الطفلة التي تُخفي قوتها تبحث عن والدها - 05
انتابت باستو فايريكس موجة من الأسئلة المتلاحقة التي شقت طريقها في عقله، مثل علامات استفهام متتالية تتجلى أمامه.
ما هي احتمالية أن تدخل طفلة صغيرة إلى غابة يعجّ الليل فيها بالوحوش المفترسة؟
وما هي احتمالية أن تكون هذه الطفلة بالذات هي من تقع في الفخ الذي نصبه بنفسه؟
ثم، الأكثر غرابة من ذلك…
“عـ… عمي، شـ… شهيق! أنا… أنا… شهيق! بخير! لا تقلق!”
ما هي احتمالية أن تكون هذه الطفلة لا تبكي ولا تشكو، بل تُطمئنه بأنها بخير؟
“… يا للعجب.”
الأمر كان غير معقول.
لم يكن الخطأ منه، بل من هذا الموقف الذي فاق حدود المنطق.
باستو، الذي كان منهمكًا في إزالة الشبكة عن الأرض، انحنى لينظر للطفلة، وهو يزم شفتيه بانزعاج. ما أن لاحظت الطفلة حركته حتى ارتعدت في مكانها.
“أنتِ…؟”
“أنا بخير! شهيق! صدقًا، صدقًا، أنا بخير! شهيق!”
نظر باستو إلى الطفلة بحيرة، وهي تكرر الكلمات نفسها بارتباك، دون أن تجرؤ على النظر في عينيه، بينما قبضت على يديها بقوة.
أخيرًا، لم يتمالك نفسه وسألها:
“أين والداكِ؟”
كانت تبدو في الثالثة أو الرابعة من عمرها بالكاد.
لذا من غير الممكن أن تكون قد أتت إلى هذه الغابة وحدها. بالتأكيد كانت برفقة والديها.
“أبي… شهيق! قريب جدًا…!”
تمامًا كما توقع.
أومأ باستو برأسه
“إذن هو قريب؟”
“نـ… نعم! لو صرخت الآن، شهيق! سيأتي بسرعة… بسرعة جدًا، لأنه قريب جدًا!”
بالطبع.
لقد أدرك أن الأطفال في هذا العمر غالبًا ما تكون لديهم فضولية مفرطة.
حتى مع رقابة الأهل، من السهل أن يضيعوا عن أنظارهم للحظات.
خرجت ضحكة قصيرة من باستو
“طفلة شجاعة حقًا.”
إذا كان والدها قريبًا بالفعل، كان من الأفضل أن تناديه ليأتي ويأخذها.
لكنها، بدلًا من ذلك، ظلت تشهق وتطمئنه، مما جعله يشك أكثر في أنها قد أسيء فهمه كخاطف أو شخص خطر.
بابتسامة ساخرة، حاول التخفيف من حدة الموقف قائلًا:
“لو كنتِ عالقة في الشبكة، لماذا لم تبكي بصوت عالٍ؟”
“هـ… ههق.”
“بإمكانك البكاء الآن. لنرى إن كان والدكِ سيأتي.”
لكن، على عكس المتوقع، أغلقت الطفلة فمها بشدة.
ثم…
“هـ… ههق… أنا حقًا… لا أكذب!”
بدأت عيناها تسكبان الدموع مثل حبات لؤلؤ تتساقط بلا توقف.
حدّق باستو بها بذهول.
في البداية لم تبكِ عندما كان البكاء متوقعًا، لكن الآن، بعد أن حاول مساعدتها، بدأت في البكاء بشكل مُربك.
“… لماذا تبكين؟”
“وووواااه!! أنقذني!! أنقذني!!”
حاول باستو أن يخطو نحوها لتهدئتها، لكنها انفجرت في البكاء بصوت أعلى، وكأنها على وشك فقدان الوعي.
توقف في مكانه
“ما الأمر الآن…؟”
ثم، فجأة، أدرك.
لقد تذكر هيئته الحالية.
