تعليمُ الأمير القاتل - 1
الفصل 1 : المُقدمة
قصرُ ولي العهد الهادئ.
تتسللت أشعةُ الشمس الدافئة مِن النافذة الكبيرة، كان الخدم يهرولون وابتساماتٌ ناعمةٌ تعلوا وجوههم المتوردة خجلاً.
كانت الحديقة الظاهرة مِن النافذة مليئةً بالزهور المُتفتحة، وتفوح رائحة الشاي العطرة مِن الكوب الموضوع أمامي.
كان مِن الصعب تصديق أنْ هَذا المكان، الذي كان يعبقُ برائحة الدم قبل بضعة أشهرٍ فقط، قد أصبح هادئًا إلى هَذا الحد.
آه، كم هَذا جميل.
كُل هَذا السلام قد تحقق بفضلِ تَضحياتي الشخصية.
في الماضي، كان الخدمُ يفقدون رؤوسهم لأقل الأسباب، حتى إنْ السجاد قد تحول إلى اللون الأحمر مِن كثرة الدماء المسفوكة…
“كانت بيئة عملٍ سيئةً للغاية.”
آه…
أخذتُ رشفةً مِن الشاي البارد الذي كان يتناسبُ تمامًا مع ذوقي، مُسترجعًا بشكلٍ باهتٍ تلكَ الأيام التي لا أودُ تَذكُرَها.
هَذا هو وقتي المثالي.
ثم انحنت الخادمة، التي كانت تُقدم لي الشاي، بخفةٍ وقالت: “هل يُناسبُكِ الشاي، يا سيدة ليليان؟”
“نعم، إنهُ عطِرٌ جدًا.”
أومأتُ بابتسامةٍ خفيفة نحوها.
كان الشاي مثاليًا لذوقي. كيف تم تحضيرهُ بهَذا الشكل؟
“لقد أعدهُ ولي العهد خصيصًا لكِ هَذهِ المرة، يا سيدة ليليان.”
“…يجبُ أنْ أشكره إذن.”
… لَمْ أكُن أعلم أنْ ولي العهد هو مَن حضرهُ بيده.
تصلبت ابتسامتي قليلاً.
طعمُ الحلاوة المُنعشة التي كانت تتلاشى بلطفٍ في فمي تحول فجأةً إلى ثقلٍ يلتصقُ بطرف لساني.
لماذا أشعرُ بالثقل هَكذا؟
وضعتُ الكوب بسرعةٍ على الطبق.
حينها همست خادمةٌ أخرى كانت تقفُ في الجهة المُقابلة: “حقًا، كيف يُمكن لجلالتهِ الذي كان كالبُركان أنْ يكون بهَذا اللطفِ مع السيدة ليليان؟”
“…… هاها.”
أجل، ليس كما تظُنين.
أنتنَ لا تفهمنَ الأمر…
ابتسمتُ بتوترٍ، رغم أنني في الحقيقة لَمْ أكًن أريد أنْ أضحك.
أنا لا أضحك لأنني سعيدة، بل لأنني مُضطرة…
ومع ذَلك، فجأةً علت أصواتُ الخادمات المُتحمسات.
هل زاوية فمي ترتجف؟
صحيح أنْ رؤوس الآخرين لَمْ تعُد تتطاير، لكنني لَمْ أخطط لجعلهن بهَذهِ السعادة.
“…ممم.”
يجبُ أنْ أنهي درس اليوم وأغادر سريعًا.
ولكن، لماذا تأخر ولي العهد هَكذا اليوم؟
كان يبدو أنهُ مُتأخرٌ بعض الشيء عن موعدهِ المُعتاد.
“متى سيصلُ جلالتُه؟ مِن المُفترض أنْ يكون في التدريب الآن…”
قلتُ ذَلك بينما كنتُ أنظرُ إلى الخادمة، مُتذكرةً جدول ولي العهد.
لكن الخادمة كانت مُحمرة الوجه وتحركُ شفتيها بصمتٍ.
قبل لحظاتٍ فقط كانت تضحكُ، فَما الذي حدثَ فجأةً؟
… هل يًعقل؟
“……”
ببطءٍ، التفتُ نحو الاتجاه الذي كانت الخادمة تنظرُ إليّه، خلفي.
وهُناك رأيتُ رجُلاً مُتكئًا على إطار الباب.
“أنتِ مهتمةٌ بيّ كثيرًا يا مُعلمتي…”
“…لقد أتيتَ إذن.”
ملابسٌ غيرُ رسميةٍ تعكسُ شخصيتهُ المُسترخية.
