تَعبرُ ميا العوالمَ عبرَ النهرِ - 1
“هل هذا صَحيحٌ؟”
“هل أَمضَيْتَ حياتَكَ كلَّها وأنتَ تتعرَّضُ للخداعِ؟ لِمَ لا تذهبُ وتَرى بنفسِكَ!”
لم يكن المُخبرُ الشابُ بحاجةٍ إلى الإلحاحِ، فقد كان لدى ديتر نيَّةُ القيامِ بذلك.
بينما كان يرتدي معطفهُ، فتح الدُّرْجَ السُّفليَّ من خزانةِ الملفاتِ وسحبَ بسرعةٍ الملفَّ ذو الشريطِ الأحمر، ثم انطلقَ مُسرعًا.
تركَ الدُّرْجَ مفتوحًا بالكاد، وعلى لافتتهِ كان مكتوبًا”ملفات غير مُكتمِلة (نسخة)”.
***
في حيٍّ سكنيٍّ على تَلٍّ، كان هناك منزلٌ مُكوَّنٌ من طابقينَ يطلُّ على البحرِ.
في الأزقَّةِ الضيقةِ، كان المُتفرِّجون قد تجمعوا بالفعل في مجموعاتٍ صغيرةٍ.
فالشائعات تنتشرُ بسرعةٍ.
“عذرًا، سأمرُّ. شكرًا لكم…”
شقَّ ديتر طريقَهُ عبرَ الحشدِ ورفعَ صوتَهُ أمام بابِ المنزلِ.
“هل يوجدُ أحدٌ هنا؟ أنا من قسمِ الأمنِ.”
“قسم الأمن؟ هل هذا مثلَ الشرطة؟”
فُتِحَ البابُ وخرجت امرأةٌ من الداخلِ عابسةً.
“آه عيني! هل تقومُ بتسليطِ الأضواءِ عليَّ؟”
“ماذا؟”
“لا، فقط… إن وجهكَ يُضيء تمامًا… لقد كانوا صادقينَ
عندما قالوا إنَّ الأشخاصَ الجميلينَ يُشعُّونَ نورًا.”
تمتمت المرأةُ ببعضِ الكلامِ الغريبِ الفاحش.
كانت تبدو في عمرٍ مشابهٍ لديتر ولم تكن طويلةً ولا قصيرةً.
كانت ترفعُ شعرها بشكلٍ دائريٍّ على قمةِ رأسِها وترتدي بنطالًا مصنوعًا من قماشٍ رخيصٍ.
‘إنهُ مجردُ قماشٍ يناسبُ صنعَ الخيامِ للتخييمِ…’
بالنظرِ إلى أنَّ هذه المرأةَ الغريبةَ ظهرت فجأةً في “بيتِ الساحرةِ”،
فمن المُرجَّحِ جدًا أنها الساحرةُ الجديدةُ.
وفقًا للأساطيرِ، كانوا دائمًا يظهرونَ فجأةً بملابسَ غريبةٍ مثلَ هذه.
‘إذا كانت هذه المرأةُ ساحرةً حقًا….’
لم تظهر ساحراتُ الجليدِ، حامياتُ الجدرانِ الجليديةِ، أمام البشرِ منذ مئةِ عامٍ.
وحتى قبل بضعِ سنواتٍ، كانت هناك حالاتُ انتحالٍ، لذا لا يمكنُ التساهلُ.
بدت المرأةُ غيرَ مرتاحةٍ لنظراتِ ديتر التي كانت تُراقبُها بصمتٍ.
“أعذرني، فجأةً اجتمع الناس، والآن يقتحمُ شخصٌ يرتدي الزيَّ العسكريَّ منزلي.
أشعرُ بالارتباكِ. هل هناك مشكلةٌ؟”
كان وجهُها القلِقُ يبدو تمامًا مثلَ شخصٍ عاديٍّ.
وملامحُها واضحةٌ وفاتنةٌ لقد كانت جميلةً جدًا، لكن…
ساحرةُ الجليدِ هي كائنٌ يفوق البشرَ بشكلٍ واضحٍ.
بإمكانِها أن تقررَ مصيرَ العالمِ إن أرادت. هل يمكنُ لهذه المرأةِ أن تثبتَ نفسها بمجردِ جمالِها؟
‘من يعلم؟ في كلِّ الأحوالِ، الكاذبونَ يتمُّ كشفُهم سريعًا.’
إذا كانت تدَّعي أنها ساحرةٌ وتريدُ البقاءَ في هذا البيتِ، فعليها تحملُ المسؤوليةِ المتعلِّقةِ به.
كان على ديتر أن يقومَ بواجبِه فقط.
