الملكة المثاليّة وسكرتيرها - 7
الفصل 7: داخل العربة المُتحرّكة
في صباح اليوم التالي، استيقظت لينوا قبل الوقت المُحدّد وتناولت الفطور المتأخّر الذي كان عبارةً عن كوبٍ من الحليب وشريحة خبزٍ محمّص فقط. كان الترقّب لزيارة قصر الفيكونت إلوين بعد وقتٍ طويلٍ قد منعها من النوم، ومع ذلك لم تشعر بأي إرهاق. رغم أنه كان لا يزال هناك أكثر من ساعةٍ على الوصول، شعرت بعجلةٍ غامضة، حتى أن وقت تناول الطعام بدا وكأنه مضيعةٌ للوقت. لم تستطع منع نفسها من الابتسام، وقد كانت فتات الخبز على شفتيها ترسم تجاعيد واضحة. انتهى الفطور خلال أقل من عشر دقائق.
“ماذا عن هذا الفستان؟”
“همم… لا، جرّبي آخر.”
على غير عادتها، لم تكتفِ لينوا باختيار أيّ ثوبٍ يقع عليه نظرها، بل كانت أكثر انتقائيّةً اليوم. فقد كانت المُناسبة لقاءً مع من اعتبرتهم بمثابة والديها بعد وفاة والديها الحقيقيّين. لم تزرهم منذ ما يقارب العام بسبب الفوضى التي أحاطت بمسألة وريث العائلة، لذا أرادت أن تبدو في نظرهم كابنةٍ ناضجةٍ وجميلةٍ بعد هذا الغياب الطويل.
بعد ساعةٍ من التردّد، اختارت فستانًا من الطراز الفيكتوري بلونٍ بنفسجيٍّ داكن. كانت ترغب في ارتداء لونٍ زاهٍ، لكن نصيحة بيتيير منعتها من ذلك.
“من باب الاحتياط فقط.”
كان ذلك اليوم الخامس من دورتها الشّهريّة. ورغم أن الألم وتدفّق الدم قد خفّا كثيرًا، إلا أن بيتيير، التي كانت مُدبّرة المنزل وأحد أفراد العائلة الموثوقين، شدّدت على أن الألوان الفاتحة أو الفساتين الضيّقة ممنوعة تمامًا.
استغرق ارتداء الفستان ثلاثين دقيقة طويلة، وبعدها وقفت لينوا أمام المرآة الطويلة تتأمّل انعكاسها.
“يا إلهي، كيف يمكن لهذا الفستان أن يليق بكِ إلى هذا الحد؟”
“لا يوجد في هذا العالم زيٌّ لا يليق بالسيدة لينوا.”
كانت لينوا مذهلةً رغم أنها لم تضع أي مساحيق تجميلٍ بعد. تألّقت عيناها البنفسجيّتان، وهو لونٌ ساعدها كثيرًا في إبراز جمال الفستان.
الخطوة التالية كانت وضع المكياج. اجتمعت بيتيير وعددٌ من الخادمات حولها ليضعن كل جهدهن في تجميلها. وعندما انتهين، قامت بيتيير بجمع شعر لينوا الأشقر الرّمادي في تسريحةٍ نصف مرفوعة. كانت لينوا، بملامحها شبيهة الدمية، تُحدّق في انعكاسها في المرآة بشرود.
حينما غادرت إحدى الخادمات الغرفة للحظة، حدث أمرٌ غير متوقع.
“فـ- فخامتكَ…” (لقب للدوق كايران)
“جـ-جلالتك! متى ستخرجين؟ لم تتناولي حتى طعامك!”
طَق. ما إن غادرت الخادمة، حتى انفتح الباب ودخل كايران، وهو يبدو مرهقًا تمامًا.
كان قد استيقظ قبل لِينوا بل وقبل أي فردٍ من أفراد البلاط، وأنهى استعداده في أقل من ربع ساعة. كانت هذه أوّل مرّةٍ يخرج فيها منذ فترة، لذا ارتدى ملابس رسمية، لكنها لم تكن فاخرةً كملابس لينوا.
ارتبكت بيتيير بسبب دخوله المفاجئ وغير اللائق، فحدجته بنظرةٍ غاضبة. أما لينوا، فاتّسعت عيناها بدهشةٍ كما لو كانت غزالةً مُتفاجِئة، لكنها سرعان ما ابتسمت له بصمت.
‘انتظر قليلًا.’
تجاهل كايران نظرات بيتيير الناريّة وركّز انتباهه على لينوا التي كانت تحت رعايتها.
“…”
“…”
“…”
تبادلت بيتيير وكايران ولينوا النظرات في صمتٍ للحظات، قبل أن يقطعها انتهاء التحضيرات.
رشّت لينوا قليلًا من العطر، ووضعت قبعةً بيضاء واسعة الحواف مُزيّنة بشريطٍ أصفر ساطع، ثم وقفت. كان جسدها متصلّبًا بالكامل. الوقوف لفترةٍ طويلةٍ كان مرهقًا، لكن الجلوس كان غير مريح أيضًا، لذا فضّلت الوقوف.
خرجت من الغرفة، تاركةً الخادمات لإنهاء الترتيبات الأخيرة، بينما ظلّ كايران واقفًا عند الباب. لسببٍ ما، كان وجهه متورّدًا قليلًا، لكنه انحنى برشاقةٍ على ركبته اليسرى أمامها.
“تبدين متألّقةً بشكلٍ استثنائي اليوم، جلالتكِ.”
كانت نبرته أشبه بما يستخدمه النبلاء الشباب في الدوائر الاجتماعيّة. لينوا، التي تلقّت تعليمًا صارمًا منذ كانت أميرة، لطالما سمعت مثل هذه العبارات المتكلّفة في الحفلات.
‘إنهم جميعًا يسعون وراء لقب الزوج.’
لكنها لم تتأثّر أبدًا، فقد تلقّت تحذيراتٍ صارمةٍ من والديها مرارًا.
‘لن أسمع تلك الكلمات مجددًا.’
فجأة، اجتاحها الحزن لغياب والديها، فانطفأت ابتسامتها.
“جـ-جلالتكِ؟”
استفاقت لينوا على صوت كايران القَلِق، فحاولت أن ترسم ابتسامةً مجددًا وهي تقبل مرافقته.
كونها ملكة بلا والدين أو أشقاء، كان عليها أن تتصرّف وتتّخذ كل القرارات بنفسها، وهو ما أثقل كاهلها. لم تدم سعادتها بلقاء مربّيتها سوى بضع دقائق، وفي يومٍ جميلٍ كهذا، كانت مشاعرها متقلّبةً بشدة.
‘ألم تنتهِ دورتي بعد؟’
أمسكت لينوا يد كايران وغادرا القصر. لفت انتباهها العربة المُنتظرِة قرب البوابة الرئيسيّة. وعلى الرغم من كونها يجب أن تستخدم عربة ملكيّة، إلا أنهم استخدموا عربة عاديّة كالتي يستعملها الخدم، تفاديًا لخطر هجوم قطاع الطرق أثناء نزهاتها الشّخصيّة.
ساعد كايران لينوا على الصعود أولاً، ثم دخل من الباب المقابل وجلس بجانبها على الحافة اليمنى.
‘هناك مقعدٌ مقابل، فلمَ جلس هنا؟’
حاولت لينوا تجاهل الأمر وحدّقت في يديها المرتبتين فوق حجرها. ومع صعود الفرسان الثلاثة المرافقين، انطلقت العربة.
‘رُبّما يجب أن أغفو قليلاً.’
رأت أنه من الأفضل إغلاق عينيها بدلًا من تحمّل الرفقة المزعجة. ومع أن جسدها كان مشحونًا بالحماس، إلا أن التعب بدأ يتسلّل إليها.
أسندت رأسها إلى إطار النافذة وأخذت تغفو، لكنها شعرت فجأةً بيدٍ على رأسها، ففتحت عينيها قليلاً.
“آه…”
رأت كايران وهو يحمل قبعتها.
“لماذا لا تنزعين قبعتكِ وتنامين براحة؟”
قال ذلك بابتسامةٍ خفيفة، لكن لينوا التي كانت نصف نائمة، أغلقت عينيها مُجددًا وأسندت رأسها بثقلٍ إلى ظهر المقعد.
ابتسم كايران أكثر واقترب منها، ثم وضع رأسها برفقٍ على حجره، وبدأ يداعب شعرها الطويل بينما كانت تنام وتصدر شخيرًا خافتًا.
فجأة، تفتَّح في ذهنه كزهرةٍ عنوانُ حكايةٍ خرافيّةٍ قرأها في طفولته.
‘الملكة النائمة في العربة.’
ابتسم وهو يعيد تسمية الحكاية في ذهنه ليجعلها عن لينوا. كان يعلم أنه لو سمعه أحدٌ سيُصدم وربما يُغمى عليه.
‘ملكتي… لينوا الخاصّة بي.’
تحت لمسات كايران المُستمرّة، غاصت لينوا في نومٍ أعمق. وفي لحظة، نظر كايران حوله بسرعة.
“…”
كان الفرسان يراقبونهم خلسة، رؤوسهم ممدودةٌ من نوافذ العربة. لكن حين التقت أعينهم بعينيّ كايران، تراجعوا مذعورين وأخفوا وجوههم.
رمقهم كايران بنظرةٍ باردةٍ وقال.
“هشش. إنها نائمة. استديروا حالاً.”
ووضع إصبعه على شفتيه بتهديدٍ خفي. فهم الفرسان الرسالة سريعًا وأداروا رؤوسهم بعيدًا.
‘يجب أن أُكافئهم ببضع عملاتٍ ذهبيّةٍ عند عودتنا.’
أخيرًا، تمكّن كايران من الاستمتاع باللحظة كما يريد. حمل خصلةٌ من شعر لينوا الناعم كقطةٍ مسترخيةٍ على حجره، وقبّلها برقّة. ثم خلع قفازاته البيضاء ولمس وجهها بلطف. بدا جلدها أنعم من القطن.
“هذهِ… المرّة الأولى.”
دون وعي، انزلقت أصابعهُ نحو شفتيها المُمتلئتين المغطاة بلمعانٍ ورديّ فاتح، وبدأ يتحسّسها بخفّة.
“…”
شَعَرَ برغبةٍ لا يُمكن مقاومتها، وكأن جسده يغلي بنارٍ خفيّة. لم يكن هناك مَن يُراقبه، ففكّر في سرقة قُبلةٍ طالما حَلُمَ بها.
“هممم…”
مدّ يديه وأمسك وجنتيها برقّة.
“لقد وصلنا!”
دوى صوت السائق فجأة، فأبعد كايران يديه بسرعةٍ وعاد إلى وضعه المستقيم.
‘ألم يكن بإمكانه القيادة أبطأ قليلًا؟’
رمق السائق بنظرةٍ حادّة، ثم انحنى نحو لينوا وهزّ كتفها بلطف.
“جلالتكِ، لقد وصلنا.”
“آه…”
فتحت لينوا عينيها بتثاقل، غير مُدرِكَةٍ أنها كانت نائمة على حجره. سمحَتْ لهُ بمساعدتها على النزول من العربة، وهي لا تزال نصف نائمة.
ظهر أمامها قصرٌ فخم، منزل الفيكونت إلوين، تمامًا كما تتذكّره.
امتلأت بالسعادة وشدّت يد كايران مُتحمّسة، مُتجاهِلَةً النظام الملكي الذي يمنع الركض.
“جلالتكِ!”
“فقط لليوم، أرجوكَ.”
همست لينوا بابتسامةٍ مشرقة، فأغلق كايران فمهُ فورًا واحمرّ وجههُ حتّى أصبح كالطماطم.
عند دخولهما بوابة القصر الأماميّة، فتحت الفيكونتيسة إلوين، مُربّية لينوا السابقة، الباب الأمامي وخرجت لاستقبالهما. تركت لينوا يد كايران وركضت نحوها كما كانت تفعل في طفولتها، وارتمت في حضنها. لقد أصبحت أطول من مربّيتها الآن.
“لقد مرّ وقتٌ طويل، فيكونتيسة إلوين. اشتقتُ إليكِ كثيرًا.”
ابتسمت المربّية بحنانٍ وقالت.
“يا ملكتي العزيزة، قلبي لا يزال بمكانة المربّية لكِ. لذا ناديني مُربّية فقط.”
دفنت لينوا وجهها في صدر مربّيتها، ومع ذلك الشّعور بالدفء، تلاشى إحساسها بالرغبة في البكاء.
بعد وفاة والدتها قبل ثلاث سنوات، كانت هذه المربّية هي من خفف عنها أحزانها. لقد أدّت دور الأُم بحنانٍ بالغ، وساعدت لينوا على تجاوز ألم الفقدان تدريجيًّا. وبفضل حُبّها العميق، استطاعت لينوا الحفاظ على قلبها اللطيف والرحيم، تمامًا كوالدتها الرّاحلة.
“الملكة لينوا، لقد وصلتِ.”
ظهر الفيكونت إلوين، القائد السابق للفرسان، من مكانٍ قريبٍ وحيّا لينوا بانحناءةٍ رسميّة. عندها فقط رفعت لينوا طرف فستانها وردّت التّحية بأناقةٍ للزوجين.
وقف كايران على مسافة، يُراقب المشهد أمامه— أُسرةٌ مليئةٌ بالحب والدفء.
‘رُبّما كان من الأفضل لو لم آتِ.’
شعر فجأةً بموجةٍ من الندم تغمره، لكن الأوان قد فات. تنهّد واقترب منهم. التفت الثلاثة إليه، ينتظرون تحيّته.
“تحيّاتي. أنا كايران بلاندي، سكرتير الملكة لينوا.”
وضع يده اليمنى فوق صدره الأيسر وانحنى برأسه. لم يكن كايران يُحبّ التعامل مع مَن هم أدنى مِنهُ منزلة، وغالبًا ما كان يكتفي بتلقّي التّحية دون ردّها. لكنه كان مُستعدًّا للتصرّف بلطفٍ مع من يحبّهم قلب لينوا.
تقدّمت المربّية نحوه وأمسكت يديهِ بدفء، ترتسم على وجهها نفس الابتسامة الواسعة التي أظهرتها للينوا.
“سمعتُ عنكَ الكثير من لينوا. أنتَ السكرتير بلاندي، أليس كذلك؟ لقد أخبَرَتْنِي كم تُساعدها في عملها— وقالت إنك تؤديه أفضل منها أحيانًا!”
نظرَتْ إليه بعينيّ أُمٍّ ترى في ابنها فخرًا وسعادة.
“لقد تحدّثَتْ عني؟”
شَعَرَ بدفءٍ عميقٍ ينتشر في قلبه كحرارةٍ نار المخيم. كان يظن دائمًا أن لينوا تعتبره مجرد سكرتير لا أكثر. بل من النادر ذِكرُ أسماء الخدم أو المُساعدين في الرسائل الملكيّة. ومع ذلك، فقد تحدّثت عنهُ بنفسها، ووصفت جهوده بهذا التقدير؟
تلاشت شكوكهُ القديمة. لم تكن تتجنّبه لأنها لا تحبّه، بل لأنها تثق به وتقدّره كمساعدٍ مُخلِص.
عندما أفلتت المُربّية يديه، التفت كايران إلى لينوا. وجدها تبتسم له— ابتسامةٌ مليئةٌ بالدفء والجمال وكأنها تحتضن العالم بأكمله. في تلك اللحظة، وجدها أجملَ ممّا كانت عليه وهي نائمةٌ في العربة.
وقبل أن ينغمس في مشاعرهِ أكثر، قالت المُربّية وهي تنظر حولها وكأنها تبحث عن شخصٍ ما.
“لدينا ابن، وإن لم يكن من دمنا. اسمه هارب إلوين. سأعرّفكما عليه عندما يأتي. أعتقد أنه قريب…”