الملكة المثاليّة وسكرتيرها - 2
الفصل 2: الضّيف غير المدعو
عند دخول غرفةٍ بها شخص، يعتبر الطرق قاعدةً أساسيّةً من آداب السلوك في جميع أنحاء البلاد. ولا يحتاج الأمر إلى ذكرٍ عندما يكون الشخص الموجود هو حاكم هذا البلد. لم تسمع لا لينوا ولا بيتيير أي إشارةٍ لوجود كايران.
“سمو الدوق الأكبر، أليس الطرق مسألة مجاملة؟”
“لقد أرسلتُ رسائلًا بشكلٍ مستمر، وبالتأكيد طرقتُ.”
حتى مع إضافة بيتيير القوّة في نبرتها أثناء استجوابها له، أجاب كايران بلا اكتراث. عند رؤيته، شعرت لينوا بشيءٍ يؤلم قلبها.
كان كايران أقرب مساعدي لينوا. ومع ذلك، كان من المعروف في البلاط أن لينوا كانت تُبقي مسافةً بينها وبينه. في الواقع، حتى عندما كان كايران يُرسل رسائل عدّة عبر بيتيير في اليوم، كانت ترفض دائمًا، إما بسبب انشغالها أو اختلاق أعذار.
من بعدها، أصبحت عادةً لكايران أن يزورَها دون سابق إنذار. وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن أمرًا كبيرًا نظرًا لعلاقتهما العامّة والخاصّة، كانت لينوا دائمًا تشعر بعدم الارتياح حوله.
وكان الأمر نفسه ينطبق على بيتيير، أقرب شخصٍ موثوقٍ به حقًّا، سواء في العلن أو في السّر. كانت بيتيير تساعد سيدتها لينوا بنشاطٍ لضمان عدم حصول كايران على فرصة أن يكون وحيدًا معها. وعلى الرغم من أنها كانت تقف في وجه دوقٍ كبير، يقترب كثيرًا من العائلة المالكة، إلا أنها كانت ابنة إحدى عائلات الماركيز.
“بالمناسبة… ما الذي جاء بكَ إلى جلالتها؟”
“أوه… بالطبع.”
ثبّت كايران نظره على لينوا ودخل بخطواتٍ ثابتة. كان الصوت أعلى بكثيرٍ مقارنةً بوجوده غير المسموع سابقًا.
مرّ بجانب الخادمة التي كانت جالسةً بجوار لينوا وكأنها غير موجودة، ثم ركع على ركبته أمام لينوا. مدّ يده اليمنى المكسوة بالقفاز الأبيض نحوها.
“سأرافقكِ إلى قاعة الطعام.”
كان كايران الآن يبتسم ابتسامةً ودّية. لم يكن هناك أيُّ أثرٍ للسّلوك البارد. بالنسبة للغرباء، قد يبدو أن لينوا قد طلبت المُرافَقة مسبقًا.
“…لا بأس. يمكنني الذهاب مع بيتيير.”
بدلاً من أن تأخذ يد كايران أمامها، وضعت لينوا يديها على يدَي بيتيير بجانبها.
لم تستطع لينوا أن تكون حاسمةً مع كايران. كان دائمًا طاغيًا، ولم تستطع أبدًا فهم سبب تصرّفه بهذا الشكل.
في الماضي، لم يصعد كايران إلى العرش بسبب عدّة عوامل. بدلاً من أن يكون الحاكم، بقي في القصر وعمل بجانب لينوا.
لم يكن هذا أمرًا غير معتاد. على الرغم من أن كايران كان قد حصل على لقب دوقٍ كبير، إلا أنه لم يكن من دمٍّ ملكي، لذا كان المنصب الأقرب للحاكم مناسبًا له.
لم تكن لينوا ترغب في أن تكون خليفةً أو ملكة، لكنها في النهاية قبلت بهذا الأمر. إذا رفضت، فسيكون الأمر وكأنها خذلت القوى التي دعمتها طوال الوقت، والأشخاص الذين أرادوا لها أن تخلف العرش أكثر من أيّ شخصٍ آخر هم والديها. على الرغم من أنها كانت ملكةً مضطرّةً لخوض أنواعٍ من الصراعات السياسيّة غير العنيفة، إلا أن حُبّ والديها لها جعلها شخصًا دافئًا يعرف كيف يفكّر في الآخرين أكثر من نفسها.
على أي حال، الشخص الذي فاز في المنافسة على العرش لم يكن كايران، بل هي. لذلك لا بد أنه كان غاضبًا منها. حتى أنها فكّرت في التنازل عن العرش، لكن في هذه المرحلة، كان التنازل سيؤدي فقط إلى إثارة الرياح التي بالكاد استقرّت في سيليستا مرّةً أخرى. علاوةً على ذلك، قضت وقتًا في دراسة أمور الخلافة، وأصبحت مهاراتها في الحكم تتحسّن يومًا بعد يوم.
ربما كان من الطبيعي أن يشعر كايران بالاستياء من لينوا. ومع ذلك، كان يتطوّع دائمًا لمرافقتها وكان يبحث عنها دون استثناءٍ كل يوم.