“إذا كنتِ قد تفاجأتِ، فأعتذرُ. المنزلُ كان مهجورًا لفترةٍ طويلةٍ، ويبدو أنَّ الجميعَ فضوليُّون لرؤيةِ ما يحدث. هل أتيتِ من جدارِ الجليدِ؟”
“أجل… يمكنُ قولُ ذلك.”
ترددت المرأةُ بإجابةٍ غامضةٍ، بينما هتفَ أحدُ المتفرجين.
“كما توقعت! إنها الساحرةُ!”
“أخيرًا عادت! لم تتخلَّ عنا!”
هرع بعضُ المتفرجينَ لإيصالِ الأخبارِ السارَّةِ، بينما اقتربَ الآخرونَ من ديتر والمرأة.
ازداد توترُها، فيما حاول ديتر تهدئةَ الحشودِ وطرحَ سؤالًا بهدوءٍ.
“بما أنَّكِ تعترفينَ بأصلِكِ، هل يمكنني سؤالكِ عن علاقتِكِ بالساحرةِ
الثانية عشرةِ التي سكنتْ هذا المكانَ، السيدةِ أونا؟”
“السيدةُ أونا؟ هل تعني التي كانت قبلي؟ عماتي كُنَّ ينادينها ‘بالحقيرةِ الثانية عشرةِ’.
أنا أتيتُ بعدها، إذًا سأكون الثالثة عشرةَ.”
أجابت المرأةُ كما لو كانت تتحدثُ عن شخصٍ آخر.
رغم غموضِ حديثِها، إلا أنَّ ديتر كان منشغلًا بالمعلومةِ الأهمِ.
“عماتُك؟ هل الساحراتُ السابقاتُ هنَّ عماتُكِ؟”
“أجل، يمكنُ القولُ ذلك.”
“هل يمكنكِ توضيحُ ذلك؟ هل تربطكِ بهنَّ علاقةُ دمٍ؟”
“لماذا عليَّ أن أجيبَ عن كلِّ أسئلتِك، وأنتَ مجردُ شخصٍ غريبٍ؟”
“لأنَّ الأمرَ مهمٌّ بالنسبةِ للمدينةِ. هل أنتِ قريبةٌ مباشرةٌ للسيدةِ أونا؟
وهل لديها ورثةٌ آخرون؟ أرجو تعاونَكِ معي.”
تسارعت وتيرةُ السؤالِ والجوابِ. ومع ذلك، ازدادت ملامحُ المرأةِ توترًا.
“استمع إليَّ، لم أرَ السيدةَ أونا هذه من قبل، ولا أعرفُ سوى اسمَها. لكن لماذا تعاملُني كمجرمةٍ؟ هل هذا تحقيقٌ؟ إن كان الأمرُ كذلك، أليس من المفترض أن تبدأَ بتعريفِ نفسِك؟”
كانت المرأةُ، التي تدعى ميا، تقفُ واضعةً يديها على صدرها بتحدٍّ،
لكن ديتر كان يعرفُ كيف يتعاملُ مع مثل هذه الشخصياتِ.
“أنتِ على حقٍّ، أعتذر. أنا المفتشُ ديتر من قسمِ الأمنِ المركزيِّ في مدينةِ بورتوايس.”
“أنا هان ميا.”
فوجئت ميا بتواضعِ المفتشِ، وانخفضت حدَّتُها للحظةٍ. لم يُضيع ديتر الفرصةَ.
“أعتذر عن نقصِ الشرحِ. جئتُ هنا لإبلاغِكِ بأمرٍ هامٍّ يتعلقُ بهذا المنزلِ.”
“ماذا؟”
“هذا المكانُ هو واحدٌ من ستةِ منازلَ في القارةِ استخدمتها ساحراتُ الجليدِ عند زياراتِهنَّ لعالمِ البشرِ. ورغم أنَّ الملكيةَ تعودُ إليهنَّ بالطبعِ، إلا أن…”
فتح ديتر الوثائقَ التي كان يحملُها ليظهرها بوضوحٍ.
“السيدةُ أونا استعملت هذا المنزلَ كضمانٍ لقرضٍ ولم تُسدِّدِ المبلغَ المطلوبَ…”
اتسعت عينا ميا من الصدمةِ بينما أومأ ديتر برأسه بجديةٍ.
“قبل مئةِ عامٍ، أخذت السيدةُ أونا، عمَّتُكِ، قرضًا بضمانِ
هذا المنزلِ ثم اختفت دون تسديدِه.”
“كم يبلغُ المبلغُ؟”
تردد ديتر للحظةٍ قبل أن يكشفَ المعلوماتَ الحساسةَ،
لكنه قرر أنَّها إذا كانت صاحبةَ الحقِّ في هذا المنزلِ، فلا داعي للتأخيرِ.
