الثعلب القطني الصغير لا يعض إلا الشرير المجنون - 1
الفصل الأول:استيقاظٌ في هيئة كتلة من الزغب
تراقصت بلورة ثلجية بيضاء فوق رأسي برفق، كأنها زهرة هندباء تذوب في الهواء. بهدوءها المتناهي لمست جبيني كقبلة دافئة.
يا للروعة… تملكني الفضول؛ كيف يكون طعم الثلج؟
حاولت مد لساني لأتذوقه، لكن جسدي كان واهنًا كأنني محصورة داخل حلم.
استلقيت هناك بلا حيلة، عاجزة عن حتى رفع رأسي لأستكشف ما حولي.
شيء غريب، أذكر أنني كنت في محاولة إنقاذ ثعلب أبيض صغير.
كان يرتجف على ممر المشاة، مشهد وجوده الغريب أثار فزعي، فأسرعت إليه خشية أن يصاب بمكروه. ضممته إلى صدري برفق.
وفي اللحظة التالية، شعرت بصدمة عميقة ضربتني فأطاحت بي أرضًا، آخر ما تبقى في ذاكرتي هو رجاء أن يكون الثعلب بخير.
لكن أين أنا الآن؟ لا أبدو كما لو أنني في مستشفى.
أول ما تراه عيناي هو حاجز هائل من أشجار شاهقة، تلامس أطرافها السماء، يتخللها ضوء أحمر سحري يشع بغموض.
ما الذي يحدث؟
لماذا أستلقي هكذا وكأنني أضحية؟
رأسي يضج بالأسئلة؛ ربما هو مجرد كابوس.
“أنتِ نذير مشؤوم سيجلب الخراب لقبيلة الثعالب.”
صدى صوت مهيب تردد من حولي.
حاولت رفع رأسي لأرى صاحب الصوت، لكن جسدي بقي أسيرًا لعجزي.
“تحملين شغفًا متقدًا بالسحر، وقد تكونين سبب دمار العالم. الأفضل أن تعودي للطبيعة.”
نقلت تلك الكلمات كآبة خفية، شعرت كأن الحزن يسري بين طياتها.
حل الظلام تدريجيًا حتى غطى رؤيتي، بينما سقطت بلورة ثلجية على طرف لساني.
يا لها من نكهة؛ حلوة، ناعمة كما توقعت.
“كيينغ؟ (ما هذا؟)”
أمام عيني كانت كف بيضاء مغطاة بزغب ناعم. حركاتها الصغيرة تذكرني بقطعة حلوى الأرز اللطيفة.
أصابع بمخالب صغيرة، وبطن وردي مختبئ تحت غطاء من الفراء الفاخر، مفعمة بروح الطبيعة وهدوئها.
انتفضتُ فجأة لأجد نفسي أقف على أربع قوائم بدلاً من ذراعين.
شعور غريب اجتاحني بينما نظرت إلى أسفل، فرأيت بطني الوردي، الدافئ والمستدير، وذيلًا كثيفًا بلون الثلج يهتز خلفي بهدوء.
“كاااانغ؟ كاانغ؟ (أين أنا؟ ولماذا تحولت إلى حيوان؟)”
آخر ما أذكره هو سيارة اندفعت نحوي بينما كنت أحاول إنقاذ ثعلب صغير عالق في الطريق. ولكن بدلاً من أن أستيقظ في مستشفى أو بين ذراعي الحياة، وجدت نفسي محاطةً بأشجار متجمدة، وأرض بيضاء وكأنني انحدرت إلى عالم سحري لا ينتمي إلى الأرض.
تقدمت ببطء نحو ضفة النهر، حيث مجرى الماء البارد يعكس صورتي؛ لم يكن هناك إنسان كما توقعت، بل كائن بفراء أبيض ناعم وعينين سوداوين تلمعان، ووجه صغير جميل ينظر إليّ بدهشة.
“كاااانغ؟ (هل أنا… الثعلب الذي أنقذته؟!)”
قفزتُ في ذهول من مكاني، لكنني لم أستطع القفز عاليًا، فبدلاً من ذلك، انتهيتُ بالسقوط على الثلج.
“كيينغ، كييينغ. (آه، مؤلم… أردافي تؤلمني).”
حاولت إقناع نفسي أن هذا حلم غريب، ولكني ما زلت هنا، محاصرة في جسد ثعلب قُطني صغير.
لحظة، هل كانت تلك سمكة تقفز من بين الصخور؟ حدقت فيها مذهولةً، تخيلت للحظة نفسي أطاردها، ولكن… لا، ليس الوقت مناسبًا لصيد الأسماك.
بيد أن لعابي لم يستطع الانتظار، إذ سال على فمي، ولساني الوردي الصغير بدأ بالظهور دون إرادة مني.
“كاااوو~ (سأريكِ مهاراتي في الصيد، انتظريني أيتها السمكة).”
استجمعت قواي ورفعت مخالب حادة استعدادًا للانقضاض، غير أنَّ رائحة قوية مميزة اخترقت أنفي فجأة – كانت رائحة بشر.
عاد إليَّ الإدراك سريعًا؛ هذا ليس وقت اللهو، لا بد أن أبحث عن أحد قد يرشدني لما يحدث هنا.
بأنفي الصغير تتبعت الرائحة، حتى أصبحت أقوى من جهة الغرب.
“كاااانغ! (هذا الاتجاه!)”
همست بحماسة، وانطلقت نحو المصدر، لكنني نسيت مدى صعوبة السير بأرجل قصيرة على الثلج.
كلما زادت سرعتي، كانت قدماي الصغيرتان تخذلانني؛ حتى أنني انزلقت على صخرة مستترة، وبدأ جسدي يدور على المنحدر كأنني كرة ثلج صغيرة في عاصفة.
“كيينغ، كيينغ! (النجدة!)”
تدحرجتُ ككرة ثلج على المنحدر، وغلفني الفرو الناعم كدرعٍ يحمي جسدي من الألم، لكن دوارًا شديدًا اجتاحني كعاصفة، حتى كدت أفقد السيطرة على نفسي.
“كينغ… (حقًا، كدت أفقد حياتي تواً.)”
بصعوبة، هززتُ رأسي لأتخلص من الثلج المتراكم على فروي، ثم أعدت النظر حولي. كانت غابة من أشجار القضبان، مغطاة بعباءة بيضاء من الثلج، والهواء ساكن يعبق برائحة السلام المهيب.
لكن شيئًا آخر سكن الجو… رائحة بشرية. تتبعتها بأنفي المتوتر، وقادتني إلى عمق الغابة، حيث تسللت إليَّ رائحة غريبة تفوح بعبق الدم.
تقدمت بحذر، وهناك، بين أشجار القضبان الشاهقة، رأيت مشهدًا يثير الرعب. ثلاثة دببة عملاقة تقف شامخة، تهدر بأصوات وحشية وكأنها عاصفة غاضبة.
كان مشهدًا لم أره من قبل، وكأنني في عالم آخر من الخيال. أية قوة غريبة دفعتني إلى هذا المكان؟
وسط هدير الدببة العملاقة، كان يقف رجل كالجبل، يحمل سيفًا يشع بوميض قاتم.
رجل طويل القامة، بشرته شاحبة وشعره الأسود يتماوج كالليل، عيناه حمراوان تلمعان بجنون. كان يمسك سيفه بحرفية قاتل لا يعرف الرحمة، يُنزل ضرباته على تلك الوحوش بقسوة لا متناهية، وكأن سيفه يحترق بنيران الجحيم.
مع كل ضربة، كانت الدماء تتطاير في الهواء، تتساقط على الثلج الناصع البياض وتصبغه بلون الدم.
عند هذا المشهد المهيب، شعرت بالخوف يتغلغل في أوصالي. كان الرجل يقاتل الدببة بشراسة لا مثيل لها، ينثر الموت حيثما دار.
