الدوقة التي كسبت كغنيمة - 178
الفصل الأول _ عائلة البارون غلادوين
مرت فترة من الهدوء في تيرجو بعد انتهاء احتفال عيد ميلاد الإمبراطور الذي كان أشبه بالمهرجان.
لكن قبل أن يتمكن الناس من الاستمتاع بفرحة العام الجديد، اجتاحت البلاد موجة برد قاسية.
ومع انتهاء تلك الموجة الباردة، هبَّت على إحدى العائلات عاصفة أقسى منها بكثير.
“تأخر لقاؤنا يا عمي.”
قال لازلو بابتسامة بدت ودودة وهو ينظر إلى موريس غلادوين.
كان يمكن لمن يراهما أن يظن أنه لقاء مرحب بين أقارب لم يلتقوا منذ فترة طويلة، لكن الواقع كان أبعد ما يكون عن ذلك.
المشكلة أن كليهما كان يعلم أن اللقاء لم يكن مفرحًا.
“سموك… دوق … كريسيس…”
“لقد تقدم بك العمر كثيرًا. كان عليّ أن أزورك منذ وقت طويل.”
كلمات ابن الأخ المهذبة، رغم أنه دوق، كانت تخنق صدر موريس.
وليس ذلك من فراغ؛ إذ إن لازلو لم يكن قلقًا على شيخوخة عمه، بل غاضبًا من حقيقة أنه عاش جيدًا وبلا مشاكل حتى بلغ هذه المرحلة من عمره.
“على أي حال، إلى متى ستبقيني واقفًا؟ من المحرج أن أترك الأشخاص الذين أحضرتهم معي واقفين.”
رغم أن لازلو قالها كدعابة، إلا أن وجه موريس ازداد شحوبًا.
المقصود بـ”الأشخاص الذين أحضرهم” كانوا فرسانًا إمبراطوريين يرتدون الزي الرسمي، ورجالاً بدوا كمسؤولين من القصر الإمبراطوري.
‘اللعنة! كان عليّ أن أهرب!’
عرف موريس منذ وقت قريب أن لازلو كريسيس الشهير، الذي أصبح الآن دوقًا، هو في الواقع لياندرو الذي اختفى عندما كان صغيرًا.
لكن، بعد أن استولى على قصر أخيه وثروته وعاش بلا مشاكل لمدة سبعة عشر عامًا، تملَّكه الغرور وظن أن هذه المرة ستمر بسلام أيضًا.
لكن، نتيجة استرخائه واطمئنانه ظهرت اليوم أمام عينيه.
“تفضلوا بالدخول.”
قال موريس بـ وجه شاحب كالرماد، ثم قاد لازلو ومرافقيه إلى غرفة الاستقبال.
جلس لازلو على أريكة ثمينة بلا تردد ووضع ساقًا فوق الأخرى، ونظر إلى أنحاء قصر غلادوين.
كان هناك أشياء تذكره بالماضي وأخرى بدت مختلفة، مما جعله يبتسم بسخرية.
كان يعتقد أن مرور الوقت الطويل سيجعله عديم الإحساس، لكن ذكرياته التي بقيت في أرجاء القصر كانت تخنق عنقه وكأنها شبح يلاحقه.
“إن انتظرتم قليلاً، سأحضر الشاي…”
“لا حاجة لذلك. لم آتِ لـ للتحدث و شرب الشاي.”
قال لازلو وهو يحوّل نظره عن وهم والدته وهي تحمل الرضيعة لينيا، ووالده الذي لم يستطع إخفاء تأثره، ونسخة طفولية منه تقف خلف والدته وينظر إلى الرضيعة.
لم يكن هذا وقت التعمق في الذكريات القديمة.
“بصراحة، أنا متفاجئ. لم أتوقع أنك ما زلت مقيمًا في العاصمة.”
رغم أن موريس فهم جيدًا مغزى كلام لازلو، إلا أنه قرر أن يتصرف بجرأة ويدافع عن نفسه.
“حقًا؟ لا أعلم لماذا فكرت في ذلك. أنا لم أرتكب أي خطيئة، فلماذا أهرب؟”
“أنا لم أقل شيئًا عن الهرب. لماذا ذكرت ذلك بنفسك؟”
“أوه، ههه! إنها مزحة فقط.”
قال موريس محاولاً التهرب وهو يلوح بيديه بشكل مرتبك.
لكن لازلو لم يكن ينوي تركه بسهولة. لم يكن قد أحضر هذا العدد الكبير من الأشخاص لمجرد الضحك.
“حسنًا، من المؤسف أنك ترى الأمر مجرد مزحة. لكن سبب زيارتي اليوم هو تصحيح أخطاء الماضي.”
“أخطاء الماضي؟ ماذا تعني؟”
“وماذا تظن؟ أنا أتحدث عن الحادثة التي تآمرت فيها مع إيزاك وينبليير لقتل والديّ والاستيلاء على لقب البارون غلادوين.”
ضحك موريس بسخرية وكأن الحديث لا يصدّق.
“يبدو أنك قد فهمت الأمور خطأ. ما حدث لوالديك لم يكن سوى حادثة، وأنا جئت فقط لأساعدك على تولي اللقب. لكنك أنت من خاف وهرب.”
“الشخص الذي جاء للمساعدة كان أول ما فعله عند دخوله المنزل هو العبث بالخزنة وصندوق مجوهرات والدتي؟”
“لم أفعل شيئًا كهذا. كنت صغيرًا وقتها، وربما لم تدرك الأمور جيدًا، لكني كنت أبحث فقط عن الأوراق اللازمة لتولي اللقب.”
وقاحة موريس جعلت المسؤولين والفرسان المرافقين لـ لازلو غير مصدقين. فمن المعتاد أن يرتجف الناس أمام لازلو كريسيس لدرجة تجعلهم غير قادرين حتى على قول الحقيقة، لكن موريس كان استثناءً.
ابتسم لازلو بخفة وهز رأسه.
“إذن تقول إن ذاكرتي مشوشة بسبب صغري في السن؟”
“بالضبط، بالضبط. ربما كان وقع فقدان والديك عليك كبيرًا، ولهذا قد تكون رأيت الأقارب الذين جاؤوا لمساعدتك وكأنهم أشرار. لكن ما حدث كان مجرد سوء فهم منك. حتى أنك أخذت لينيا وهربت، مما أصابنا بالدهشة.”
“إن كان الأمر كذلك، فلماذا لم تبحث عني؟”
“ماذا؟”
“لقد اختفى وريث العائلة. لم يكن واضحًا إن كنت قد غادرت بمحض إرادتي أو تم اختطافي. ومع ذلك، لم تحاول العثور عليّ.”
نظر موريس بعينيه المرتبكتين يمنة ويسرة بحثًا عن عذر.
“لقد حاولت! لكن كيف يمكن العثور على طفل في هذه الإمبراطورية الشاسعة؟ حتى إدارة الأمن لم تكن لتتمكن من ذلك بسهولة.”
عندها تحدث أحد الرجال الذين جاءوا مع لازلو.
“أنا ميتشيل إلدين، رئيس إدارة الأمن. بعد مراجعة جميع السجلات من 17 عامًا حتى الآن، لم نجد أي طلب من عائلة البارون غلادوين بخصوص تحقيق في اختفاء. عدم تقديم طلب يعني أنكم لم تحاولوا، فلا تلقي باللوم على الإدارة.”
“آه، حـ، حسناً…”
“وبشأن ادعائك بأن ذاكرة الدوق كريسيس مشوشة، فإن شهادته تطابق تمامًا ما صرح به الأقارب الآخرون الذين كانوا يتقاتلون معك هنا في ذلك الوقت. يبدو أن الذاكرة المشوشة هنا تعود إلى البارون غلادوين.”
اسم ميتشيل إلدين كان مألوفًا بالنسبة لموريس؛ فقد كان معروفًا بكونه رئيس أمن صارمًا وبارعًا، وقيل إن من يقع في شباكه لا ينجو أبدًا.
تلعثم موريس، غير قادر على الرد، بينما أضاف لازلو ملاحظة.
“للمعلومية فقط، أقاربك الذين كانوا هنا أيضًا يخضعون للتحقيق. فلا تظن أنك الوحيد الذي سيحمل الذنب وحده.”
لكن من الواضح أن العقاب الأشد سينال موريس غلادوين، الذي قاد الخطة لقتل أقاربه بتأثير من إيزاك
“اللعنة!”
تمنى موريس لو يستطيع العودة بالزمن، إلى اليوم الذي سمع فيه أن لازلو هو لياندرو، أو حتى قبل عشرة أيام فقط، ليهرب دون النظر إلى الوراء.
لكن الندم يأتي دائمًا متأخرًا.
“حسنًا، لنكتفِ بهذا الحديث العبثي. الآن سأشرح لك التهم الموجهة إليك والعقوبات التي تنتظرك.”
