الوقوع في حب الأميرة المزيفة - 8
نزهة تحت الشجرة
تحركت العربة الإمبراطورية الفارهة التي تجرها ستة من الخيول عبر طرقات العاصمة بسلاسة ، كان الهتاف العالي والتحيات السعيدة جزء متكرر خلال هذه الرحلة من قبل المواطنين والعامة الذين يهتفون فرحاً لرؤية الأمير عابراً الدرب ، مرت فترة منذ سماع هتافاً آخر كون العربة قد ابتعدت بما يكفي عن اهم بقاع العاصمة واستمرت بالتوجه ناحية فيلا بروين المعزولة على أطراف المدينة ، رغم تذمر ثيودور المتقطع إلا انه استسلم اخيراً وباشر بالصمت فتذمره لن يشكل فرقاً الآن وهو على مشارف الوصول ، اكتفى بإسناد كوعه على طرف النافذة ورمي خذه بين كفه التي شكلت وسادة جيدة ، كون توقفه عن التذمر امر صحيح لكن عينيه الضجرتين صاحتا بالكثير ، كان الهدوء الذي حل في العربة شيئاً جيداً لليونارد الذي حاول الاستمتاع بذلك رغم معرفته بان هذا الهدوء قد يكون ما قبل عاصفة ثيودور ورعوده ، توقفت العربة الفاخرة بعدما مرت من خلال بوابة جميلة متواضعة ووقفت في ساحة الفيلا الجيدة نسبياً، ( سمو الأمير ، لقد وصلنا إلى ملكية روين ) ليونارد الذي تحدث بعد لحظات صمت وسكون تلت وصولهما أراد تنبيه ولي العهد على حقيقة بديهية كان يدركها جيداً، لا مفر ولا مجال للمماطلة اكثر ، تنهد وثيودور وهو يرمي ذراعه ورأسه جانباً قبل ان يقيم رقبته بثبات ،( اه لا مفر ، لننه الأمر بسرعة ) قالها بضجر وهو يهم بالنزول ومنافقة المضيفين كما وعد الإمبراطور .
كانت أوفيليا. صاحبة الفستان الزهري اللطيفة على طليعة المستقبلين ، يخلفها عدد قليل للغاية من الخادمات وكبير الخدم ، عدد بسيط يكفي لإدارة هذه الفيلا المتواضعة ، انحنت أوفيليا برشاقة ومثالية مقدمة لرجل أمام الآخرة وبأطراف فستان مشدودة ، ( انه لشرف عظيم ان استقبل سمو ولي العهد في منزلي المتواضع ، اهلاً بك سمو الأمير ثيودور ) مع ابتسامتها اللطيفة وعيونها المليئة بالإشراق كسماء صيف صافية استطاعت رسم لوحة بانطباع جيدة عن منزلها ، ( نعم ، أهلاً ) نطق ثيودور بلا مبالة وهو يلقي بعينيه في كل اتجاه عداها ، لقد عقد العزم على ان لا يكرر فعلته المشينة مجدداً وان يكون اكثر تهذيباً ونبالة ، لكن لم يستطع منع نفسه خصوصاً بعدما استقبلته بهذه التحية المثالية كما عادتها ، إيجادها للآداب يزعجه فحسب ، ان تجعله يشعر بالغيرة ، اتتحداه في ذلك؟ انها ليست مسابقة فقط دعها تكف عن محاولة إثبات كونها الأفضل والأمثل ، استقبلت أوفيليا رده بابتسامة ، حولت نظرها لصاحب الشعر الدموي ليونارد الذي بادلها النظر بابتسامة مهذبة ، ( سيد ليونارد ، انه لمن الجيدة رؤيتك مرة أخرى ) ، ( شكراً انستي الصغيرة ، واشكركِ مجدداً على إكليل الزهور ،انه شيء سأعتز به دائماً) ليونارد الذي انحنى بامتنان وبسمة واجه نظرة غضب سريعة من ثيودور ، منذ متى وأنتما مقربان للغاية؟ كان هذا ما تعنيه النظرة لا بشك ،، قاطعت أوفيليا تحديقهما المشحون وهي تعتذر بنبرة حزينة رقيقة ( اعتذر سمو الأمير ، لكن امراً طارئاً قد طرأ لوالدتي لذا لن تتمكن من حضور وقت الشاي هذا ، اتمنى ان لا يزعج هذا سموك ) رغم كون هذه الأخبار جيدة نسبياً إلا انها غير ضرورية فعلاً، لم يعد يهتم بمواجهتها ام لا بعد الآن، قرر منذ زمن السير على نصيحة صاحبه ومعاملة سيسيليا كونها دمية لمنصب الإمبراطورة فحسب ، لذلك لن يرهق نفسه باية احاديث وأفعال لا ضرورة لها ، تلك الصراعات ، لديه ماهو اهم الآن ،، ثيودور الذي قام بإدارة عينيه وأخذ نفساً عميقاً حاول نطق كلماته بشيء طفيف من الأخلاق، ليست مسابقة لكنه بالتأكيد لن يدعها تربح بسهولة ، ( نعم انسة ، هل يمكننا البدء ؟ كما تعلمين أنا مشغول للغاية ) ، أطلقت أوفيليا ضحكة صغيرة مكتومة وهي تغطي شفتيها بخفة ، ” محاولته لطيفة للغاية ، انه بالفعل شخص لطيف ” فكرت بها بينما تسارع بالحديث وتبرير ضحكتها قبل ان ينشئ سوء فهم جديد ،( بالتأكيد سموك لا نية لي بإهدار وقت ولي العهد الثمين ، أنا ممتنة للغاية للوقت الذي خصصته لي ، أعددت نزهة في الهواء الطلق للتمتع بجو الخريف اللطيف ، اتمنى ان يعجب الأمر سموك ) .
…….
انطلق الثلاثة يسيرون بين نباتات العشب الخضراء تتحدث أوفيليا عن منزلها بعشوائية بينما يبدي ثيودور اقل درجات الاهتمام ويحمل ليونارد على بعد خطوتين منهم سلة النزهة المليئة بوجبات خفيفة لذيذة بدلاً من خادمة أوفيليا ، ( رغم كون الفيلا متواضعة مقارنتاً بقصر سموك إلا ان الجلوس في هذا الفناء الوسيع يعد أمراً لطيفاً ، رغم كون الايام تزداد برودة إلا أنني احاول الاستمتاع بالأمر قدر الإمكان فهذه الحديقة الخضراء ستتحول إلى اللون الأبيض قريباً ) كانت تتحدث أوفيليا بسعادة وحماسة ، لكن ثيودور لم يهتم حقاً، ما دخله بمنزلها وحديقتها التي ستكتسحها الثلوج قريباً، لا يهمه معرفة عدد الساعات التي تقضيها فالتنزه ولا عن أنواع الزهور التي يعتني بها البستاني ، ومع ذلك اجبر نفسه على اختيار الصمت بدلاً من التذمر ،” لن ادعها تربح ، ساريها من الذي يتمتع بافضل الآداب !” .
