيرة تقع بعيدًا قليلاً عن الحدود.
لم تكن مصنفة كمنطقة نزاع، لكن لا أحد كان يعلم متى قد تصبح كذلك.
كل يوم، كنت أسمع أصوات القصف في مكان ما، وتنتشر رائحة البارود في الهواء.
كان السكان يعيشون في حالة خوف دائم، يتحدثون بخوف عن عدد الضحايا يوميًا، وعن الأماكن التي دُمِّرت.
كانت العديد من العائلات تغادر منازلها، متخلية عنها للانتقال إلى أماكن أكثر أمانًا.
وكانت عائلتي تخطط أيضًا للرحيل قريبًا.
لا زلت أتذكر بوضوح أمي وهي تحمل أختي الصغيرة على ظهرها، وتجمع أغراضنا استعدادًا للمغادرة.
ولكن قبل أن نتمكن من مغادرة المدينة، بدأت الأمطار تتساقط علينا… أمطار من القنابل.
“لا أعلم كيف نجوت. ربما كان والدي أو والدتي قد ضحيا بحياتهما لحمايتي.
عندما استعدت وعيي، كنت أبكي وحدي.
وفجأة، وجدت نفسي محمولة بين ذراعي شخص قوي، ينقلني إلى مكان ما.”
قال الشخص صاحب تلك الذراعين: “لا تقلقي، لن أسمح بموتك.”
ذكرياتي ليست متصلة، بل مجرد نقاط متفرقة.
لا أتذكر ما حدث بين تلك اللحظة والأخرى.
كل ما أعلمه هو أن الحرب انتهت، وأخذني والدي الجديد إلى هذا المنزل.
كانت أمي الجديدة رقيقة، وجهها يعكس طيبة حتى عندما تغضب.
احتضنتني بحرارة، ورحبت بي كطفلة كانت دائمًا تحلم بها.
قالت إنها هدية من اله لهما، حيث لم يتمكنا من إنجاب الأطفال.
“كانت أمي محبة لكل شيء.
اعتنت بي كثيرًا، وكرست حياتها لي… تمامًا كما فعلت مع هذه الحديقة التي تحبها.”
كانت دائمًا تخرج للعناية بالزهور والأشجار بحب.
بالنسبة لي، كان العالم قبلها يتكون فقط من الرمادي والأحمر:
الأرض الجافة، رائحة الدخان، السماء الباهتة، الأنقاض، لون جلود الموتى، ودمائهم.
لكن عندما رأيت هذه الحديقة، شعرت وكأنها عالم مختلف تمامًا.
كانت أمي تدير وجهها بابتسامة، وتقول لي:
“شيريل، ما نوع الكعكة التي سنخبزها اليوم؟”
كلما رأيتها، أو سمعت صوتها، كنت أشعر برجفة في قلبي.
كان إحساسًا مختلطًا بين السعادة والحنين، قويًا لدرجة أنني كنت أنسى كيف أتنفس.
هنا وجدت كل ما فقدته: النظام، السلام، الحب، الابتسامات، المستقبل، ويد الحماية.
كان هذا المكان تجسيدًا لحلم طفلة ضائعة من أرض المعارك.
***
“لهذا السبب، عندما تتضرر هذه الحديقة، أشعر وكأن حلمي سينهار أيضًا، وكأن الواقع الحالي الذي أعيشه سيبدأ بالتفكك والضياع. تصبح لديّ وساوس تجعلني عاجزة عن البقاء هادئة.”
ثم ابتسمت قليلاً بخجل، وأضافت: “قد تظن أن هذا كلام سخيف.”
ردّ الملازم بصوت متردد: “لا…”، وأشاح بنظره عني.
ظل وجهه جامدًا وهو ينظر إلى الفراغ.
“ربما، في النهاية، أنا لم أتغير منذ أن كنت تلك الطفلة الصغيرة.”
قلت ذلك وأنا أجلس أمام الملازم، وألقيت نظرة على المناظر المحيطة بنا، قبل أن أتابع بصوت خافت.
