ترافيستي - أصبحتُ أميرًا مزيفًا - 1
الـفصـل 01
تَق، تَق.
خطوات ثقيلة تتسلل ببطء، تشق طريقها عبر الممرات المظلمة.
لم تحرك ليتيسيا ساكنًا. بقيت ملتفة على نفسها، غير عابئة بالأصوات التي تقترب منها. فقد تعلّمت أن الصمت أكثر أمانًا.
لا أحد يريد أن يتحدث معها، فلا جدوى من رفع رأسها.
حتى لو كانَ القادم هو السجّان الذي سيقتادها نحو قدرها المحتوم، نحو حبل المشنقة الذي ينتظرها بصبر.
منذُ تلك الليلة المشؤومة، عندما عُثر عليها وسط ألسنة اللهب التي أكلت كل شيء إلا جسدها الصغير، أصبحت ليتيسيا ‘محكومة بالموت’، دون أن تنال حتى فرصة الدفاع عن نفسها.
الانتقال من ممثلة صغيرة، تعد بمستقبل باهر، إلى قاتلة خطيرة حدث بسرعةٍ البرق. الآن، لا يطاردها سوى ظل الجريمة التي لم تكن لها يد فيها.
الجريمة التي وصمتها بإسم ‘الجانية وراء حريق مسرح بوربا.’
أصبحت ليتيسيا بوربا، في العاشرة فقط، تحمل لقب ‘أسوأ مشعلة حرائق’ في تاريخ إمبراطورية هيرتا، وأصغر من يُحكم عليها بالإعدام.
توقف الخطى أمام القضبان الحديدية التي سُجنت خلفها ليتيسيا.
“ارفعي رأسكِ.”
عندما رفعت ليتيسيا رأسها استجابةً لذلك الصوت البارد الذي أخترق الصمت، رأت رجلًا شامخًا يحدّق بها من أعلى، كما لو كانَ ينظر إلى كائن لا قيمة لهُ.
كانَ حضورهُ متألقًا بشكلٍ مهيب، غير متناسب مع قذارة المكانٍ من حولهُ. بدأ وكأنهُ كيان خارج عن الواقع، لا يُمكن لعالم هذا السجن المظلم أن يحتويهِ.
تلاقت عيناهما، واستشعرت ليتيسيا في تلك النظرة احتقارًا عميقًا. تنهد الرجل بازدراء واضح.
“هل تظنين حقًا أن هذا الشيء القذر يُمكن أن يحل محل الأمير؟”
أجابت امرأة مسنّة كانت تقف خلفهُ.
“الطفلة الوحيدة التي تشترك مع الأمير في نفس لون العينين هي هذهِ المحكوم عليها بالإعدام، يا جلالتك. لا يُمكننا إرسال الأمير الحقيقي كرهينة، أليسَ كذلك؟”
“هذا أمر بديهي. أنا أرسل أبني إلى تلك الأرض المليئة بالبرابرة؟ سيموت هناك لا محالة، لا يُمكن لعاقل أن يفكر بذلك…….”
ركل القضبان الحديدية بعنف، وصوت ارتطامها تردد في أرجاء المكانٍ الكئيب.
“آه.”
شهقت ليتيسيا لا إراديًا في مفاجأة، ورفعت رأسها في حالةٌ من الذعر.
التقت أعينها بتلك العينين الأرجوانيتين التي تشبهُ عينيها.
ثم نطق الإمبراطور بأمرهُ الذي سيغير كل شيء.
“قاتلة بوربا، عليكِ أن تصبحي أبني.”
كانت كلماتهُ مشبعة بالغرور، وكأنَّ الجميع سيطيع أوامرهُ بلا تردد.
لكن ليتيسيا، وقد استبد بها الذهول، لم تجد في نفسها سوى سؤال وأحد يخرج منها ببطء.
“……لماذا أنا؟”
“لأنكِ ستموتين غدًا إذا لم تفعلي.”
كانَ تهديدهُ واضحًا وصارمًا، كحكم نهائي لا رجعة فيهِ، لكنهُ لم يحرّك شيئًا في داخلها. لم ترفّ عينها، ولم تشعر بالخوف.
حتى لو كانَ هذا الرجل هو الإمبراطور، لم يكن الموت يخيفها. بل على العكس، كانَ ما تتمناهُ.
“لا يهمني.”
“……!”
“أبي، عمتي، إخوتي وأخواتي……جميعهم ماتوا. لماذا يجب أن أعيش؟”
بالنسبةً لـ ليتيسيا، التي وُلدت يتيمة، كانت فرقة بوربا المسرحية هي عائلتها. الآن بعد أن رحلوا، لم تكن ترى جدوى من البقاء في هذا العالم.
حتى مع معرفتها بأنها متهمة ظلمًا، لم تقاوم حكمها. لم تهتم بما سيحدث بعد. كل ما أرادتهُ هو الموت، وأن تنضم إلى عائلتها التي فقدتها.