تحت شجرة التفاح الكبيرة استطاع الثلاثة رؤية طاولة صغيرة مجهزة بفناجين شاي وبعض الملحقات ، رغم كون ثيودور قد أبدا عدم اهتمامه منذ برهة إلا ان منظر الطاولة المسالم وتساقط أوراق الخريف من الشجرة فوقها رسمت صورة دافئة في عقله ، ( لقد وصلنا ، آمل ان تجد المكان مريحاً) بابتسامة صادقة توجهت أوفيليا لولي العهد المبهور من بساطة وجمال المنظر ، رغم كون الدفيئة الزجاجية خاصة الإمبراطورة الأرملة هي الأجمل على الإطلاق في القارة إلا ان هذه الطاولة ، وتلك الشجرة ، ورائحة العشب الممزوجة بهواء الخريف كانت أجمل بكثير في نظره ، ( نعم انه جميل للغاية ) نطق ثيودور مسحوراً بلا وعي وبصدق بالغ، لأول مرة كانت لهجته خالية من اي شيء سوى الهدوء، اخيراً استطاعت أوفيليا ولو لثانية بسيطة رؤية شيء من حقيقة ثيودور ، أطلقت ضحكة خفيفة اعادت الأمير لوعيه وهي تحمر خجلاً وتقوس عينيها بسعادة ( شكراً سموك ، اسعدني ذلك ) ، كان شيئاً مثيراً للحيرة ، بدت أوفيليا مختلفة ، انها وبطريقة ما تبدو اكثر قابلية للمحبة ، وهو شيء جعل ثيودور يسأل ذاته عن ما إذا كان قد اخطأ في حكمه عليها سابقاً، كانت تبدو هذه المرة ، لطيفة حقاً ومسالمة ، طرد ثيودور الأفكار السخيفة من عقله بينما يجلس الاثنان في مقاعدهما ، وقف ليونارد ، مباشرتاً خلف سيده مما أثار انزعاجه ، ( لماذا تلتصق بي كالذيل !) همس ثيودور بينما رد ليونارد هامساً باحترام ( سموك لا يزال معاقباً) ، تجاهلت أوفيليا همساتهما المسموعة واستمرت بسكب الشاي بابتسامة ، صر ثيودور على اسنانه بانزعاج بينما يعاود الهمس مرة أخرى ( ليس وكأني سوف آكلها حية ! امنحنا بعض الخصوصية!) استغرق ليونار ثانية ليراجع الأمر في عقله حتى اتضح انه معقول ، استقام ليونارد وهو يطلب الإذن بالمغادرة ( اسمحا لي بأن امنحكما بعض الخصوصية ، سأكون قريباً ان احتجتما لي ) حياهما قبل ان يرجع للخلف بضعة أمتار ، كان قريباً للحد الذي يسمح له بالتدخل ان استدعا الأمر ذلك وبعيداً بما يكفي كي لا يتطفل على محادثتهما ، ومع ابتعاده سرعان ما سأم الأمير الأمر ، أراح ظهره للخلف وعقد ذراعيه بينما ينطق بغرور ( نحن وحدنا الآن ، يمكنكِ التوقف عن التصنع ) كان واثقاً ، او يقنع ذاته ، بأن أوفيليا ليست سوى ممثلة بارعة ، نعم لابد من كونها مزيفة ، هذه الآداب والابتسامات والتحيات الراقية ، كلها تمثيلية تصطنعها لكسب ود الإمبراطور والارستقراطيين ، لا احد يمكنه ان يكون بهذه البراعة او الطيبة ، المصالح الشخصية والطموحات الجشعة وحدها من تصقل هذه المهارات ،، (لا افهم مالذي يقصده سموك بذلك، فأنا لا اُمثل) أجابت أوفيليا بهدوء وابتسامة لطيفة وهي تقرب فنجان الشاي منه بينما رد هو بضحكة ساخرة ،أردفت أوفيليا وهي تحافظ على نبرة هادئة صادقة ( اعتذر عن تلك المرة سموك ، لقد تسرعت واخطأت في حق الأمير، كون الأمر مقصوداً ام لا لا يشكل أهمية، ما يهم في الحالتين هو أنني اسأت للأمير وهذا شيء لا يُبرر ، لذا اعتذر بصدق عما حدث واتمنى ان نتوافق جيداً من الآن فصاعداً ) . نبرتها الصادقة ونظرتها الثابتة لعينيه عززت موقفها الناضج والصادق ، صمت