أزرارُ القميص غيرُ مُحكمةٍ بما يكفي لتتوافقَ مع آداب البلاط الملكي، وأكمامٌ ملفوفةٌ تجذب الأنظار.
تحت تلكَ الملابس تظهرُ بوضوحٍ ندوبٌ عميقةٌ وعضلات بارزة تتحركُ بشكلٍ مُهيب.
لا مِن هَذهِ الجهة، ولا مِن تلكَ الجهة، يبدو كولي عهد نبيل وجليل.
ومع ذَلك، مَن سيُصدق أنْ هَذا التحَسُن الكبير في مظهرهِ كان بفضل تَعليمي؟
لكن هَذا هو الواقع، حتى أنْ الإمبراطور أشَدّ بيّ.
في البداية، كان مثل حيوانٍ بريّ مُتوحش…
جميعُ سكان الإمبراطورية يعرفون أنْ ولي العهد، الذي نُفي إلى ساحة المعركة بسبب جنونهِ، عاد مُحاربًا لا يرحم بعد انتصاره.
لكن الآن…
هدأتُ نفسي وأجبتُ ولي العهد، الذي هو في نفس الوقت تلميذي، إنريكي.
“لقد تأخرت.”
“نعم، تأخرت.”
بدا أنهُ قد انتهى للتو مِن تدريبه، إذ كانت قطرات الماء تتساقطُ مِن شعرهِ الأسود المُبلل وهو يميلُ برأسهِ قليلاً.
رُبما هَذا ما جعل الخادمة تُحمر.
كانت عينيهِ الحمراء، التي كانت تمتلئُ بالوحشية فيما مضى، تبدو الآن هادئةً إلى درجةٍ تجعلُكَ تشعرُ بالحنان، وهو أمرٌ غيرُ معقول.
لكنني لَن أنخدع.
“في مثل هَذهِ الحالات، عليكَ أنْ تعتذر عن تأخركَ وتطلُب العفو. أنتَ تفهمُ ذَلك، صحيح؟”
“هل أبدو وكأنْي أفهم؟ على أيِّ حال، هل انتظرتِ طويلاً؟”
“… لا.”
فقدتُ الكلمات أمام حديثه الممزوج بين الرسمية وغَير الرسمية.
كنتُ أعتقدُ أنني قد علمتُ تلاميذًا مُزعجين مِن قبل، ولكن يبدو أنْ ولي العهد هو الأكثرُ أزعاجًا على الإطلاق.
“هاها، تعابيرُ وجهكِ مُضحكةٌ للغاية.”
كان يبتسمُ بلطفٍ، لكنهُ سرعان ما توقف عن الابتسام وقال بصوتٍ خافت:
“يبدو أنْ خَدمي يهتمون بخدمتكِ أكثر مني. كان يجبً أنْ أتأخر أكثر إذن.”
“جلالتُك، أعتذرُ بشدة!”
الخادمات اللواتي كُن يقفن مصدوماتٍ بوجوهٍ مُتوردة استعدن وعيّهن أخيرًا وانحنيّن بعمق.
كان انحناؤهن عميقًا وسريعًا لدرجة أنْ أجسادهنَ كانت سـ تنقسم إلى نصفين تقريبًا.
وفي لحظة، تجمّد الجو في الغرفة وأصبح باردًا.
“همم.”
لكنني كنتُ في وسطهم، وأفكر فقط أنْ هَذا الموقف قد حدثَ قبل بضعة أشهرٍ، لكانت رؤوسهنَ قد قطعت واحدةً تلو الأخرى دوّن أيِّ مُقدمات.
ومع ذَلك، يبدو أنني نجحتُ إلى حدٍ ما في تعليمهِ بعض الآداب. هَذا تقدُم.
“يكفي، اخرجنَ جميعًا.”
عند سماع صوتهِ الرتيب والمُمل الذي بدا وكأنهُ قد فقد اهتمامه، انسحب الخدم مِن الغرفة، وهم ينحنون بعمق ويسيرون إلى الوراء.
وفجأةً، أصبحت الغرفة خاليةً إلا مِن ولي العهد وأنا.
يا للعجب، اليوم لَمْ يقتُل أحدًا. يبدو أنهُ قد أصبح إنسانًا حقيقيًا.
نظرتُ إلى ولي العهد بفخرٍ، هو يُمثل نجاحًا حيًا لعملي.
ثم التقت عيناي ببطءٍ مع عينيهِ الحمراء التي كانت تنظرُ نحوي.
“أه.”
الآن يجبُ أنْ نبدأ الدرس.
