الملكة المثاليّة وسكرتيرها - 5
الفصل 5: اللقب والإذن
بمجرد سماع ذلك الاسم، هبطت معنويات لينوا كما لو أن الشاي الساخن قد بُرِّد فجأة. اختفت ملامحها المُفعمة بالأمل، وجلست برأسٍ منكّس، تعبث بأصابعها.
لقد تعلّمت أن “على الحاكم إبلاغ السكرتير عند مغادرة القصر، كما يجب أن يكون هناك اتفاقٌ متبادلٌ بشأن تقسيم الواجبات” وفي الواقع، لم يكن هناك سوى شخصين يديران شؤون الدولة في القصر هما لينوا وكايران.
عندما كان والدها، الملك، يتولّى إدارة شؤون الدولة، لم يكن السكرتير وحده حاضرًا، بل أيضًا العديد من الأتباع مثل الكَتَبة. وكلما كان أداء الأتباع أفضل، ارتفع تقييم الملك بطبيعة الحال، مما جعل مرؤوسي الحاكم ذوي أهميةٍ كبيرة.
بصفتها ملكة، كانت لينوا تنوي في البداية الاحتفاظ بأتباع والدها. لم تكن لديها رغبةٌ خاصّةٌ في جلب أشخاصٍ جدد، كما أنهم كانوا الفصيل الذي دعمها دائمًا.
لكن كايران عارض ذلك.
‘جلالتكِ، ينبغي أن يكون لكِ رجالُكِ الخاصّون.’
بما أنه أيضًا من سلالةٍ ملكيّةٍ وتلقّى دراساتٍ ملكيّةٍ كافية، فقد عارض بشدّةٍ عودة الأتباع السابقين إلى القصر. وحتى عندما أُثيرت مسألة نقص الدعم أو الأيدي العاملة، أصرّ كايران على أنه قادرٌ على إنجاز عمل عشرة أشخاص، وظلّ رافضًا بإصرار.
وفي النهاية، لم يبقَ في القصر سوى سياسيين اثنين فقط.
“حسنًا، إذن… هل يجب ألا أذهب؟”
تمددت لينوا على السرير، وقد ارتخت أطرافها تمامًا. كان هذا الوضع مريحًا إلى حدٍّ ما خلال فترة دورتها الشهريّة.
“لكن لا توجد أيُّ مناسباتٍ لبضعة أيام… كما أنكِ لم تغادري القصر منذ التتويج. ربما يمكنكِ إقناعه؟”
بيتيير، التي كانت تساعد لينوا منذ حفل بلوغها، كانت تدرك معاناتها جيدًا.
في أثناء دراستها الملكيّة، كانت لينوا تخرج من القصر من حينٍ لآخر لإجراء عمليات تفتيشٍ حكوميّة، لكن منذ التتويج، لم تخطُ خارج البوابة الرئيسيّة. كان أقصى ما فعلَتْهُ هو زيارة حدائق القصر.
“إذن… حتى لو لم يُسمَح بذلك، سأحاول الحديث عنه.”
طلبت لينوا من بيتيير أن تُرسل رسالةً إلى كايران، ولم يلبث أن عاد بسرعةٍ ليخبرها بأنه وافق.
“يا لحُسن الحظ.”
في الواقع، لطالما رفضت لينوا طلبات كايران لمقابلتها، مُتحجِّجَةً بالأعذار. كانت تخشى في سرّها أن يكون قد استاء منها ويرفض رؤيتها، لذا انتظرت عودة بيتيير بقلق.
لكن الآن، وعلى عكس توقعاتها، وافق، مما جعل وجهها يُضيء فرحًا. راودها إحساسٌ بأنه قد يوافق على مغادرتها دون الكثير من الجدل.
أعادت لينوا وضع مساحيقها، التي كانت قد أزالتها أثناء استراحتها، وغادرت الغرفة مُتّجهةً نحو السلالم.
كان مكتب كايران في الطابق الرابع، بينما كانت غرفة لينوا ومكتبها في الطابق الثالث. وبينما كانت تصعد الدرج، خطرت لها فكرة.
“السكرتير أعلى مني، أنا الملكة.”
لطالما شعرَتْ بأنه يفرض عليها نوعًا من الهيمنة كلّما رأته.
عند وصولها إلى الطابق الرابع، ألقت نظرةً سريعةً على الرواق. كان قد طرد جميع أتباع الملك السابق، ولم يكن لديه حتى مُعاوِنٌ شخصيُّ أو خادمٌ مُلازم. كان من المعتاد أن يكون للسكرتير أو أي تابعٍ ملكي شخصٌ يساعده على الأقل.
لكن لم يكن هناك أحدٌ حوله. بدا وكأنه يعتبر جميع رجال البلاط أعداءً له.
“حتّى أنا.”
ظنّت لينوا خطأً أنها ضمن الأشخاص الذين أبعدهم كايران.
