الطفلة المجنونة تعبث بالأرجاء - 1
__الفصل 1__
“يا إلهي! أنظروا إلى سمو الأميرة!”
“كيفَ لها أنْ تجلِسَ هكذا، بهذه الهيئةِ المُثيرةِ للشفقةِ؟”
كانَتِ الخادماتُ يتهامسنَ من خلفي، يُلقينَ بتعليقاتِهنَّ حولَ جلستي، غيرَ مدركاتٍ أنَّ آذانِي تلتقطُ كلَّ كلمةٍ ينطقنَ بها.
لكن، أكانَ بوسعِهِنَّ إدراكُ ذلكَ أصلًا؟ فأنا لستُ مجرَّدَ بشريَّةٍ ضعيفةٍ، بلْ أنا تنِّينٌ عظيمٌ! وصدى الهمساتِ الواهنةِ لا يُخفى عنِّي بحالٍ.
“كثيرًا ما يعتصرُ قلبي حُزنًا كلَّما نظرتُ إلى سمو الأميرة.”
“وكأنَّنا نستطيعُ تقديمَ شيءٍ لها…أتمنَّى لو كنَّا نُحسنُ إسعادَها.”
‘اخرسنَ…لا حاجةَ لي بِعطفِكنَّ المُزيَّفِ.’
“لكنَّها صاحبةُ طبعٍ نزقٍ… شديدةُ السُّوءِ في المعاملةِ!”
“بمجرَّدِ أنْ نقتربَ، تأخذُ بالصُّراخِ علينا بلا هوادةٍ!”
صحيح، إنَّ لي طبعًا حادًّا…أو لعلِّي يجبُ أنْ أقولَ: إنِّي صاحبةُ روحٍ مُتمرِّدةٍ؟
حسنًا، يبدو الأمرُ وكأنَّهُ إهانةٌ في حقي!
استدرتُ فجأةً، وحدَّقتُ بالخادماتِ بعيونٍ ضيِّقةٍ متَّقدةٍ، ثمَّ رفعتُ إصبعينِ إلى عينيَّ، قبلَ أنْ أوجِّههما إليهنَّ في تحذيرٍ واضحٍ:
“كُفُفْنَ عنَ الهمسِ، فآذانِي تسمعُ كُلَّ شيءٍ!”
“هَااهْ!”
اتَّسعتْ أعينُ الخادماتِ في فزعٍ، ثمَّ خفضنَ رؤوسَهنَّ والتزمنَ الصَّمتَ، غيرَ أنَّ بعضَهُنَّ واصلنَ التهامسَ، وكأنَّما يتساءلنَ فيما بينهنَّ:
“كيفَ لها أنْ تسمعَنا بهذهِ الدِّقَّةِ؟”
“أترى سمعَها خارقٌ إلى هذا الحدِّ؟”
أَأيُّها البشرُ الجُهَّالُ، لا تَغفَلُوا عن حقيقةٍ عظيمةٍ: أنا تنِّينٌ أسودٌ جليلُ الشأنِ!
أفترضونَ أنْ تعجزَ آذانِي عنْ التقاطِ وشوشاتِكنَّ السَّاذجةِ؟
لكن…
‘تبًّا…’
مهما ادَّعيتُ، فالواقعُ أنَّني الآنَ مجرَّدُ طفلةٍ صغيرةٍ لمْ تتجاوزِ الخامسةَ من عمرِها!
لذا، لا طائلَ منَ الحديثِ، فمجردُ التنفس والوقوف بهدوء لنْ يُغيِّرَ شيئًا.
أطلقتُ زفرةً متأفِّفةً، ووجَّهتُ نظري بعيدًا، محدِّقةً بثباتٍ عبرَ النَّافذةِ، أترقَّبُ وصولَ ذاكَ الرَّجلِ اللَّعينِ.
“يا إلهي!”
“سمو الأميرة! لقدْ وصلَ سيِّدُنا!”
بمجرَّدِ أنْ خطرتْ الفكرةُ ببالي، حتى تعالى ضجيجُ الخدمِ، معلنينَ عنْ قدومِهِ.
قفزتُ منْ موقعي على الفورِ، وسرتُ بخُطىً سريعةٍ نحوَ النافذةِ، حيثُ وقعتْ عينيَّ على ذلك الرَّأسِ، المُتَّشِحِ بخصلاتٍ ذهبيَّةٍ برَّاقةٍ، تتألَّقُ تحتَ أشعَّةِ الشَّمسِ.
كانَ رجُلًا ذا ملامحَ منحوتةٍ، كأنَّهُ خرجَ لتوِّهِ منْ إحدى الأساطيرِ، وجسدٍ مُحكَمِ البنيانِ، يسيرُ بخُطىً واثقةٍ، مستندًا على عصًا خشبيَّةٍ بيدهِ اليُسرى.
قدْ يلاحظُ ذوو البصيرةِ الحادَّةِ أنَّهُ يعرُجُ قليلًا في ساقِهِ اليُسرى، لكنَّهُ بالكادِ يظهرُ جليًّا للنَّاظرِ العاديِّ.
كانَتْ عينيَّ مُثبتَتَيْنِ عليهِ، تُراقبانِ كُلَّ حركةٍ منْ حركاتِهِ، كأنَّما أترصَّدُ خُطواتِ عدوِّي اللَّدودِ.
“ما أرقَّ سمو الأميرة! ييُخيَّلُ إليَّ أنَّها تُكِنُّ لصاحبِ السَّيادةِ محبَّةً جمَّةً!”
محبَّة؟! بلْ مقتٌ أشدُّ منَ السَّمِّ الزُّعافِ!
“آهٍ…كمْ أنَّها مسكينةٌ…”
لا تُشفِقوا علَيَّ! بلِ احذَرُوا غضبي، فقدْ بلغَ أقصاهُ!
أتساءلونَ لمَ يغلي الدَّمُ في عروقي هكذا؟
أليسَ الأمرُ جليًّا؟
“سمو الأميرة، لقد وصلَ البطلُ المُقدَّسُ!”
إنَّهُ ذاتُهُ اللَّعينُ الذي وضعَني في قيدِ
الأَسرِ، وخَتَمَ قُوَّتي العُظمى!
لكنَّ هذا ليسَ كُلَّ شيءٍ…
“هيَّا بنا لنُلقِي التَّحيَّةَ، فقدْ عادَ والدُكِ إلى الدَّارِ!”
ما يُثيرُ السُّخريةَ أكثرَ…
هو أنَّ هذا البطلَ اللَّعينَ، هو نفسُهُ أبي!
“لنْ أذهبَ! حتَّى لوْ ماتَتْ روحي
ألفَ مرَّةٍ، فلنْ أذهبَ! كلاااا!”
غضبٌ جامحٌ يتملكني، كأنَّهُ بركانٌ على وشكِ الانفجارِ!
***
أنا تنِّينةٌ.
أتدرونَ ما معنى أنْ أكونَ تنِّينًا؟
هذا يعني أنَّني إحدى أندرِ الكائناتِ في هذا العالمِ، واحدةٌ منْ بينِ خمسةِ تنِّانينَ فقط! أليسَ هذا مذهلًا؟
لكنَّ الأمرَ لا يتوقَّفُ عندَ هذا الحدِّ…
بلْ أنا لستُ مجرَّدَ تنِّينةً منَ الخمسةِ العُظماءِ، بلْ أنا خَارِجُ النِّظامِ بأسرِهِ!
تنِّانُ العالمِ الخمسةُ خُلِقوا منْ شظايا مقدسة، وصارَ كلٌّ منهمْ حاميًا لإحدى الإمبراطوريَّاتِ.
أمَّا أنا… فلمْ أولدْ منْ شظيَّةٍ مقدسةٍ، ولا أحدَ يعلَمُ كيفَ نشأتُ أصلًا! لذا، لمْ أكُنْ حاميةً لأحدٍ، بلْ كنتُ… كارثةً.
كارثةٌ لا يُمكنُ إيقافُها.
أنا الكارثةُ العُظمى، سيلُوس!
حيثُما حللتُ، لمْ يَبْقَ شيءٌ على قيدِ الحياةِ، ولمْ يستطعْ أحدٌ الوقوفَ في وجهي.
حاولَ البشرُ، وحاولتِ الأعراقُ غيرُ البشريَّةِ، بلْ حتَّى التَّنانينُ الخمسةُ أنفسُهمْ، إيقافِي، لكنْ عبثًا جاهدوا، فلمْ يكنْ لجهودِهمْ نفعٌ ولا طائلٌ.
كنتُ الكارثةَ ذاتَها، كما يُنطقُ اسمي، كما خُطَّ قدَري.
لطالما اعتقدتُ أنَّني سأظلُّ أعيشُ كما كنتُ، لا شيء يقفُ في وجهي، لا قوَّةَ تُعارضُني، ولا سلاحَ يمسُّني بأذى.