قمتُ على الفور بنشر مواد الدرس على الطاولة وأشرتُ لهُ للجلوس.
“جلالتُكَ، لقد تأخرتَ ولدينا وقتٌ ضيق. اجلس بسرعة.”
“حقًا؟”
أومأ برأسهِ وجلس بلا تردد.
“……”
لكنهُ لَمْ يجلس في المقعد المُقابل الذي أعددتُ فيه الأدوات الكتابية، بل جلس بجانبي مُباشرةً.
آه، مُجددًا؟
ضاقت عيناي ونظرتُ إليّه.
ثم أضاق هو أيضًا عينيهِ الحمراء بابتسامة، ووضع ذراعهُ على مسند الأريكة وانحنى نحوي ببطء.
“مُعلمتي.”
رغم نظراتهِ الواضحة، لَمْ أحِد بنظري وأجبتُه.
“نعم جلالتُكَ.”
“قلتُ لكِ أنْ تُناديني باسمي.”
“… إنريكي.”
“هل نُاديتني الآن، سيدة ليليان؟”
“حتى لو نظرتَ إليّ هَكذا… علينا أنْ نُكمل الدرس اليوم.”
ضاق نظرهُ كما لو كان مُستغربًا.
“هل تظُنين أنني أنظرُ إليكِ لهَذا السبب؟”
تغيّرت نظراتُه بشكلٍ مُخيف.
وما سببُ ذَلك إذن، أيُها الأحمق؟ وأيضًا…
“أأنتَ تتكلمُ بطريقةٍ غيرِ رسمية، أليس كذَلك؟”
“رُبما…”
رفع حاجبيهِ ببطء وانحنى أكثر، ووجههُ البارد اقترب مني.
رائحةُ العطرة الخفيفة كانت تفوحُ منهً بعد أنْ استحم، لقد كانت مُختلفةً تمامًا عن رائحة الدم الثقيلة التي شَممتُها في لقاءنا الأول.
“أعتذر.”
“… يكفي أنكَ تفهم.”
ولكن… أليس قريبًا أكثرَ مِما ينبغي؟
عندها، قال بوجهٍ بارد وابتسامةٍ طفيفة، وبصوتٍ ناعم:
“كما تعلمين، سبق أنْ قُلتِ إن المُعلم والتلميذ يتعلمان مِن بعضهما البعض، أليس كذَلك؟”
كنتُ قد قلتُ ذَلك بالفعل. أومأتُ برأسي بشكٍ.
“… نعم، لقد قلتُ ذَلك.”
“أريدُ أنْ أُعلمكِ شيئًا أيضًا.”
… آه.
تظاهرتُ بالتفكير مليًا، ثم سألتُه بصوتٍ قلق:
“هل تُخطط لجعلي أركضُ عشرين دورةً في ساحة التدريب مرةً أخرى؟”
“لا، ليس هَذا.”
“إذن ماذا؟ هل أزرعُ شايًا جديدًا؟ لا يُمكن. لقد زرعتُ بذور الشاي جديدةً الأسبوع الماضي. قوتي البدنية جيدة، لكن ليس كثيرًا-“
“ليليان.”
قاطع كلامي بصوتٍ مُنزعج.
“هل مُعلمتي ليس لديها إدْرَاكٌ للوضع…”
“أوه.”
وفي نفس اللحظة، شيءٌ قويّ لفّ حول خصري، وفي غمضة عين، وجدتُ نفسي مندفعةً بين ذراعيهِ كما لو كنتُ ورقةً خفيفة.
َ
لحُسن الحظ، بفضل وضع يديّ على صدرهِ، تمكنتُ مِن تجنب الاصطدام بوجههِ.
“……”
ولكن المسافة بيننا كانت ضيقةً للغاية.
لمْ يعُد هُناك أيُّ شعورٍ بالمسافة بين مُعلمٍ وتلميذه.
“هاه…”
لَمْ أتمكن مِن تحريك يديّ، والتقطتُ أنفاسي بدهشةٍ.
ثم همس لي بصوتٍ خافتٍ، مملوء بالدفء وهو ينظرُ إليّ بعينيهِ الحمراء:
“إذن، سأعلمُكِ بنفسي.”
وبينما سمعت صوتهُ المليء بالمرح، أغمضتُ عينيّ بقوة.
آه، لقد تجاهلتُ الأمر تمامًا… اللعنة.
“ما رأيكِ، هل ستتحملين ذَلك؟”
غمرني صوتهُ الناعم والمُزعج.
رجاءًا، تمالكِ نفسكِ.
هو تلميذي، وأنا مُعلمتُه!
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة