الطفلة التي تُخفي قوتها تبحث عن والدها - 03
جلست آستي، مستندة بظهرها إلى الحائط، وضمت ركبتيها بين يديها بإحكام.
منذ قليل فقط، كانت تنظر بخوف إلى الحجر الأسود الذي يحدق بها. لكنها الآن، وقد جمعت شجاعتها، واجهته بنظرات ثابتة دون أن تشيح بوجهها.
في البداية كانت خائفة، لكن كلما أطالت النظر، ازدادت يقينًا.
“إنه… تانيــــــبانغ”
كان يتحول ويتلاعب بالسحر، تمامًا كما سمعت في القصص. صحيح أن شكله مختلف قليلًا، لكنه بلا شك تانيبانغ.
استجمعت تيي شجاعتها، وتحركت بخطوات صغيرة على الأرض مقتربة من الحجر، ثم بدأت تحدق فيه بتمعن، ملاحظتها تتسع مع كل لحظة.
“من رأسه إلى أخمص قدميه… كل شيء فيه أسود.”
كانت دقات قلبها تتسارع. ربما… ربما كانت كلمات والدها عن العالم الآخر حقيقية.
ماذا لو كان والدها حقًا فارسًا مقدسًا، كما أخبرها؟ ماذا لو كان قد رافقه جنّي، والآن جاء هذا الجني لإنقاذه؟
“كامــــنغبانغ…”
تمتمت تيي بالكلمة بصوت حالم، ليحرك الحجر رأسه وكأنه يجيب.
عندها، تقدمت تيي بخطـــوة جريئة، وتوسلت بصوت مرتجف:
“رجاءً، أنقذ أبي!”
اقتربت أكثر على ركبتيها، ورفعت كفيها الصغيرتين بتضرع.
“يا كامنغبانغ العظيم! أرجوك، أنقذ أبي!”
—
[هل تريدين أن أنقذه؟]
في البداية، لم تصدق تيي ما تسمعه.
كانت تعرف، حتى ببراءتها، أن من يموت لا يمكنه العودة إلى الحياة.
لكن هذا ينطبق على البشر العاديين، أليس كذلك؟
ماذا لو كان الجني قادرًا على ما يعجز عنه الآخرون؟
يمكنه إنقاذ أبي.
تحولت شكوكها إلى يقين، واليقين إلى أمل. شعرت وكأن الحزن الثقيل الذي كان يثقل قلبها قد تبدد، تاركًا مكانه لرفرفة الأمل، وكأنها تطير.
بينما كانت تترقب الإجابة بشغف، نطق الجني أخيرًا:
[لأعيد أباك… عليكِ أن تتركي هذا المكان. هل يمكنكِ فعل ذلك؟]
تجمدت ملامح تيي.
لم تفهم تمامًا ما الذي يعنيه بـ”ترك هذا المكان”.
هل يقصد الغرفة التي عاشوا فيها معًا؟ أم الحي بأكمله؟ أم أنه يعني عدم قدرتها على العودة إلى الروضة؟
لكن بدا وكأنة يقرأ أفكارها، أكمل كلامة قائلًا
[كل شيء. عليكِ أن تتخلي عن كل ما عشته هنا.]
بدت الحيرة واضحة على وجه تيي، ثم بدأ الحزن يتسلل إلى عينيها.
كل شيء يعني التخلي عن الذكريات الجميلة والحزينة على حد سواء.
يعني نسيان الجدة من شقة 107، والسيدة من شقة 203، والتخلي عن كل اللحظات السعيدة التي عاشتها مع والدها في هذا المكان.
كان الصمت يثقل الأجواء، بينما تقدم خطوة نحوها، قائلاً بصوت هادئ:
[إذا كنتِ تريدين ذلك حقًا، سأعيده إليكِ.]
“…”
“إلى المكان الذي وُلدتِ فيه، حيث كان من المفترض أن تكوني، وحيث يعيش ذلك الرجل.”
شهقت آســــتي بهدوء وهي تتنفس بعمق.
رغم صعوبة الموقف، كان هناك شيء واحد واضح تمامًا بالنسبة لها:
والدها كان دائمًا الأهم، ولم يتغير هذا الأمر أبدًا، منذ ولادتها حتى الآن.
قالت بصوت خافت، لكنها كانت حازمة
“سأذهب.”
وما إن أومأت برأسها حتى حدث شيء غريب.