ثيودور وهو يشاهد ثباتها وشيء من الحقيقة قد لامسه ، يستحيل ان تكذب وهي بتلك الملامح ، بدت بريئة للغاية مما جعله يلوم نفسه مجدداً على أفكاره الخاصة عنها ، لا ، هو لم يكون تلك الأفكار من فراغ ، وهي لا تتصرف بهذه الطيبة المفرطة بلا سبب ، ضيق عينيه الذهبيتين بينما نسيم الخريف يخترق شعره الأبيض ويلعب بخصلات شعرها الأشقر بخفة ، ( ما غايتك من كل هذا ، الدعوة والاعتذار والتصرفات الحسنة ، إلى ماذا تهدفين ؟ إذا كانت المكانة والسلطة فلا تحتاجين الي في تحقيق ذلك لقد كسبتما تأييد الإمبراطور بالفعل ، أنا فضولي تجاه أسبابك وتصرفاتك بالفعل ) رغم افتراضاته التي ألقاها بلا مبالة إلا ان نبرته كانت محتارة وفضولية بحتة ، لم يقصد الإساءة او الهجوم ، فهو فقط فضولي عن دوافعها ، رغم كونهما بطبيعة الحال في علاقة عداوة مستقبلية بديهية إلا أنها تسعى لتصليح موقفها والتقرب منه ، لماذا ؟ ، صمتت أوفيليا بينما تحني رأسها ، عم الصمت لثانية قبل ان تجيب بشيء من التوتر ( فالحقيقة ، ربما لن يصدق الأمير ذلك لكن … أنا ادعم سموك ) رفعت أوفيليا رأسها اخيراً وهي تزين وجهها بابتسامة رقيقة قد تتبدد في اي لحظة ( انا … أريد ان اكون بجانبك … أريد مساعدة ولي العهد … حتى يصبح امبراطوراً عظيماً كما يستحق ) ، باعينها اللامعة والثابتة نظرت أوفيليا لعينيه بلا خوف او كذب ، داعب النسيم شعرها بينما تسمر هو في صدمة ، لم يتوقع ذلك ، لديه الكثير من الاسئلة الآن منها الجيد ومنها ما قد يهينها بعض الشيء، لكنها صمت ، مشاعر غريبة انتابته ، هل هي … تعترف به الان ؟.
أطلقت أوفيليا ضحكتها الصغيرة بينما يحدق هو بها بذهول ، ( اعلم … قد يبدو الأمر غريباً، فمن أنا حتى أتفوه بهذه الكلمات … لكن أريد من سموك ان يعرف ذلك ، أنا صادقة فيما أقوله ، وسأكون في غاية الامتنان ان قبل ولي العهد ذلك … لذا اسمح لي … بأن اكون جزءاً من عائلتك ) ، أوفيليا التي رسمت ادفئ الملامح على وجهها وأصدقها كانت بالفعل تمد يدها ناحية الأمير المذهول ، بين يديها كان المنديل الذي عملت على تطريزه بجهد منذ أسابيع، مد ثيودور يده ببطئ وتلقائية ليتلقى المنديل المصنوع خصيصاً من اجله ، المنديل الذي طرز بحروف اسمه بينما أعلاه شعار العائلة الحاكمة قد صنع بعناية ، “عائلة!” ترددت صدى الكلمة في عقله ورنت بلا توقف ، ” هل يمكننا ان نكون عائلة؟” فكر بذلك وقد اهتزّ قلبه كردة فعل ، لسبب ما لم تزعجه الكلمة كما أزعجته كلمة أخي قبلاً، بل حتى دغدغت الفكرة عقله ، استطاع استشعار الصدق والمحبة في حديثها ، لكن لماذا ، لماذا قد تفعل كل هذا بلا مقابل ، هي حتى لا تعرفه جيداً، حتى انه تلفظ باسوء الكلمات في لقائهما الاول وأهانها ووالدتها ، اذاً لماذا؟ هل حقاً تنظر له كعائلة ؟ اهذا حقاً ما يسمى بحب العائلة غير المشروط ؟ ، ضاع في أفكاره وهو يحدق بالمنديل ، مشاعره المرتبكة والمختلطة رسمت حضورها على وجهه ، رفع رأسها ببطء لينظر لها مجدداً لعله يجد ما يساعده في تنظيم أفكاره ، لكنه وجد شيئاً آخر ، في ثانية تبدلت ملامحه إلى صدمة وخوف وهو يحدق بها باعين مفتوحة ، (ا… انفك … انكِ تنزفين !)