كانت لينوا تجد محاولات كايران المستمرّة للتقرّب منها عبئًا.
“لقد سئمتُ من تجاهلكِ لي طوال اليوم.”
“…”
“من أنا بالنسبة لكِ، جلالتكِ؟ من فضلكِ فكّري في الأمر.”
كانت لينوَا وكايران لا يفترقان. كان الأمر كما لو أن حبلًا طويلًا وقويًّا يربطهما معًا من خلال منصبيهما.
توقّفت لينوا للحظةٍ للتفكير وهي تواجه كايران الذي كان ما زال يمدّ يده. كما قال، رفضت جميع طلباته الثلاثة للقاء اليوم، باستثناء وجبتَي الإفطار والغداء. وكان ذلك بفضل بيتيير إلى حدٍّ كبير.
ومع ذلك، مهما كانت كراهيتها له على الصّعيد الشّخصي، فإنه كان سكرتيرها في الأمور الرسميّة. كان من الطبيعي تمامًا أن تعقد اجتماعاتٍ مع سكرتيرها. التعامل مع الأشخاص الذين لا تروق لهم كان شيئًا ستواجهه كثيرًا كملكة. وقد تعلّمت من الكتاب على الطاولة أن ذلك كان جزءًا من واجبات الملكة.
“إذن… من فضلكَ.”
في النهاية، رفعت لينوا يدها بلطفٍ وأخذت يد كايران، مُغادِرةً الغرفة معًا ومتجهين إلى غرفة الطعام في الطابق الأول.
طوال الرحلة، كان قلب لينوا يرتجف. كان تمسك الأيادي مع شخصٍ تجده غير مريح، ومع العلم أنهما سيشتركان في العشاء معًا بمجرد وصولهما إلى غرفة الطعام، كان أمرًا غير مريح. وجبات العائلة المالكة عادةً ما تكون مشتركةً مع المساعدين المُقرّبين مثل السكرتير.
كانت خطوات الاثنين، عندما وصلا إلى الطابق الأول، تملأ الردهة المظلمة. حالما وصلا، ودون وجود أي شخصٍ آخر حولهم، كسر كايران الصمت فجأة.
“جلالتكِ.”
تراجعت لينوا قليلاً، كأنها على وشك ترك يد كايران. ولكن، شدّ هو قبضته كما لو أنه لن يتركها.
“كما قلتُ سابقًا، أنا أقرب شخصٍ إليكِ، جلالتكِ.”
“…..”
“رجاءً، امتنعي عن تجنّبي دون تفكير.”
كان أمرًا لا يمكن لأي شخصٍ غبيٍّ أن يتجاهله، بالنظر إلى تصرّفات الخادمات، وفوق كل ذلك، سلوك لينوا. ردّت لينوا بالصمت.
وأخيرًا، وصلوا إلى غرفة الطعام، التي بدت أكثر بُعدًا اليوم. داخل الغرفة، كان الطعام الفاخر الذي أعدّه الشيف الملكي للعائلة المالكة موضوعًا على طاولةٍ مستطيلةٍ طويلة. كانت المكوّنات وطرق الطهي من أعلى مستويات الجودة، حقًا أروع وليمةٍ في البلاد.
ومع ذلك، وحتى مع وجود هذه الأطباق الفاخرة أمامها، لم تشعر لينوا بالجوع. حتى بعد أن جلسها كايران ودفع كرسيها، لم تستطع أن تلتقط أدوات الطعام فورًا.
“جلالتكِ؟”
لینوا، التي كانت غارقةً في أفكارها وهي تحدّق في الطعام، استفاقت أخيرًا على صوت كايران. تقليديًّا، لا يمكن للمرء أن يلتقط أدوات الطعام حتى يفعل شخصٌ من رتبةٍ أعلى. وبما أنها كانت بمفردها معه، كان يتعيّن على لينوا أن تتّخذ المبادرة. تنهدت وأخذت الشوكة برفقٍ بيدها المتعبة.
“هل يجب أن ألتقط لكِ الشوكة؟”
“أوه، لا.”
“أنا لست خادمتكِ.”
تعثرت لينوا في كلماتها، وشعرت بمزيدٍ من الإرهاق. إذا كان أحدٌ قد شاهد هذا، لكان قد أصبح قصّةً مسليّةً وراء ظهرها.
وأخيرًا، بدأ العشاء غير المريح. ومع ذلك، على الرغم من تنوّع الأطباق الفاخرة، كان المشد الذي كانت ترتديه يسبب لها ألمًا في بطنها، ولم تستطع أن تأكل كثيرًا.
علاوةً على ذلك، كانت تشعر بتعبٍ غير عادي في جسدها اليوم.
‘لا أشعر برغبةٍ في تناول الطعام…’
لكنها لم تستطع التعبير عن هذا بصراحةٍ له. قد ينزعج.
“أليس لديكِ شهية؟”
كان دائمًا كايران من يكسر الصمت. كان قد وضع أدواته جانبًا وراح يستند بذقنه على يده، مُراقبًا لينوا.