“أنا متمسكة بعالمي الصغير، أعتمد على الأذرع التي تحميني، دون أن أتمكن من فعل أي شيء.”
“والديّ غمراني بحب لا حدود له. لكنني لم أستطع تقديم شيء بالمقابل.
كنت أتلقى فقط دون أن أملك شيئًا لأمنحهما.
حصلت على السعادة وحدي، بينما والدتي الرقيقة رحلت مبكرًا، ووالدي لم يتمكن من تحقيق طموحاته.
حتى الآن، أشعر أنني عبء عليه، مما يمنعه من التصرف بحرية ويتحمل الإهانة بسببي.
في ساحة الحرب، كان الكثيرون يتألمون ويموتون، ويفقدون عائلاتهم ويعيشون الحزن، بينما كنت أنا الوحيدة التي حظيت بسعادة وحماية مبالغ فيها.”
“كأنني استحوذت على نصيب الآخرين من السعادة.
كم هو أمر ظالم.
إذا كانت هناك عدالة، فكيف يمكن السماح بحدوث هذا؟”
“هل تكرهين الجنود؟”
سألني الملازم بصوت منخفض.
استدرت نحوه بابتسامة باهتة وقلت:
“أحب والدي، ولكن إذا كان السؤال يشمل الجنود كفئة عامة، فلا، لا أحبهم.”
أجبت بصدق، ولم يظهر الملازم أي انزعاج، بل اكتفى بقول: “حسنًا.”
شعرت بالذنب فجأة، فتابعت قائلة:
“أعتذر. أعرف أنني لا يجب أن أفكر بهذه الطريقة.
الجنود يضحون بأنفسهم من أجل الوطن والشعب.”
“خلال تلك الحرب، أصيب الكثير من الجنود واستشهدوا.
لولاهم، لكانت هذه البلاد تحت احتلال الدولة المجاورة، ولكان شعبنا يعيش في بؤس.
الجيش ضروري لحماية الوطن، ولابد من تقدير تضحياتهم.”
“ولكن…”
“هناك جنود يتمتعون بالشرف والنبل، يحاربون لحماية شعبهم.
وفي الوقت ذاته، هناك من يستغلون قوتهم بتعجرف، ويفرضون سيطرتهم على الآخرين لتحقيق لذاتهم.”
“حتى بعد توقيع الاتفاقية، لا تزال التوترات قائمة مع الدولة المجاورة.
داخل الجيش، هناك من يطالب بخرق الاتفاقية والاستعداد للهجوم عليها.”
“قائد الجيش الحالي يدعو للحفاظ على الحدود وبناء علاقات ودية، لكنه يتعرض للنقد بسبب اعتباره ضعيفًا وغير مؤهل.”
“لماذا؟ لماذا يحاول بعض الجنود إشعال الفوضى في بلد استعاد للتو السلام؟
ألا يفكرون في الضحايا الذين قد يتأثرون بذلك؟”
“والدي تعرض للنقد بسبب قراره تبنيّ وتربيتي.
اتهموه بالنفاق لأنه أنقذ طفلة واحدة فقط بعد أن قتل الكثير في الحرب.”
“تحقيق الانتصارات يعني إلحاق الضرر بالآخرين.
لكنني أعتقد أنه من القسوة تحميل الجنود وحدهم مسؤولية ذلك.”
“حتى والدي كان يعاني من كوابيس متكررة بسبب الحرب.”
“الجروح التي تتركها الحرب ليست جسدية فقط، بل عميقة في النفوس.”
“أنا لا أكره الجنود، بل أكره النزاعات.
لأنها تسبب الألم دائمًا.”
“مهما كانت مشاكل الجيش حاليًا، لا أستطيع فعل شيء.
لكنني فقط أردت أن تعرف أن هناك من يشعر بهذا.”
قالت ذلك بهدوء، فرد الملازم بصوت منخفض:
“نعم.”
***
منذ ذلك الحين، أصبح الملازم يعود معي من حين لآخر إلى ذلك المكان.
رغم انشغاله الدائم، يجد الوقت ليعود إلى الشقة ويأخذني إلى المنزل.