في تلك اللحظة، رأت خادمًا يغلق باب المكتب بحذر. كان يحمل مكنسةً وصندوق إسعافاتٍ أوليّة في يده.
“هل أُصيب…؟”
ما إن وقعت عيناها على صندوق الإسعافات، حتى اتّسعت حدقتاها وسارعت إلى الخادم، مُمسِكَةً به.
كانت تتذكّر أن اسمه جون.
ارتبك جون عندما أمسكت الملكة، التي كانت بجمال زهرةٍ في حدائق القصر، بكتفه المتواضع. للحظةٍ، سُحِرَ بجمال لينوا وكاد يُسقط كل ما كان يحمله.
غير واعيةٍ لمشاعره، ركّزت لينوا على المكنسة. من الواضح أنه كان ينظف مكتب كايران. لكن صندوق الإسعافات؟ همست له بسؤال.
“جون، لماذا دخلتَ إلى الداخل؟”
“آه، صاحب السمو الدوق الأكبر… استدعاني على عجلٍ بينما كنتُ أُنظف الممر… وأمرني بتنظيف هذا المكان وإحضار هذه الحقيبة الطبّيّة.”
تمكّن جون بالكاد من الإجابة، مُرتجفًا لسبب ما.
كان من الطبيعي تمامًا أن يقوم الخدم بتنظيف المكاتب، ولكن وفقًا للخدم في الطابق الرابع، فإن كايران كان يكره دخول أيّ شخصٍ إلى مكتبه أو غرفة نومه. إذا وجد خادمًا ينظف غرفته، كان يطرده على الفور. ولهذا، كان الخدم ينظفون الغرفة سرًا عندما يكون كايران غائبًا.
كان من الغريب أن يطلب كايران، الذي كان يمنع حتى عمّال النظافة من الدخول، من أحدهم التنظيف علنًا.
“لماذا الحقيبة الطبّيّة؟ هل صاحب السمو في الداخل الآن؟”
“أنا… لا أعلم، طُلب مني فقط إحضارها. صاحب السمو في الداخل.”
لقد كان في الغرفة طوال الوقت، لكنه استدعى خادمًا لتنظيفها علنًا، وهو أمرٌ لا يشبه تصرّفاته المعتادة.
“إذن، ما الأمر بشأن الحقيبة الطبّيّة؟”
شعرت لينوا بالقلق من احتمال تعرّضه لإصابةٍ أو وعكةٍ صحيّة، فطرقت باب المكتب أخيرًا. كان هناك وجودٌ خافتٌ بالداخل، مما دلّ على أن أحدًا هناك، لكن لم يُسمع أي صوت.
كان جون قد قال بوضوحٍ إن كايران هناك. وعلى الرغم من ارتجافه، لم يكن يبدو أنه يكذب. علاوةً على ذلك، فقد اختفى فجأةً كأنه الريح.
بعد صمتٍ طويل، قررت لينوا فتحَ الباب بنفسها والدخول.
كان كايران جالسًا وظهره مُواجِهٌ للمكتب. شعره الأحمر الناري، الذي يعكس مزاجه، لم يكن من المُمكن الخطأ في معرفته. أثناء اقترابها بهدوء، بدا مشغولًا بشيءٍ ما.
لم يُلاحظ دخولها رغم وجودها هناك.
لم تستطع لينوا تمالك نفسها ونادته بصوتٍ واضح، يحمل القلق.
“امم… سمو الدوق؟”
تصلّب ظهر كايران. استدار ببطءٍ حتى التقت عيناه بعينيها، وبدا عليه الارتباك غير المعتاد.
“هـ- هل طرقتِ الباب قبل الدخول؟”
“نعم، لكن لم يكن هناك ردٌّ.”
أجابت لينوا، مُحاوِلةً الابتسام رغم السؤال المألوف. كان هدفها هو إقناعه، لذا كان عليها الحفاظ على تعبيرٍ دافئ.
“ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟ لقد رفضتِ جميع طلباتي للمقابلة في كُلّ مرّة.”
عاد كايران إلى طريقته المعتادة في التعامل معها. اتكأ بمرفقيه على المكتب، مشبكًا يديه بابتسامةٍ خفيفة. رغم أنها كانت تحمل بعض الغطرسة، لم يكن لدى لينوا رفاهية الاهتمام بذلك.
“بعد ثلاثة أيّام، أرغب في زيارة منزل الفيكونت إلوين لمدة يومين. أريد رؤية مربيتي بعد وقتٍ طويل.”
“…”
“بما أن اجتماع ميرزين قد انتهى، وليس هناك أيُّ فعّالياتٍ لفترة، أود أن أستريح قليلًا.”
عند ذكر اجتماع ميرزين، تقلّصت عينا كايران.
لقد دخل القصر بعد بضعة أيّامٍ من حفل بلوغ لينوا، لذا لم يلتقِ بمربّيتها أو بالقائد السابق للفرسان. كان يعلم فقط أنهما أصبحا زوجين ويحملان لقب الفيكونت إلوين.