فوجئت لينوا بالنظر في عينيه عندما رفعت رأسها. حتى بعد بدء العشاء، كانت تلتقط بعضًا من السلطة الأقرب إليها.
اليوم، كان جسدها يشعر بالخمول أكثر من المعتاد، ولم تستطع أن تذكر شعورها بالمرض بسبب اجتماع الغد. كانت أفكارها أيضًا مضطربة، مما جعلها ترفض جميع طلبات كايران للقاء، التي كانت عادةً ما تقبلها مرّةً واحدةً على الأقل.
مع تدهور حالتها الجسديّة والنفسيّة، ونظرات كايران التي جعلت من الصعب عليها تناول الطعام، قررت أن تتخطّى العشاء تمامًا. كانت تُخطّط لاستخدام هذا الوقت لمراجعة ما لم تتمكّن من مراجعته في وقتٍ سابق.
“سأغادر الآن. من فضلك، خذ وقتكَ في تناول الطعام.”
بالضبط عندما كانت لينوا على وشك النهوض.
“من فضلكِ انتظري لحظة.”
أمسك كايران بذراعها بقوّة.
‘لم أتوقّع أن يوقفني…’
جلس كايران، وأعاد لينوا المتصلّبة إلى مقعدها.
“ما لم تتحدّثي، جلالتكِ، سيكون من الصعب عليَّ أن أفهم نواياكِ.”
ثم أخذ كايران طبقًا وقدّمه لها. كان بودنغ ليمون لذيذ مع الكرز الأحمر في أعلاه، قُدِّمَ كتحلية.
كانت هذه الأكلة المفضلة لدى لينوا. منذ أيامها كأميرة، كانت دائمًا تأكلها أولاً خلال الوجبات، مما كان يجعل والدتها تعاتبها على تناول الحلوى أولًا. كانت تحبّها حينها، وما زالت، لذلك كان الطهاة الملكيّون يحرصون دائمًا على تضمين بودنغ الليمون في وجباتها، حتى وإن تغيّر أفراد الطاقم.
على الرغم من أنها لم تلمسه بسبب ظروفٍ مختلفة، كان البودينغ الأصفر الناعم، الذي يذكّرها بلون شعرها، حامضًا وحلوًا بما يكفي لاستعادة شهوتها للطعام المفقودة.
عادت لينوا لتمسك بالشوكة مرّةً أُخرى.
“من فضلكِ لا تقومي حتى تنتهين من هذا.”
بمجرد أن أنهى كايران حديثه، غرزت لينوا الشوكة في البودينغ بسرعةٍ وأخذت قضمة. كانت تنوي أكله بسرعةٍ والمغادرة أولًا.
“….”
بدلاً من مراقبة لينوا وهي تأكل البودينغ بسرعة، حوّل كايران نظره إلى مكانٍ آخر. كان يعلم أنها كانت تشعر به أثناء تناولها الطعام.
بعد فترةٍ قصيرة، غادرت لينوا غرفة الطعام وكأنها تهرب.
تابعها كايران بنظره.
‘كان يجب أن أعطيها طعامي أيضًا. حينها كانت ستبقى لفترةٍ أطول.’
وحده في غرفة الطعام، نظر كايران إلى بودنغ الليمون.
كان بودنغ الليمون أيضًا طعامه المفضل. كان يذكّره بلينوا التي اختفت. ليس فقط لون شعرها، بل الطعم الحامض الحلو، وحتى الكرز الصغير على أعلاه.
“……”
كان كُلٌّ من البودينغ والباب يذكّره بلينوا لدرجة أنه كان يشعر بالجنون.
‘على الرغم من أنها رفضت جميع طلباتي للاجتماع، كانت ودودةً للغاية مع تلك الخادمة. هل شعرَت بغضبي القبيح الذي بدأ يظهر؟ هل لهذا السبب هربت مني دون أن تنظر إلى الوراء؟’
تأثّر كايران بمشاعرٍ حارقة، فامسك بالطبق بإحكام بيده المُرتجفة. كان على وشك رميه على الأرض.
كان لديه لحظاتٌ كهذه كثيرًا. حتى قبل أن يلتقي بلينوا لأوّل مرّة، لا بل منذ قبل ذلك. كان يعاني من أعراض رمي الأشياء بشكلٍ متهورٍ أو عدم القدرة على النوم بشكلٍ طبيعي في الليل. هذا جعله شخصًا أكثر صعوبةً في التعامل معه.
وكان هذا شيئًا لم تعرفه لينوا، التي كانت معه حتى لحظةٍ مضت.
كان كايران على وشك رفع الطبق بكل قوّته عندما سقطت نظرته فجأةً على كرسي لينوا. كان هناك شيءٌ ما. فحص الكرسي بسرعة.
‘آه… لا.’
شعر كايران وكأن قلبه قد توقّف للحظة.
كانت هناك قطراتٌ حمراءٌ من الدم على الأرض بالقرب من كرسي لينوا، تتجه نحو الباب.