قال لي ذات مرة: ” لا أستطيع تحمل تصرفاتك الغريبة مرة أخرى.”
لكن في مثل هذه الأوقات، لم يكن هناك من يتبعنا أو يقف عند البوابة ليراقبنا.
كان هذا أمرًا غير معتاد بالنسبة إلى شخص يعتبر ‘رهينة’.
لو علم المسؤولون عنه، لما كانوا راضين عن ذلك، وربما لم يكن الأمر سيمر دون عقاب.
ومع ذلك، لم يقل الملازم شيئًا، ورافقني لإنجاز تلك المهمات البسيطة.
إنه شخص غريب الأطوار. يبدو صارمًا أحيانًا، ولكنه يُظهر فجأة جانبًا ناعمًا ولطيفًا.
ورغم بروده الظاهر، ينظر أحيانًا بعيون هادئة مليئة بالدفء.
لا يمكنني فهمه. من يكون هذا الرجل حقًا؟ وكيف أراه أنا؟
عندما أعمل في الحديقة، غالبًا ما يجلس الملازم على الكرسي بجوار الطاولة.
في البداية، كان يكتفي بمراقبتي بصمت، لكن مع مرور الوقت، بدأ يقرأ الكتب أو ينظر إلى الغيوم.
رغم أنه يبدو بلا عمل، لم يفكر في تناول شيء ليشغل نفسه، بل ينتظرني كل مرة بصبر حتى أنتهي.
عندما بدأ ينام تحت ظل الأشجار، نظرت إليه بدهشة ووضعت يدي على خصري:
”أيها الملازم، ألا يجب عليك مراقبتي بشكل أفضل؟”
كان جالسًا على العشب مستندًا إلى جذع شجرة، رفع قبعته العسكرية بأصابعه ونظر إلي بعينين متعبتين:
”هل انتهيتِ؟”
”منذ فترة.”
”إذًا فلنأخذ استراحة. ماذا لدينا اليوم؟”
”لدينا فطيرة دجاج، وكعكة الزبدة، وكومبوت التفاح.”
”رائع، لنأكل. رغم أنك معقدة الشخصية، إلا أن مهاراتك في الطبخ مذهلة.”
رددت عليه بلهجة ساخرة: ”هل تذمني أم تمدحني؟”
ثم تمدد ورفع يديه لينشط جسده. بدا متعبًا رغم محاولته إخفاء ذلك.
كنت على وشك سؤاله عن حاله، لكنني تراجعت، عارفة أنه سيتهرب من الإجابة.
أحضرت السلة من الطاولة وجلست بجواره على العشب.
”ستتسخ ملابسكِ.”
”لا بأس. ها، تفضل.”
بدأت أضع الطعام على الأطباق وأقدمه له. قال وهو يتناول الطعام:
”هممم” بصوت خافت، وقد بدا عليه النعاس.
بدا في تلك اللحظة طفوليًا ولطيفًا بطريقة ما.
”ماذا؟”
نظر إلي بنظرة حادة.
”لا شيء، سأتناول طعامي أيضًا.”
كانت الشمس تتسلل برفق من بين أوراق الأشجار، والجو مليء برائحة الزهور الحلوة.
الصمت المريح كان يحيط بنا، تتخلله تغريدات الطيور وحفيف الزهور مع النسيم.
كانت فترة ما بعد الظهيرة هادئة ودافئة، شعرت وكأن العالم بأسره يضمنا نحن فقط.
قلت فجأة: :’هكذا، نشعر قليلًا وكأننا زوجان حقيقيان.”
فجأة، اختنق الملازم بالكومبوت وبدأ بالسعال.
التفت إلي، وقد احمرّت أذناه، وظهر خجله الواضح.
”لماذا تقولين دائمًا أشياء مفاجئة؟”
”لأنني صريحة، أقول ما أفكر فيه.”
”إذًا عليكِ تحسين ذلك. هذا ليس صفة صراحة، بل دليل على تفكير سطحي.”
”وأنت، عليك تحسين طريقتك الساخرة ولسانك الحاد وعدم ثقتك بالآخرين.”
” لا شأن لك بهذا.”