حتَّى ظهرَ ذاكَ البطلُ اللَّعينُ…هيروس أَكيون.
“متِّ أيَّتها الكارثةُ اللَّعينة!”
يا لسخافةِ البشرِ! ما كانَ يظنُّ هذا الفتى
الواهنُ أنَّهُ سيفعلُ بي؟
ظننتُهُ مثلَ غيرِهِ، سيهجمُ قليلًا، ثمَّ يدركُ عبثَ محاولاتِهِ، فيهربُ يائسًا.
لكن…
“آهغ!”
لمْ يكنْ كما ظننتُ.
كانَ قويًّا…أقوى ممَّا تخيَّلتُ.
“انتظرْ! لحظةً فقط، أيُّها البطلُ! دَعْنا نتحدَّثْ!”
“موتي فحسب!”
كانَ سريعًا… بلا تردُّدٍ، بلا تهاونٍ… ومباشرةً، غرسَ سيفَهُ في عينِي اليُسرى.
هناكَ… حيثُ يكمنُ لبُّ طاقتي.
كيف؟! كيفَ عرَفَ هذا؟!
لمْ يكنْ هناكَ أحدٌ يعلمُ أنَّ لبِّي، مركزَ قُوَّتي، يكمنُ في عينِي اليسرى. فكيفَ توصَّلَ إلى هذا؟!
حاولتُ أنْ أقاومَ، لكنْ، جسدِي أخذَ في الانهيارِ… ركبَتايَ خانتَانِي، شفتايَ أُطبِقَتا، جناحايَ تهاويا مثقوبَيْنِ، وعجزتُ عنِ الطيرانِ منْ جديدٍ.
“لقدْ كانَ نزالًا شاقًّا…”
قالَها البطلُ، وهو يُشهرُ سيفَهُ نحوي، كأنَّهُ يعلنُ نهايتي.
“آنَ الأوانُ لوضعِ حدٍّ لهذهِ الكارثةِ.”
‘لا…لا يمكنُ أنْ ينتهيَ أمري هنا! ليسَ الآن!’
“آغههااااكههه!!”
لقد بذلتُ ما تبقّى لي من قوّة، متخبّطةً في جنون يائس، لكن البطل، وقد أنهكه القتال الطويل، لم يجهز عليّ. بدلًا من ذلك، اختار طريقًا آخر.
ــ لن تستيقظي ألف عام.
ثمّ حبسني في قيودٍ أزلية، لا فكاك منها.
ــ وحين تفتحين عينيكِ مجددًا، سيكون أحد أحفادي في انتظاركِ، ليزهقَ روحكِ بلا رحمةٍ.
ــ سأقتلكَ، أيها البطل! سأمزقك إربًا! أقسم بدمائي أنّني سأقتصّ منك!
لكنّ صيحاتي لم تصل إليه قطّ، إذ أُغلِق السجن الأبديّ من حولي، وطُمِست كلماتي في العدم.
لِمَ؟
ما جريمتي بحقّ السماء؟
لأنني وُلدتُ كارثةً؟
لأنّ نبوءةً غبيةً قالت إنني سأجلب الخراب لهذا العالم؟
أأنا اخترتُ قدري؟ أأنا صنعتُ ذاتي؟
آهٍ…ما أظلمه من مصير! ما أشدّ حنقي على هذا الكون بأسره!
هكذا تردّد صراخي في الفراغ، صدى بلا مجيب، حتى أُسدل السكونُ الجاثم على كياني، فاستسلمتُ لظلامٍ لا نهائي.
كنتُ واثقةً أنّني سأظلّ رهينةَ هذه العتمة ألف عام…
لكن…
“…”
“أيتها… الأمــيـ…رة؟”
حين فتحتُ عينيّ، لم أجد سوى قاعة جنائزية، تعلوها أجواء الكآبة.
وما زاد الدهشة؟
أنني كنتُ مستلقيةً في نعش!
“سـ… سـيدتي الصغيرة قد عادت للحياة!”
“أسرعوا! استدعوا الطبيب في الحال!”
لقد بُعثتُ في جسد طفلةٍ ميتة.
“سيدي صاحب الجلالة! لقد عادت الأميرة الصغيرة للحياة!”
طفلةٍ…لم تكن سوى ابنة البطل اللعين نفسه!
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي
حساب الواتباد الجديد قريبا هتلاقو أحدث الفصول لكل رواياتي عليه♡!
اسم الحساب:
Kariby998@