كان رأسه مغطًى بدماء الوحوش المتجمدة منذ الليلة السابقة، ورائحته كريهة لدرجة يصعب تجاهلها بسبب قلة النظافة.
كما أنه ظهر أمامها بشكل مباغت وهو يتفقد فخًا، فليس من الغريب أن تعتبره تهديدًا.
“ووواااااااه! أنقذني! أنقذني من الوحش!!”
شعر باستو بإحباط، فأخذ يبعد نفسه بضع خطوات للخلف ليخفف من خوفها.
رأى الطفلة تتوقف قليلًا، تحدّق فيه بارتباك وهي تُراقب تحركاته.
استغل ذلك، وألقى السلاح الذي كان في حزامه على الأرض بجوار الشبكة، قبل أن يبتعد أكثر.
“هـ… ههق… الوحش الكبير…”
كانت الطفلة تنظر إلى باستو وهي تشهق برفق، تضم حقيبتها الوردية الصغيرة إلى صدرها بإحكام.
“سأبقى هنا، اذهبي أنتِ إلى والدكِ.” قال باستو بصوت هادئ.
حدّقت الطفلة فيه بعينين مرتابتين وهي ترمش بسرعة.
“هيا، اذهبي إلى والدكِ. ألم تقولي إنه قريب؟”
ترددت الطفلة قليلًا، تلمس حقيبتها بيدين صغيرتين، ثم سألت بصوت منخفض كأنه يخرج من أعماق خوفها:
“لـ… لن تأتي لتلاحقني، صحيح؟”
أطلق باستو تنهيدة خفيفة، وأجاب وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا قدر الإمكان:
“لماذا سألاحقكِ؟”
“لأنك خاطف…”
شعر باستو بالإحباط، لكنه رد ببرود: “أنا لست خاطفًا. كنت أبحث عن أرنب لأكله لأنني جائع.”
بدت الصدمة أكبر على وجه الطفلة، لكنها بعد لحظات نهضت ببطء وبحذر، وبدأت ترتدي حقيبتها الصغيرة.
فكر باستو وهو يراقبها
“ربما ينبغي أن أتبعها عن بعد.”
لم يكن مطمئنًا إلى أنها ستجد والديها بسهولة، وخصوصًا قبل أن يحل الظلام. كان عليه أن يراقبها حتى تصل بأمان، وإلا ستصبح المشكلة أكبر.
“اسرعي واذهبي إلى والدكِ. البقاء هنا وحدكِ خطر.”
أومأت الطفلة برأسها بخجل، ثم بدأت تركض بين الأشجار بخطوات صغيرة.
لكنها لم تبتعد سوى ثلاث خطوات قبل أن تسقط على الأرض.
“آه!”
رفعت رأسها وهي تشهق بالبكاء، ثم استدارت لتلتقي نظراتها مع باستو الذي كان يقف متجمدًا في مكانه.
بقي ينظر إليها بصمت، متوترًا. كانت تمسك بكاحلها الصغير، وشفتيها ترتجفان وكأنها على وشك أن تذرف المزيد من الدموع.
وأخيرًا، جاء صوتها المحبط:
“عـ… عمي…”
توقف للحظة، ثم سمع ما جعل قلبه يغوص:
“أستـ… آقدم تيي تؤلمها…”
—
بعد لحظات كان باستو يربط كاحل الطفلة برباط طبي. بينما كانت هي تنظر إليه بفضول.
“عمي، هل الأرانب لذيذة؟”
رفع باستو رأسه نحوها وقال: “نعم.”
اتسعت عينا الطفلة بدهشة. “ما طعمها؟ هل يشبه طعم البقر؟”
“جميع اللحوم لها الطعم نفسه.”
هزت رأسها اعتراضًا. “لا، لا! طعم الخنازير مختلف عن البقر، وطعم الدجاج مختلف أيضًا!”
ضحك باستو قليلًا وهو يجيبها:
“الحديث عن اللحوم… تبدين وكأنك من عائلة نبيلة.”
لكنه شعر بعدم الراحة عند التفكير في وجود طفلة وحدها في هذه الغابة النائية. وزاد قلقه أن والدها، الذي يفترض أنه قريب، لم يظهر حتى الآن.