فتح لازلو أوراقه وجلس واثقًا بينما كان موريس ينظر بوجه مشوه وهو يواجه جرائمه القديمة.
✦✦✦
“لازلو!”
إيديل رحبت بزوجها عند عودته إلى المنزل، لكنها توقفت فجأة.
خرج لازلو صباحًا وهو في مزاج جيد بعد أن قرر مواجهة موريس غلادوين، لكنه عاد بوجه منهك.
“لماذا تبدو هكذا؟ هل حدث شيء خاطئ؟”
“لا، كل شيء سار كما يجب.”
هذا صحيح. كل ما حدث اليوم سار وفق خطته دون أي انحراف.
موريس الأحمق لم يشعر يومًا بأي تهديد لحياته، لذا حتى بعد كشف هوية لازلو لم يتخلَّ عن لقب البارون غلادوين.
خلال الأسبوع الذي اجتاحت فيه موجة البرد، جمع لازلو الأدلة التي تراكمت على مر السنوات، وتواصل مسبقًا مع إدارة الأمن وفريق الفرسان الإمبراطوري ، وألقى القبض على الأقارب الذين تعاونوا مع موريس لاستغلال ثروة العائلة.
في النهاية، لم يستطع موريس إنكار جرائمه، وفقد لقب البارون غلادوين وصودرت تقريبًا كل ممتلكاته.
ورغم أن لازلو أظهر بعض الرحمة وترك له حياته، إلا أن الحياة التي تنتظره لن تكون سهلة أبدًا.
“صحيح، كل شيء انتهى على ما يرام، ولكن… لماذا لا أشعر بالراحة؟”
خلع معطفه البارد ورماه بغير اهتمام، ثم جلس على الكرسي أمام المدفأة، مائلًا رأسه بتأمل.
لم يستطع فهم الأمر. صباح اليوم، عندما خرج، كان يعتقد أن غضبه المكبوت سيتلاشى أخيرًا، لكنه الآن يشعر بخيبة أمل وربما شعور بالظلم أكثر من ذي قبل.
وضعت إيديل يدها برفق على كتفه.
“هذا طبيعي.”
نظر لازلو إلى إيديل بدهشة.
“معاقبة قتلة والديك لن تعيد إليك طفولتك المسلوبة. على العكس، ربما كنت تصمد طوال هذه السنوات على أمل هذا اليوم، أما الآن فلا يوجد حتى أحد تعاقبه. لهذا السبب، الغضب الذي بداخلك لم يجد مكانًا ليذهب إليه.”
لمعت في عيني لازلو نظرة إدراك، وكأنه فهم أخيرًا. أدرك من خلال كلمات إيديل مدى عمق غضبه تجاه موريس وإيزاك.
“اللعنة… كان علي قتلهما.”
ندم على عدم قتل إيزاك بنفسه وعلى رحمته مع موريس.
لكن إيديل أحاطته بذراعيها من الخلف وطمأنته بهدوء.
“لازلو. جراح الماضي تترك ندوبًا فقط، لا تختفي تمامًا كما لو أنها لم تكن. حتى لو قتلتهم بنفسك، لن تصبح أفضل حالًا مما أنت عليه الآن.”
“هل أنت واثقة؟”
“بالطبع. لقد رأيت بعيني رأس من كان يُعتبر والدي وهو يُقطع أمامي. لم يكن الأمر مريحًا على الإطلاق.”
شدّ لازلو قبضته بقوة. شعر وكأنه قد لمس جراح إيديل مرة أخرى دون قصد.
“إذن، هل سأعيش حاملًا هذا الغضب الذي لا يمكن التخلص منه؟ كيف تمكنتِ من الصمود والعيش هكذا؟”
ابتسمت إيديل برقة وهمست في أذنه.
“يمكننا أن نملأ حياتنا من الآن فصاعدًا بذكريات سعيدة. حتى لا تتحكم فينا جراح الماضي. لنتذكرها يومًا بابتسامة، كأنها مجرد أحداث مضت.”
أعاد لازلو التفكير في كلماتها مرارًا، ثم ضغط شفتيه على ذراعيها اللتين كانتا تلفان عنقه وأومأ برأسه.
شعر أنه يستطيع تحقيق ذلك طالما كانت بجانبه.
“أنتِ سعادتي، لذا سأملأ حياتي بكِ.”
ضحكت إيديل بخفة وتمتمت قائلة: “ما هذا الكلام؟”
حتى صوت ضحكتها تحول إلى سعادة صغيرة غطت جراح لازلو بحنان.