أدار وجهه إلى الجهة الأخرى، ولكن بعد لحظة قال بصوت منخفض:
”لقد فقدت والديّ عندما كنت طفلًا، لذا لا أعرف حقًا ما يعنيه الزواج.”
نظرت إلى ملامحه الجانبية، محاولًا فهم كلماته.
ثم وجه نظره إلي مرة أخرى وقال بصوت عادي:
”على أي حال، الزوجات لا ينادين أزواجهن برتبهم العسكرية.”
”آه، حقًا؟’
رفعت رأسي وأغمضت عيني للحظة.
“هذا ليس صحيحًا. والدتي كانت دائمًا تنادي والدي بـ’العقيد’.”
قلت ذلك مشيرة إلى أن هذا كان تعبيرًا عن حبها، ولكن الملازم بدا عليه الشك.
“داخل المنزل؟”
“حتى خارجه.”
“يشعرني هذا بالتباعد. بالإضافة، الرتب العسكرية تتغير، أليس كذلك؟”
“لذلك كانت تناديه بالرتبة التي كان عليها في ذلك الوقت.”
فكرت للحظة: هل سأبدأ يومًا ما بمناداة الملازم بـ”النقيب”؟ شعرت أن الأمر قد يبدو غريبًا. ثم أدركت فجأة ما أفكر فيه، وأوقفت نفسي.
كيف يمكنني التفكير في مستقبل كهذا؟ نحن مجرد “زوجين شكليين”، ولا يمكن أن يستمر ذلك طويلاً.
“آه، لكن في بعض الأحيان…”
أضفت بسرعة محاولة تغيير مجرى أفكاري:
“كانت والدتي تستخدم ألقابًا أخرى. مثل ‘عزيزي’ أو ‘حبيبي’.”
لسبب ما، انفجر الملازم في الضحك فجأة.
” ‘العقيد وورن’، حبيبي…”
حاول كبح ضحكه ولكن كتفيه كانتا تهتزان. شعرت بالإحباط.
“ما المضحك في ذلك؟ كان والدي ووالدتي زوجين محبين للغاية!”
رددت، “حتى والدي كان ينادي والدتي بـ’حبيبتي’ و’عزيزتي’.”
هز رأسه ضاحكًا:
“هذا مستحيل. لا يمكن لرجل ذو وجه يشبه الصخور البركانية المجمدة، ودب شرس كوالدك، أن يقول مثل هذه الكلمات.”
“من تسمي بالصخور البركانية والدب الشرس؟!”
لم أكن لأسمح بالإساءة لوالدي، فرفعت قبضتي لأضربه بخفة، لكنه أمسك معصمي قبل أن تصل قبضتي إلى كتفه.
يده الكبيرة كانت تمسك بمعصمي بلطف.
في تلك اللحظة، توقف قلبي للحظة.
لم يكن يمسكه بقوة، بل برفق وكأنه يحمل شيئًا هشًا. لو أردت، كنت أستطيع بسهولة سحب يدي، لكنه لم يفعل أي شيء سوى النظر إلي.
نظرته الرمادية الثابتة تلاقت مع عيني.
لم أستطع التحرك. تجمدت تحت تأثير مظهره الجاد والغريب الذي لم أكن قد رأيته من قبل.
شعرت بالارتباك والخوف، وربما بشيء آخر جعل نبضات قلبي تتسارع بطريقة محرجة.
بدا وكأنه يقول شيئًا، لكن صوته لم يصلني. حاولت أن أسمعه، ولكن دون جدوى.
بقي الملازم بلا حركة. لم يسحبني ولم يدفعني بعيدًا. رأيت في عينيه وفي ملامحه حيرة لم أرها من قبل.
بعد لحظة طويلة، أطلق الملازم معصمي بلطف.
ثم حول نظره بعيدًا عني.
تمتم بهدوء:
“هذه حديقة يبدو وكأنه يملك قوة غريبة تجعل الإنسان يضيع.”
وقف على قدميه بهدوء.
وضعت يدي الأخرى على معصمي وأطلقت زفرة طويلة وهادئة.