“أين والدكِ؟ ألم تبكي بصوت عالٍ قبل قليل؟”
سألها بحذر خوفًا من أن تعود للبكاء، لكنها لم تجب مباشرة. كانت تنظر إليه بخجل واضح، وكأنها تحاول قراءة أفكاره.
لطمأنتها، أضاف: “إذا أخبرتني أين والدكِ، سأوصلكِ إليه بنفسي.”
ضغطت آستي شفتيها، وبدأت تحرك يديها الصغيرة التي تحمل حقيبتها.
“في الحقيقة… أبي في العاصمة…”
رفع باستو حاجبيه بصدمة
“العاصــــــمة؟”
أومأت برأسها.
خرجت من بين شفتيه تنهيدة.
كانت تعتقد أن والدها قريب، لكنها الآن تقول إنه في العاصمة؟
“لماذا قلتِ إن والدكِ قريب؟”
أجابته بصوت منخفض
“لأنني لو قلت إنه بعيد، كنت ستخطفني…”
“وإذا كنتِ تخافين مني، لماذا قلتِ إنكِ بخير في البداية؟”
“لأن معلمتي في الحضانة قالت ألا أستفز الخاطفين…”
عمّ الصمت بينهما. نظر باستو إلى الطفلة، عاجزًا عن إيجاد كلمات مناسبة، بينما اقتربت منه وكأنها تكشف له سرًا كبيرًا.
“عمي، إذا صادفتَ خاطفًا، لا تقل ‘أرجوك دعني أعيش!’ هذا خطر جدًا.”
“ولماذا ذلك؟”
“لأن استفزاز الخاطف يجعله أكثر غضبًا! يجب أن تتحدث معه بهدوء وتعرف طلباته، ثم تبحث عن فرصة للتفاوض.”
شعر باستو بالعجز عن الرد.
أجابها أخيرًا بنبرة جافة
“أنا لا أحتاج لذلك.”
ردّت الطفلة بدهشة
“لماذا؟”
ابتسم وهو يشير إلى مظهره الموحش
“من برأيك سيجرؤ على اختطافي؟”
نظرت إليه بعيونها الخضراء المتلألئة، تتأمل رأسه الملطخ بدماء الوحوش ولحيته الكثيفة وجسده الضخم. بدت وكأنها تفهمت الأمر تمامًا، وأومأت برأسها.
لكن الغريب أن تلك الإيماءة جعلت باستو يشعر بشعور غير مريح.
“ها قد انتهيت.”
قال وهو ينهي ربط الرباط الطبي حول كاحلها.
نظرت آستي إلى قدمها الملفوفة بدهشة، ثم رفعت رأسها إليه بابتسامة صغيرة.
وقف باستو ونظر إلى الشمس التي بدأت تغيب ببطء.
“العاصمة، إذن.”
كانت الطفلة مصابة، وأصبحت الخيارات محدودة. ظلام الليل سيجعل الوضع أكثر خطورة.
ثم ألقى نظرة على حقيبتها الوردية الصغيرة.
كانت مرتبة بشكل ملحوظ، مما يشير إلى أنها تنتمي لعائلة جيدة، بل ربما نبيلة. بدا أنها تلقت تربية محبة وعناية كبيرة.
اتخذ باستو قراره.
“ستذهبين معي إلى العاصمة.”
التفتت آستي إليه بعينين متسعتين، وشعر هو بضيق غريب في صدره وهو يرى تلك النظرة.
في زمنٍ مضى، كان لديه أيضًا طفلٌ دعا من أعماق قلبه أن يعود سالمًا إلى أحضانه.
لكن ذلك الطفل رحل إلى مكانٍ لم يعد بإمكانه الوصول إليه الآن.
قال باستو بصوتٍ يحمل شيئًا من الحنين:
“تخيلي كم والدكِ ينتظر عودتكِ بفارغ الصبر.”
عندها، ارتسمت على شفتي آستي ابتسامة مشرقة كأنها شعاع من النور.