رغم صغر عمرها، كانت النظرة في عيني ليتيسيا تحمل ثقلًا أكبر من عمرها، تعكس رغبة حقيقية في الهروب من هذا العالم، مما جعل الإمبراطور يتوقف، مذهولًا للحظة.
لم يكن معتادًا على رؤية شخص بهذا العمر يتمنى الموت بتلك الجدية. لكن سرعان ما استعاد سيطرتهُ على نفسهُ، وأدار رأسهُ بعيدًا، رافضًا الاعتراف بتلك اللحظة القصيرة من الارتباك، وكأنها أمر مخزٍ لا يستحق التفكير.
ثم، بصوت منخفض بالكاد يُمكن سماعهُ، تمتم موجهًا كلامهُ نحو الفتاة القذرة التي تقبع في زنزانتها.
“لم يمُت جميع أفراد فرقة بوربا.”
“……!”
رفعت ليتيسيا رأسها بسرعةٍ.
“حتى لو كانوا قد أصيبوا إصابات بالغة، هناك بعضهم ما زال حيًا.”
“مـ-من هم…….”
رأى الإمبراطور بريق الأمل يتلألأ في عينيها، وأبتسم بسخرية متعمدة.
“إذا لم يتلقوا العلاج المناسب، فسيموتون جميعًا قريبًا.”
كانت ليتيسيا صغيرة، لكنها لم تكن غبية.
فهمت بسرعةٍ أن الناجين من الحريق المروع لا يُمكن أن يكونوا في حالةٌ جيدة. كما أدركت أن الإمبراطور لا يقدم لها الأمل دون مقابل، بل كانَ يهددها ويضع شروطهُ في ذات الوقتٍ.
“ما الذي عليّ فعلهُ؟”
“أنتِ لستِ غبية تمامًا. توقعتُ أن تبدأي بالبكاء وتتوسلي لرؤية الناجين.”
“لن تسمح ليّ برؤيتهم على أي حال.”
ليتيسيا، التي كانت جالسة بلا مبالاة منذُ لحظات، استجمعت قواها فجأةً، وجلست مستقيمة، كأنها استعادة لقوتها الداخلية. في تلك اللحظة، عاد بريق الحياة إلى عينيها. نظرت بثبات إلى الإمبراطور وقالت بصوت واضح وقوي.
“إذا أطعتُ أوامرك، ستخبرني بمن ما زال على قيد الحياة. إذا كنتُ أكثر طاعة، ربما ستسمح ليّ بإرسال رسالة. إذا أردت أن تتحكم في تصرفاتي بالكامل، فحينها ستسمح ليّ برؤيتهم.”
كانت ملامحها جميلة، بشعرها الأشقر الذي يتمايل فوق كتفيها، وخدودها الطرية التي لا تزال تحمل مظهر البراءة.
كانت ليتيسيا تعرف جيدًا كيفَ يراها الآخرون.
مجرد طفلة بريئة.
في معظم أدوارها على خشبة المسرح، لعبت دور البراءة الطفولية.
كانت الملاك الصغير الذي يواسي البطل، أو الطفل البريء الذي لا يعرف شيئًا عن قسوة العالم، وما إلى ذلك.
لكن ليتيسيا، التي وُلدت يتيمة وترعرعت في قسوة الحياة، لم تكن يومًا ساذجة أو جاهلة بما يدور حولها.
كانت ليتيسيا تظهر ضعفها وبراءتها فقط أمام أفراد فرقة بوربا، الذين أحبوها كعائلة، حتى دون أن تربطهم صلة دم.
من أجل تلك العائلة، كانت ليتيسيا مستعدة لفعل أي شيء.
“ما الذي تريدهُ مني؟ ماذا يجب أن أفعل من أجل الناجين من فرقة بوربا؟”
سألت بصوت بارد، لا يناسب صوت طفلة بريئة.
الإمبراطور، الذي كانَ يتوقع طفلة مرعوبة تبكي وتتوسل، تفاجأ بما رآهُ أمامهُ. أدرك أن أمامهُ شيئًا ذا قيمة أكبر مما تخيل. لم يكن بحاجة للتهديد بعد الآن. فابتسم، وبدأ يكشف عن مطلبهُ دون تردد.
“الأرض التي يسكنها البرابرة طلبت أحد أبنائي كرهينة.”
كانت هناك أرض واحدة فقط في الإمبراطورية تُحتقر وتُعرف بأنها ‘أرض البرابرة’.
دوقية فاسيلينتي الكبرى.
رغم أنها تُعتبر شكليًا جزءًا من الإمبراطورية، إلا أن دوقية فاسيلينتي الكبرى كانت، في الحقيقة، إقليم مستقل تمامًا. سيطرتها كانت ذاتية لدرجة أن شخصيات الشريرة في المسرحيات الإمبراطورية غالبًا ما كانوا يُصوّرون على أنهم ينحدرون من تلك الأرض سيئة السمعة.