انطفأت جميع أنوار الشارع التي كانت تضيء الزقاق وكأنها كانت تنتظر هذا القرار.
ارتجفت نافذة الغرفة رقم 106 تحت تأثير ريح قوية هبت فجأة.
الأغطية المطوية بعناية، والرسومات الملونة المعلقة على الجدران، وحتى كوب غسل الأسنان الذي يحتوي على فرشاتين بأحجام مختلفة—كل شيء بدأ بالارتعاش وكأن المكان يودعها.
وعندما عادت أنوار الشارع مرة أخرى، كانت الغرفة رقم 106 فارغة تمامًا، كأن أحدًا لم يسكنها من قبل.
—
“هممم…”
فتحت تيي عينيها ببطء، لتجد نفسها ممددة على شيء ناعم ولزج، يشبه غزل البنات.
لكنها عندما حاولت استيعاب الأمر، شعرت بالمفاجأة.
“هذا ليس غزل البنات!”
ما كانت ممددة عليه لم يكن سوى سرير دافئ مغطى بأغطية ناعمة ومريحة.
أخذت نفسًا عميقًا واستعادت وعيها بالكامل.
“أبي…”
عادت إليها ذكريات ما حدث قبل أن تغفو، وبدأ قلبها يخفق بقوة.
وفي تلك اللحظة، سمعت صوتًا غريبًا بجانبها:
“لقد استيقظتِ.”
قفزت تيي من مكانها بفزع، ونظرت نحو الصوت لترى فتى لم تره من قبل يقف بجانب السرير.
حاولت بسرعة أن تغطي نفسها بالأغطية، لكنها توقفت فجأة، مائلة رأسها بتعجب.
“كامنغبانغ…؟”
كان شعره أسود كظلام الليل، وعيناه تلمعان مثل الجواهر. أما أذناه، فقد كانت مدببتين قليلاً فوق رأسه.
عندما هز الفتى رأسه، اختفت أذناه. ومع ذلك، كانت تيي متأكدة:
“أنت كامنغبانغ! يمكن أن تتحول إلى إنسان!”
ظهرت على ملامح الفتى نظرة محايدة ومتحفظة، ثم تحدث بصوت جاف:
“أنا؟”
“نعم؟”
“هل تقصدين أنني ذلك الكامنغبانغ الذي كنتِ تنادين عليه طوال الوقت؟”
أمالت تيي رأسها، بإرتـــباك.
لقد ظنت أنه ذكي للغاية، يستخدم السحر ووعدها بإنقاذ والدها، لكن يبدو أنه ليس كما تخيلت.
“نعم! أنت جني، صحيح؟”
“لا.”
“ماذا؟”
“أنا لست كامنغبانغ.”
فتحت تيي فمها وكأنها تريد الرد، لكنها لم تجد ما تقوله. شعرت بالحرج لأنها ربما قد أخطأت.
لكن… كيف يمكنه استخدام السحر والحديث عن إعادة الأموات إذا لم يكن كامنغبانغ؟
ربما هو شيء أعظم من ذلك؟ ربما شيء من الأساطير، كالأبطال الخارقين الذين يمتلكون قدرات سحرية؟
—
أخذت تيي تنظر حولها بترقب ودهشة.
قبل أن تغفو، كانت في منزلها. لكنها استيقظت في مكان مختلف تمامًا.
نظرت إلى السرير الكبير والأغطية الناعمة، فتبدى لها المكان كأنه غرفة عادية.
لكن عندما رفعت رأسها، رأت أن السقف مصنوع من قماش، فاكتشفت الحقيقة.
“نحن فــــي خيمة!”
قالت تيي بذهول.
رد الفتى بنبرة هادئة، كأنه يتقبل الموقف
“خيمة… نعم، يمكننا أن نسميها كذلك.”
لماذا؟ تنهد كامنغبانغ بقوة، ثم شبك ذراعيه وهو يجيب:
“موطن والدك. ألم تقولي إنك تريدين القدوم؟”
“…موطن أبي؟”
“نعم.”
بدأت عينا تيي تتسع تدريجيًا.
كانت تذكر كلمات والدها جيدًا
“موطني، تالوتشــــيوم، بلد جميل جدًا. يقولون إنه كان أجمل بكثير قبل ظهور الأحجار السحرية… على أي حال، هو أوسع بكثير من هنا، والهواء فيه نقي بشكل لا يوصف.”
