الملكة المثاليّة وسكرتيرها - 8
الفصل 8: لقاءاتٌ داخليّةٌ وخارجيّة
استمرّت المُربّية في مناداة ابنها، لكن لم يظهر لهُ أثر. وبينما كان الجميع يميلون برؤوسهم في حيرة، دخل خادمٌ يركض مسرعًا.
‘لابُدّ أنهُ هو.’
فكّر كايران للحظةٍ في أحد الخدم المجهولين من الطابق الرابع وضَحِكَ في سرّه.
“سـ-سيّدتي، السيّد الشّاب بالخارج.”
“آه، حقًّا؟ تأتي شخصيّاتٌ مرموقةٌ كجلالة الملكة والسكرتير، وهو بالخارج!”
تبادلت المربّية نظرةً يائسةً مع زوجها، بينما كانت لينو تتخيّله في ذهنها.
‘اسمه هارب… أتمنّى أن ألتقي به اليوم.’
تخيّلت لينوا شابًّا طويل القامة، ودودًا وحنونًا، يشبه والديه بالتبني، بشعرٍ أسودٍ أنيقٍ ومظهرٍ جذاب.
‘أتمنّى أن تكون شخصيّتهُ مختلفة تمامًا عن الدوق الأكبر بلاندي.’
نظرت نحو كايران، وكأنها تُقارن بين صورة هارب المُتخيّلة والشخص الحقيقي بجوارها، وارتسمت ابتسامةٌ خفيفةٌ على وجهها مع انطلاق خيالها.
أما كايران، فلم يكن يشاركها الحماس نفسه. شعر بأن اسم “هارب” يحمل طابعًا سيئًا.
‘هارب؟ يا له من اسمٍ غريب… ولم يستقبل حتى الخبر بأننا هنا؟ يا له من فاشل.’
لم يكن كايران يعلم بوجود ابنٍ بالتبني للزوجين إلوين إلّا الآن. لكنه لم يهتم سواء كان ابنًا بالتبني أو بيولوجيًّا. كُلُّ ما كان يزعجه هو حقيقة أن هارب رجلٌ آخر.
‘حسنًا… سيكون أفضل لو أنه لم يأتِ أصلًا.’
تمنّى بصمتٍ ألّا يظهر هارب، وضحك ساخرًا من تقلّب مشاعره خلال ذلك اليوم.
وبينما كان كلٌّ منهم غارقًا في أفكاره الخاصّة حول هارب، دعا الزوجان إلوين ضيفيهما للدخول إلى القصر.
ورغم أن الزوجين من طبقة النبلاء، إلا أن لقب الفيكونت لم يكن كافيًا لجعل القصر فخمًا جدًا. كانت الزخارف باهظة الثمن قليلة، وعدد الخدم محدودًا. بدا المنزل وكأنه مِلكٌ لتاجرٍ ثري أكثر من كونه قصرًا نبيلًا.
“ما فائدة الألقاب النبيلة؟ الناس يعيشون بالطريقة نفسها. المهم هو الضروري فقط.”
أعجبتها بساطة حياتهم، أما كايران فقد ارتاح لفكرة أن القصر لا يَعِجُّ بالزينة غير الضرورية التي قد تشتت انتباهه.
دخلوا إلى القاعة الرئيسيّة، حيث طلبت المربّية من خادمةٍ متوسّطة العمر إحضار الشاي. وما إن غادرت الخادمة، حتى بقي الأربعة وحدهم.
شعرت لينوا بفيضٍ من الكلمات التي أرادت قولها، لكنها أحسّت بغرابة الموقف. راحت تتلفّت نحو الباب الذي خرجت منه الخادمة، مُتمنّيةً عودتها بسرعة.
قطعت المربّية الصمت وسألت بابتسامةٍ مشرقة.
“كيف حالكما معًا؟ أعتقد أن العمل سويًّا يجعلكما أقرب، أليس كذلك؟”
“…”
حبست لينوا أنفاسها، ولم تجد ما تقوله، بينما واصلت المربّية التحديق بها مُبتسِمة، غير مُدرِكةٍ لحيرتها.
في الواقع، كانت لينوا قد ذكرت كايران باختصارٍ في بعض رسائلها إلى الزوجين إلوين. تحدّثت عنه كابنٍ لصديقٍ قديمٍ لوالدها، وذكرت أنه سكرتيرها المُخلص ويعمل معها في القصر. لم تتطرّق لأي شيءٍ عن مسألة الوريث أو أي تفاصيلٍ شخصيّةٍ عميقة.
كانت المعلومات مُقتضبة ولم تتجاوز خمس جُمل. ومع ذلك، كانت هناك جملةٌ واحدةٌ فقط تُظهر رأيًا شخصيًا.
— الدوق الأكبر بلاندي يؤدي عمله أفضل مني.
وكان ذلك صحيحًا إلى حدٍّ كبير. كان كايران يتعامل مع كمياتٍ هائلةٍ من الوثائق بسرعةٍ مذهلةٍ قبل أن تصل إلى مكتب لينوا للمراجعة النهائيّة.