أخذت ميا الورقةَ التي كتب عليها “ملف غير مُكتمل” ومرَّت بسرعةٍ على الأرقامِ.
كانت الأصفارُ كثيرةً، وكانت تتزايدُ مع مرورِ الأشهرِ. هذا هو خطرُ *الفائدةِ المركبةِ.
صرخت ميا بصوتٍ عالٍ، بينما كانت الشمسُ تغربُ فوق التلِّ المطلِّ على البحرِ.
“هؤلاء المحتالونَ المجانين! تركوا لي جبلًا من الديونِ على شكلِ منزلٍ!”
***
عودةٌ سريعة للأحداث قبل انتقال هان ميا، العاملةِ المؤقتةِ كمستشارةٍ هاتفيةٍ،
إلى منزلٍ مكونٍ من طابقين على شاطئِ البحرِ و مثقلٍ بالديونِ.
“آه…”
ذاب كلُّ الثلجِ في القهوةِ الباردةِ فنهضتْ ميا منفضةً مقعدَها.
كان ذلك اليوم الذي استعادت فيه وديعتَها بعدَ جهودٍ مع المالكِ
الجشعِ الذي كان يسعى بكلِّ طاقتهِ لاحتجازِها.
ورغم أنه قد احتجَّ بوجودِ عطبٍ في المنزلِ وُجدَ منذ *خمسينَ مليونَ سنة،
فقد خسرَ ما يقاربُ 100 ألفِ وون بيومين.
*تعبير مجازي
“أتمنى أن يتساقطَ شعرُه بقدرِ ما سرقَه.”
قررت ميا اعتبارَ هذا الحادثِ كإبعادٍ للنحسِ والاحتفالِ بالنصرِ.
لذا، على غيرِ العادةِ، لم تذهب مباشرةً إلى المنزلِ بعدَ العملِ،
بل توجهت إلى حديقةٍ بجوارِ النهرِ على بُعدِ محطاتٍ قليلةٍ.
كان النهرُ الكبيرُ الذي يتدفقُ عبر قلبِ العاصمةِ مرتبطًا بحياةِ ميا بشكلٍ أو بآخر.
كانت تترددُ على هذا المكانِ كثيرًا عندما كانت صغيرةً، ولكن منذ أن كبرتْ لم تعدْ تزوره.
عندما عادت بعد فترةٍ طويلةٍ، كانت الحديقةُ ممتلئةً بالكاملِ بالعشاقِ.
جلست قربَ زوجين لا تعرفهما، هاربةً من المقاعدِ المبللةِ بماءِ المطرِ،
لكنها شعرت بالمللِ سريعًا دون أن تستمتعَ بتلكَ الزيارة.
‘هطلَ المطرُ قليلًا خلالَ النهارِ، والجوُّ باردٌ بعضَ الشيءِ.
ربما سأذهبُ إلى البيتِ وأشربُ مشروبًا دافئًا…’
لكن رغمَ كلِّ شيءٍ، أرادت أن تستمتعَ بأجواءِ الليلةِ.
توقفت ميا عند متجرٍ صغيرٍ، واشترت لنفسها عبوةً من النودلزِ الحارِ.
لكن لأن معدتها كانت ضعيفةً،
فكرت في تناولِ دواءٍ للهضمِ مسبقًا لتجنبِ الآثارِ الجانبيةِ في الغدِ.
كما اختارت عبوةً من الجعةِ الفاخرةِ مُخفضةِ السعرِ ونودلزِ الدجاجِ لمداواةِ نفسها في اليومِ التالي.
بعد أن أنهت الشراءَ وخرجت من المتجرِ،
تجمع حول الطاولاتِ الخارجيةِ بعضُ الشبابِ الذين كانوا يضحكون ويمزحون.
“يا، يا! هيي! إكسيكيُوز مي! من أين أنتِ؟”
*هنا كان يتكلم بالإنجليزية لأنه يحسبها أجنبية.
ما فعلوه كان بسبب شعرها الأشقرُ الفاتحُ وعيناها البنفسجيتانِ اللامعتانِ
اللتان كانتا تجذبانِ انتباهَ الناسِ دائمًا،
حيث بدت مختلفةً عن ملامحِ أهلِ هذا البلدِ.
‘ولكني وُلدت هنا، أيها الأغبياء.’
عادةً ما يصمتُ الناسُ إذا ردّت عليهم ميا بطلاقةٍ باللغةِ المحليةِ،
لكن في حالةِ هؤلاءِ الشبانِ، التعاملُ معهم كان مزعجًا.