انتظرت لينوا، مُرتجِفَةً قليلًا، ردّه.
“حسنًا، لا أُمانع في ذهابكِ… لكن يومين قد يكونان صعبين، يُمكن ليومٍ واحدٍ فقط.”
قال ذلك بينما سحب وثيقةً بجانبه وبدأ بالكتابة. على الرغم من تقليص المدة، قفز قلب لينوا فرحًا بإمكانيّة الذهاب.
ولكن، لم تدم فرحتها طويلًا بعد سماع كلماته التالية.
“لكن بشرط أن تذهبي معي.”
بعد أن كَتَبَ شيئًا على الوثيقة، وضع كايران قلمه ونظر إليها بهدوء، وابتسامةٌ خفيفةٌ تُزيّن شفتيه.
تلعثمتْ لينوا مُندهشة.
“لا، كنتُ أُخطّط للذهاب وحدي. لذا حتّى ذلك الحين… كنتُ آمل أن تتولّى شؤون الدولة نيابةً عني.”
“من يدير شؤون دولة سيليستا؟ أليس الأمر بيني وبينكِ فقط؟ لكن بينما تذهبين للاستمتاع، سأبقى وحدي لأهتم بكل شيء. هذا مُخيبٌ للآمال.”
“أنت من صرف جميع الأتباع… وقلتَ إنكَ تستطيع التعامل مع كل شيء.”
“كان ذلك عندما كنّا نحن الاثنان معًا.”
ابتسم كايران بلطفٍ قبل أن يواصل حديثه.
“إذا كنتِ ترغبين في الذهاب في رحلة، فمن الطبيعي أن أضع كلّ شيءٍ جانبًا وأرافقكِ. فقط نحن الاثنان. سأرتّب لكِ جدول الرحلة.”
الخلاصة كانت إما أن يرافقها كايران، أو لن يذهب أيٌّ منهما. لم يكن هناك خيارٌ آخر للموافقة.
خفضت لينوا رأسها، مُتجنبةً نظرات كايران.
كما قال، كان يقوم حقًا بعمل عشرة أشخاص، بل أكثر منها، هي الملكة. لكن في هذه اللحظة، لم تستطع منع شعورٍ ضئيلٍ بالاستياء تجاهه، لأنه كان يعمل بجدٍّ وحده.
كان ترك كايران خلفها بينما تذهب وحدها أمرًا يثقل كاهلها.
“حسنًا، إذن لنذهب معًا. شكرًا لقولكَ ذلك، صاحب السمو الدوق بلاندي.”
على الرغم من أنها أرادت قضاء بعض الوقت بمفردها مع زوجيّ الفيكونت، إلا أن كايران في النهاية سيرافقها. شعرت وكأنها حصلت على نصف الموافقة فقط.
“سأغادر الآن إذن.”
لكن بمجرد أن استدارت لينوا، أوقفها صوته.
“جلالتكِ، لحظة واحدة.”
تجمّدت في مكانها.
‘هل يمكن أن يكون قد غيّر رأيه؟ هل سيتراجع عن موافقته؟’
ارتبك قلبها بقلق، لكن بدلًا من ذلك، جاءها سؤالٌ غير متوقّع.
“لماذا تنادينني هكذا مُجددًا؟”
“مـ- ماذا تعني؟”
“أعني اللقب. لماذا تنادينني دائمًا بالدوق بلاندي، حتى عندما نكون وحدنا، بدلًا من اسمي كايران، كما فعلتِ خلال الاجتماع؟”
عندها فقط، استدارت والتقت نظراته، حيث ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ حزينة.
كانت لينوا دائمًا تشير إليه بلقب الدوق بلاندي، كما يفعل أعضاء البلاط بإضافة ‘صاحب السمو’. ولم تستخدم اسمه إلا إذا كان مقرونًا بلقبه.
بعبارةٍ أخرى، لم تناده باسمه الأول فقط من قبل، إلا ربما خلال اجتماع اليوم، وكان ذلك عن غير قصد.
“إذن… عندما نذهب إلى منزل الفيكونت، سـ- سأناديك باسمك.”
لم تكن حتى تعلم ما الذي كانت تقوله، قبل أن تندفع خارج المكتب بسرعة.
طقطقة.
أُغلِق باب المكتب. ومع تلاشي صوت خطواتها، استقرّت السكينة بسرعة.
عندها فقط، رفع كايران كُمّه الأيسر. أسفل معصمه مباشرةً، كان ضمادٌ أبيض، ملفوفٌ بإهمال، مُلوثًا بالدم الأحمر.
لحسن الحظ، لم تُلاحظ لينوا الجرح.
“بعد ثلاثة أيام… هل يجدر بي التطلّع إلى ذلك؟”
عند قدميه، كانت هناك شظايا زجاجيّةٌ متناثرةٌ في فوضى—بقايا الزينة التي لم يتمكّن الخادم من تنظيفها في عجلة رحيله.