كانت تندهش دائمًا من كفاءته وسرعته، خاصّةً بعد رؤيتها لعمله الشاق أثناء النزاع حول مسألة الوريث. لم يكن يجد وقتًا للنوم ومع ذلك واصل العمل بلا كلل.
‘شخصٌ أكثر كفاءةٍ منّي لتولي العرش.’
هذا كان تقديرها الشّخصي لقدرات كايران، لكنها لم تتحدّث عن أي مشاعرٍ أخرى نحوه.
ومع ذلك، بدت المُربّية مُقتنِعَةً أن العلاقة بينهما تتجاوز حدود العمل، وواصلت الحديث بحماس.
‘أرجوكِ، احضري الشاي بسرعة…’
لكن قبل أن تصل الخادمة، سمع الجميع صوت كايران العميق يكسر الصمت.
“جلالة الملكة تغفو فور رؤيتي.”
قالها وهو يبتسم ابتسامةً غريبة، يرفع زاوية فمه وكأنها نكتةٌ خاصّةٌ به. كان يتحدّث عن اللحظة التي غفت فيها لينوا في العربة، حيث شبّهها بشخصيّةٍ من حكايةٍ خرافيّةٍ كان يتخيّلها.
‘ماذا؟ أغفو فور رؤيته؟’
تساءلت لينوا بدهشةٍ وهي تُحدّق به، عاجزةً عن فهم قصده تمامًا.
في الحقيقة، كانت لينوا من النوع الذي يغفو بعمقٍ دون أن يشعر بما حوله، حتى لو حملها أحدٌ بعيدًا. وقد حدث الأمر ذاته اليوم.
‘هل جعلتُه يشعر بعدم راحتي تجاهه؟’
اجتاحتها دوخةٌ خفيفةٌ بينما غمر عقلها شتى الأفكار. لكن المربّية، التي لاحظت توتّر الأجواء، ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ مصطنعةٌ وسارعت لتصحيح الموقف.
“هاها… لا بد أنكما مشغولان طوال اليوم، ومن الصعب أن تصبحا مقربين.”
“نـ-نعم. كيف هي الأحوال هذه الأيام؟”
أخيرًا، تدخّل الفيكونت إلوين ليغيّر الموضوع.
‘يا لهُ من أمرٍ مُطمئن.’
تنفّست لينوا الصعداء، مُمتنةً لأن الزوجين أدركا أخيرًا طبيعة علاقتها مع كايران.
لم تكن ترغب بالحديث عن العمل اليوم، لكنها أجابت بجديّةٍ بما تعرفه. شارك كايران أيضًا في الحديث، وأخيرًا، عادت الخادمة تحمل الشاي. ساد صمتٌ خفيفٌ أثناء شربهم الشاي، مما خفّف التوتّر قليلًا.
‘عندما أعود، يجب أن أكتب رسالةً لهم أوضّح فيها علاقتي الحقيقيّة مع كايران.’
شعرت بالسكينة وهي تحتسي شاي البابونج الذي تحبه. ولكن سرعان ما اقترب خادمٌ —نفس الذي جاء سابقًا— وأعلن خبرًا.
“السيّد الشاب قد وصل.”
‘واو، أخيرًا!’
كادت لينوا تصفق بفرحٍ لكنها تماسكت. أرادت التغلّب على الأجواء المتوتّرة ورؤية هارب لتعرف إن كان يشبه الصورة التي رسمتها لهُ في خيالها.
“لنذهب معًا لرؤية هارب.”
قالتها بحماسٍ واضح. وقف الزوجان إلوين مبتسمين، لكن كايران ظلّ جالسًا في مكانه، عاقدًا ذراعيه.
“ولماذا نذهب نحن؟ فقط اطلبوا منه أن يأتي إلى هنا.”
قالها بنبرةٍ باردة، مُستخدمًا حتى لغةً غير رسميّةٍ في حديثه.
ظهرت علامات الاستغراب والانزعاج على وجه الزوجين بسبب تصرّفه. نظرت لينوا نحوه بحيرة، لكنها احترمت رأيه، وكانت تشعر فعلًا بالحاجة للابتعاد عنه قليلًا بعد كل هذا التوتّر.
“حسنًا، سنذهب وحدنا. استرح هنا.”
“نـ-نعم. سأطلب من أحد الخدم إرشادك إلى غرفة الضيوف.”
فهم الزوجان نيّة لينوا بسرعةٍ وغادرا الغرفة معها، بينما ظهر خادمٌ آخر ليرافق كايران إلى غرفته. لاحظ الخادم التوتّر في وجه كايران، وأسرع بمغادرة المكان بعد أن أدى مهمته.
ساد صمتٌ مطبقٌ في الغرفة. شعر كايران فجأةً وكأن نسيمًا باردًا يلفح وجهه. كان مضطربًا تمامًا كما شعرت لينوا بالتوتّر أثناء الحديث عن علاقتهما. وعندما رأى ارتباكها، حاول تخفيف الجو بتلك الجملة الساخرة:
‘شخصٌ يغفو فور رؤيتي… أو الملكة النائمة.’
شبّه لينوا بشخصيّةٍ من قصص الخيال بينما كانت نائمةً في العربة.