لذا أسرعت بتجاوزهم بخطواتٍ سريعةٍ.
عندما وصلت إلى بابِ منزلِها، كانت الساعةُ قد تجاوزتْ منتصفَ الليلِ بقليلٍ.
وبينما كانت تبحث عن مفتاحِ مدخلِ الشقةِ، ناداها أحدُ ما من الخلفِ.
“عذرًا، آنستي، هل يمكنني أن أسألكِ شيئًا؟”
تجمدت ميا وشعرت بالتوترِ، ثم استدارت ببطء.
كان هذا منتصفَ الليلِ وكان الحيُّ هادئًا.
و على غيرِ المتوقعِ ، كانت هناك امرأتانِ تبتسمانِ لها بوجوهٍ مشرقةٍ.
كلتاهما كانتا ترتديان أزياءً تقليديةً مبهرجةً وكأنهما ممثلتانِ في عرضٍ مسرحي.
رغم أن الملابسَ بذاتِها لم تكن مشكلةً، إلا أن هذا المظهرَ في هذا التوقيتِ كان مرعبًا.
وكانت تبدو عليهما لمحةٌ من الجنونِ.
‘إحداهما تبدو كأنها شامان، أما الأخرى… هل هي من العائلةِ المالكةِ الكورية؟’
تساءلت ميا عما إذا كنّ من أتباعِ إحدى المجموعاتِ الدينيةِ المتطرفةِ،
أيًا كان الأمرُ، فالتورطُ معهنَّ يبدو أمرًا مزعجًا للغاية.
“عذرًا، لديَّ عمل، وداعًا.”
تمتمت ميا وحاولت الاستدارةَ والابتعادَ، لكن إحداهنَّ رفعتْ صوتَها.
“انتظري! لن يستغرقَ الأمرُ سوى لحظةٍ! هل أنتِ الطفلةُ التي وُجدتْ قربَ النهر؟
تلك الطفلةُ التي ظهرت قربَ النهرِ فجأةً كما لو أنها سقطتْ من السماءِ؟”
“آه… هل أنتِ صحفية؟ لا أُجري مقابلاتٍ. هذا الأمرُ قديم.”
إنها قصةٌ قديمةٌ وتافهةٌ. في أحد ليالي الشتاءِ الباردةِ منذ زمنٍ طويلٍ،
تم إنقاذُ طفلةٍ حديثةِ الولادةِ غيرِ معروفةِ الجنسيةِ،
كانت قد تُركت وحيدًة قربَ النهرِ المتجمدِ و قد نجت بأعجوبةٍ.
هذه الحادثةُ كانت قد نُسيت حتى من قبلِ الصحفِ المحليةِ،
ومع ذلك كان هناك من ظلَّ يبحث عن هذه الطفلةِ.
على عكسِ ميا التي شعرت بالضيقِ، بدت النساءُ وكأنهنَّ مسروراتٌ جدًا.
“أنتِ هي، أليس كذلك؟ نعم، كنتِ أنتِ! لقد كنتِ هنا طوالَ هذا الوقت!”
“لقد بحثنا عنكِ طويلًا!”
“لا يهمني، عُدنَ إلى بيوتكنَّ. حقًا، إن كنتنَّ صحفياتٍ،
فهذا لا يعطيكنَّ الحقَّ في التحدثِ معي هكذا… هي، توقفي! اتركوني!”
قبضت المرأتانِ الغريبتانِ فجأةً على معصمي ميا وجذبتاها بقوةٍ.
فقدت توازنها وسقطت على رأسِها نحوَ الأرضِ.
أغمضت عينيها بإحكامٍ متوقعةً الألمَ، ولكن لم يحدثْ شيءٌ مما توقعتْ.
بدلًا من ذلك، سمعت صوتَ المياهِ…
“ما هذا؟!”
تجمعت المياهُ عند قدمي المرأتينِ، وسرعان ما تحولتْ إلى بركةٍ، ثم إلى مجرى نهرٍ.
اندفع الماءُ بغزارةٍ فجأةً وجرف الجميعَ معه.
انجرفت ميا في تيارِ الماءِ المتزايدِ بسرعةٍ لا تُصدق.
“آه! كُح، كُح.”
عندما تمكنت أخيرًا من رفعِ رأسها فوق سطحِ الماءِ،
وجدت نفسها على ضفافِ نهرٍ غريبٍ، محاطٍ بجبالٍ مغطاةٍ بالجليدِ الأزرقِ.
“مرحبًا بعودتكِ إلى بيتكِ، صغيرتي!”
وبهذا، عبرت ميا العالمَ مرةً أخرى عبرَ النهر.