تقول الشائعات أن دوق فاسيلينتي يمتلك ثلاث عيون وأربع أذرع، وكأنهُ تجسيد للرعب الأسطوري.
“البيدق…….”
(البيدق، يُستخدم غالبًا في سياق الشطرنج أو بشكلٍ مجازي لوصف شخص يتم التضحية بهِ أو أستخدامهُ كأداة في لعبة أكبر. البيدق في الشطرنج هو القطعة الأضعف، ويتم تحريكها لتحقيق إستراتيجيات أكبر. مجازيًا، قد يشير إلى شخص لا قيمة لهُ بالنسبةً لمن يحركهُ، ويُستخدم لتحقيق أهداف أعلى.)
“عليكِ أن تكوني الرهينة بدلًا من أبني الأصغر.”
كانت تلك هي الخطة التي رسمها في خيالهُ. استبدال الأمير الحقيقي بطفلة محكوم عليها بالإعدام، لتقوم بدور الأمير في تمثيلية خطيرة تخفي الحقيقة القاسية عن الدوق المجنون.
تمتمت ليتيسيا دون وعي.
“إذا أكتشفوا ذلك…….”
“لن يتم أكتشاف ذلك. لن تعيشي طويلًا حتى يتمكنوا من أكتشاف ذلك.”
كانَ الإمبراطور واثقًا من أن الرهينة، سواء كانت ليتيسيا أو الأمير، لن تعيش طويلًا في أرض البرابرة.
سألت ليتيسيا.
“هل أنا رهينة؟”
(الرهينة، يشير إلى شخص يتم احتجازهُ من قبل طرف معين لضمان تنفيذ شروط أو مطالب معينة من طرف آخر. الرهينة عادةً ما تكون ذات قيمة للطرف المحتجز، ويُستخدم كورقة ضغط. في هذا السياق، الرهينة ليست مجرد أداة تضحية، بل ورقة تفاوض هامة.)
“نعم. لقد أبرمتُ اتفاقًا سريًا مع ذلك الدوق المجنون. لا يهمني ما سيحدث لحياة الأمير الذي سيتم إرسالهُ. الدوق الذي فرض عليّ هذا الاتفاق لن يبقي الرهينة على قيد الحياة.”
كانَ واضحًا أن دوق فاسيلينتي يملك من القوة والنفوذ ما يكفي لإجبار حتى الإمبراطور على هذا النوع من الاتفاقات المهينة. حتى ليتيسيا، رغم صغر عمرها، كانت تعرف ألقاب الدوق المخيفة.
الشيطان الأبيض. المرتزق الأرستقراطي. الذئب المجنون…….
“لذلك، عليكِ أن تكوني أبني الأصغر.”
كانَ في عيني الإمبراطور الأرجوانيتين غضب عارم وإهانة واضحة. تكليفهُ سجينة محكوم عليها بالإعدام للعب دور أبنهُ الأصغر بدأ وكأنهُ أمر مهين لكرامتهُ، لكن الحاجة إلى التخلص من هذا العبء جعلتهُ يغض النظر عن كبريائهِ.
“إذا كنتِ لا تريدين العيش على أي حال، فما الفرق إن متِ في تلك الأرض القاحلة أم على المشنقة؟”
لم يكن لدى ليتيسيا بوربا من خيار بعد أن أصبحت حياة أفراد فرقة بوربا رهينة لقرارها.
“إن كانت حياتكِ ستنتهي في كل الأحوال، فلتنتهي كأمير.”
منذُ ذلك اليوم، أصبحت ليتيسيا بوربا الأمير الزائف، مُختارةً للموت بدلًا من الأمير الحقيقي.
كانت مهمتها أن تتقمص شخصية أبن الإمبراطور الأصغر، سيون هيرتا، الذي لم يتجاوز الثماني سنوات.
كانَ أول أمر أصدرتهُ لها العائلة الإمبراطورية هو ‘التجويع’، لتبدو أصغر عمرًا من الأمير الحقيقي ولتظهر في حالةٌ من الضعف والهزال.
رغم الجوع الذي يعجز عن تحملهُ حتى طفل في مثل عمرها، قاومت ليتيسيا بثبات.
عندما انهارت بعد ثلاثة أيام من الجوع المستمر، حصلت على مكافأتها. أسماء الناجين من فرقة بوربا.
“أختي إيري، وأخي لوكا…….”
كررت ليتيسيا الأسماء بابتسامة ضعيفة.
ربما، إذا أستمرت في طاعة الأوامر، قد تُمنح فرصة لرؤيتهم قبل أن تموت كرهينة.
“أريد أن أراهم قبل أن أموت.”
يُتبع….