‘هل أسأتُ إليها بتلك المزحة؟’
بدأت يداه ترتجفان وهو يفكّر في مدى تأثير كلماته عليها.
‘هل يجب أن أستلقي قليلاً؟’
تساءل بينما شعر بالنعاس يتسلّل إليه. كان قد قضى الليلة الماضية مستيقظًا في إنجاز مهامه ليتمكّن من مرافقة الملكة اليوم. لكن حتى مع النعاس، لم تُفارقه صورة لينوا.
‘عندما كانت نائمةً على حجري، بدت هادئةً جدًا… فلماذا تتجنّبني عندما تستيقظ؟’
كل أفكاره كانت تعود إليها دائمًا. لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على مغادرتها، لكنه شَعَرَ وكأن قلبه يشتعل شوقًا لرؤيتها مجددًا.
‘لو بقيتُ هنا لفترةٍ أطول، قد ينتهي بي الأمر بتمزيق الملاءات.’
قفز بسرعةٍ وخرج من الغرفة، مُتّجهًا إلى حيث كانت لينوا، مدفوعًا برغبته العارمة لرؤيتها مجددًا.
* * *
في تلك الأثناء…
“أُحيّي جلالتك. أنا هارب إلوين.”
“أوه…”
ظهر أمام لينوا رجلٌ طويل القامة، ذو شعرٍ أسودٍ داكن وعينين حمراويتين لامعتين، وانحنى بانحناءةٍ محترمة.
حدّقت به لينوا بدهشةٍ واضحة. لم يشبه والديه بالتبني إطلاقًا، لكنه كان وسيمًا وله حضورٌ قوي. كانت هيبته مخيفة قليلًا، لكن عينيه كشفتا عن لطفٍ ودفءٍ يشبهان لطف الزوجين إلوين.
على الرغم من مظهره الحاد، بدا مُهذبًا ورقيقًا. حتى تحيّته كانت تشبه تحيّة كايران، لكنها حملت في طيّاتها صدقًا أكبر وشعورًا بالاحترام الحقيقي.
‘إنه عكس كايران تمامًا.’
ابتسمت لينوا بخفّة، شاعِرَةً وكأنها خمّنت شخصيّته مسبقًا.
“تشرّفتُ بلقائك. أنا لينوا مون سيليستا.”
رفعت طرف فستانها بلطفٍ وانحنت لتحيّته، مُحافِظَةً على أدبها أمام لباقة هارب.
“آه، يمكنكِ أن تكوني مرتاحةً. حقًا، لينوا.”
ضحك الأربعة معًا على كلمات المربّية المشاكسة. بخلاف الأجواء الخانقة التي سادت القاعة مع كايران في وقت سابق، كان الجو الآن مريحًا ودافئًا.
ثم تذكّرت لينوا شيئًا كانت قد نسيته. نظرت إلى هارب بابتسامةٍ وقالت.
“إذا كان بإمكاني أن أكون مُرتاحة… هل يمكنني مصافحتك؟”
“يا إلهي، إنه لشرفٌ عظيم.”
تفاجأ هارب قليلًا من طلبها المفاجئ، لكنه ابتسم بخجلٍ ومدّ يده نحوها. أخذت لينوا يد هارب برفق. حتى من خلال القفاز، شعرت بدفء يده يتسلّل إلى قلبها كالنار الهادئة.
‘لماذا أشعر بهذا اليوم؟’
غمرها إحساسٌ غريبٌ لم تعهده من قبل.
كان هارب مختلفًا تمامًا عن كايران القاسي المُتحفّظ. صوته دافئ، وملامحه مريحة، ما جعلها تنجذب إليه دون وعي.
‘من بين جميع الرجال الذين التقيتُ بهم منذ أن كنتُ أميرة… هو الأكثر…’
“جلالتكِ، ماذا… تفعلين؟”
قطع صوت كايران الصارم أفكارها مثل دلو ماءٍ بارد. ظهر فجأةً ودفع ذراع هارب بقوّةٍ بعيدًا عنها.
تغيّر الجو في لحظة. كان وجه كايران محمرًّا كاللهب، وعيناه البنفسجيّتان تلمعان بالغضب بينما يحدّق بهارب.
“كيف تجرؤ، فِعل هذا لملكتي…’
كان كايران يشتعل غضبًا. أمسك بياقة هارب بعنفٍ وكأنه ينوي إلقاءه بعيدًا.
“لـ-لا، توقّف!”
صرخ هارب وهو يحاول الإفلات من قبضته. لكنه لم يكن مذعورًا من تصرفات كايران بقدر ما كان مصدومًا من مظهره.
توسّعت عيناه برعب، وهو يتمتم.
“أنت… أنت… هل يُعقل…”
لم يكمل جملته، وبدأ يهتزّ بعنفٍ قبل أن يفقد توازنه ويسقط أرضًا.
‘ما خطب هذا الرجل؟’
تبدّل غضب كايران إلى حيرةٍ وهو يترك ياقة هارب. نظر إليه وهو ممددٌ على الأرض، ثم تنهّد بضيق.
‘مَن يكون هذا الشخص أصلًا؟’