كلما تحدث والدها عن موطنه، تلمع عينـــاة بشئ من الإنتماء والإشتياق.
كانت تيي قد سمعت عن تالوتشيوم من والدها كثيرًا، لدرجة أنها شعرت وكأنها تعرف هذا المكان جيدًا.
لكن حين تابع كامنغبانغ حديثه، شعرت بأن ذكرياتها الجميلة بدأت تتلاشى
“المشكلة أنني، مهما كـــــانت قوتي، لم أتمكن من إحياء والدك.”
شهقت تيي ونظرت إليه بوجه متوتر.
“لم تتمكن من إحياء أبي؟”
إذن، لم يستطع إنقاذ والدها؟
هل يعني ذلك أنها جاءت إلى موطن أبيها… لكن بدونه؟
شعرت بالصدمة، وجسدها توتر بفعل المفاجأة. لكن الكلمات التالية التي قالها كامنغبانغ جعلتها تشعر وكأن الأرض انسحبت من تحتها
“لذلك عدنا إلى الماضي.”
حدقت فيه بدهشة:
“عدنا إلى الماضي…؟”
“نعم. إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، يمكننا إصلاح كل شيء.”
بدأت تيي تحاول التفكير بجدية.
إذا كان الزمن قد عاد إلى الوراء، فهذا يعني أنها، تيي التي كانت في المستقبل، أصبحت الآن في الماضي.
فهل هذا يعني أن هناك نسختين منها؟
سألت بحيرة
“إذن، هل يـــــوجد تيي أخرى؟”
انفجر كامنغبانغ بالضحك، ثم توجه نحو مدخل الخيمة وفتح الباب.
“محاولة جيدة، لكنها ليست صحيحة. نحن الآن في زمن يسبق حتى ولادتك بوقت طويل.”
شعرت تيي بالذهول وهي تنظر إلى المشهد الممتد أمامها.
غابة…؟
لأول مرة في حياتها، كانت ترى غابة حقيقية.
بخطوات مترددة، خرجت من الخيمة. ومع اقتراب الفجر، بدأت تفاصيل المشهد تتضح أكثر.
أشجار الصنوبر الطويلة التي بدت وكأنها تناطح السماء، الأشجار الصغيرة والكروم المنتشرة، الطحالب المبتلة بالندى…
قال كامنغبانغ
“ستُولدين في هذا العالم بعد سبع سنوات.”
بدأت الطيور تغني، وكأنها تعلن قدوم يوم جديد.
“حتى لو قابلتِ والدك، لن يعرف من تكونين.”
امتلأت عينا تيي بالدموع.
“وفي الحقيقة، لا يوجد ضمان أنكِ ستقابلينه. هذا العالم أوسع مما تتصورين.”
لكن تيي رفعت رأسها وأجابت بحزم:
“سأجده!”
التفتت نحو كامنغبانغ ودموعها تتلألأ، لكنها كانت تبتسم بثقة.
“طالما أن أبي على قيد الحياة، سأتمكن من إيجاده!”
لم يهمها إن لم يتعرف عليها.
ولم تكن تمانع إن تعامل معها ببرود، كأنها غريبة.
ما دام بإمكانها رؤيته مرة أخرى، ما دام بإمكانها الاطمئنان على أنه بصحة جيدة…
أخذت نفسًا عميقًا، ثم أضاءت عينيها بفكرة خطرت لها.
“أبي كان دائمًا يقول إنه كان أقوى وأشجع فارس في الإمبراطورية.”
كانت تيي، الابنة المخلصة التي تستمع بشغف إلى قصص والدها كل ليلة، تعرف جيدًا
“فلنذهب، كامنغبانغ!”
كانت تعرف أن مقر فرسان الإمبراطورية يقع في العاصمة.
لكن تيي لم تحتج وقتًا طويلاً لتدرك حقيقة الحياة، لم تكن الأمور بالسهولة التي تخيلتها.
قالت، وهي تلهث بعد خطوات طويلة
“هـ..هاه..ماذا يحدث…؟”
رغم أنها شعرت وكأنها مشيت كثيرًا، لم تكن قد قطعت سوى جزء بسيط.
استدارت تيي برأسها لترى الخيمة التي غادرتها للتو، لا تزال مرئية على بُعد مسافة ليست بعيدة.
“لماذا لم أتمكن من الوصول لأبعد من هذا…؟”
ولسببٍ ما، تنهد كامنغبانغ بجانبها تنهيدة عميقة.