ووسط عاصفة الدم تلك، اقتربت خطوات أخرى. فرسان يحملون السيوف، يندفعون بين الأشجار، أحدهم يصرخ:
“احموا الدوق كاريدن!”
“رتبوا الصفوف، لا تسمحوا للدوق بفقد السيطرة على طاقته!”
هل قالوا… الدوق كاريدن؟ الاسم أثار في داخلي صدمة. إنه البطل الثانوي للرواية التي كنت أقرأها قبل الحادث، “زهرة الحدود”. كان كاريدن هيليرد شخصية قوية وغامضة، لكن حبه للمعالجة أوليفيا جعله يرتكب الخيانة لأجلها.
في الرواية، كاريدن كان محاصرًا بمأساة؛ فعندما يفقد السيطرة على طاقته، يتحول إلى وحش لا يرحم، يقتل كل من يقف أمامه.
والآن، أنا عالقة في رواية مأساوية، لكن في هيئة ثعلب!
نظرت إلى الرجل، عيناه الملتهبتان تتألقان ببريق حاد، وجسده القوي ينضح بالطاقة.
الفرو الأبيض على كتفيه… هل هو من فرو الثعالب؟ جسدي الصغير بدأ يرتجف. أجل، في الرواية، كاريدن كان يصطاد الثعالب ويصنع منها أوشحة، يقدّمها كهدايا، ويُزين بها درعه.
تراجعت للوراء، لكن في تلك اللحظة، حل السكون التام. لم تعد هناك سوى همسات الثلج الهادئ، وصوت الدماء المتساقطة. نظرت نحو كاريدن.
كان يقف وسط أجساد الدببة الممزقة، أنفاسه تتصاعد كالدخان وسط البرد، وقطرات الدم تتساقط من سيفه على الثلج الأبيض.
رفع رأسه ببطء، وعيناه الحمراوان تلتقيان بي مباشرة.
“كيينغ! (لقد رآني!)”
رأيت في نظراته قسوة قاتلة، تلك النظرات التي لم تُخطئ أهدافها. حاولت الهرب، لكن قدميّ كانتا عالقتين في الثلج. جسدي الصغير يرتجف خوفًا.
“كيينغ؟ كيينغ؟ (تحركي يا قدماي القصيرتان!)”
حاولت النهوض مستندة على قوائمي الأربعة، لكن جسدي الصغير الممتلئ أعاقني عن الحركة.
سمعُ خطوات ثقيلة تدوس الثلج اقشعرّ لها بدني، وأحاط بي ظلٌ بارد ومهيب، يتسلل معه شعور بالخطر الوشيك.
أغمضت عيني محاولة التصرف كأنني مجرد كرة ثلجية لا حياة فيها. بما أني مغطاة بفرو أبيض ناعم، ربما لن يلحظني… قد أبدو له مجرد كتلة صغيرة من الثلج.
“لماذا هناك كرة صوفية هنا؟”
توقعت صوتًا حادًا، قاتمًا مثل السيوف، لكن صوته كان مفاجئًا، عميقًا وهادئًا كنسيم بارد.
كدت أفتح عيناي، لكن تظاهرت بالصمت، متشبثةً بدور “كرة الثلج” وكأن حياتي كلها تعتمد عليه.
“يبدو أنني أخطأت. هل ضل هذا الثعلب الصغير طريقه؟ أين أمه؟”
وفجأة، شعرت بجسدي يُرفع بلطف عن الأرض، كان قد أمسك بي من مؤخرة رقبتي بخفة، كما يُحمل الجرو، ورفعني عاليًا.
استنشقت نَفَسه البارد في الهواء، ورأيت وجهه يكتسي بتعبير متحير.
“لا أثر لرائحة أمك… يبدو أنك وحدك منذ فترة طويلة.”
“كواااانغ! كااانغ! (دعني وشأني!)”
أحاول الإفلات من قبضته، لكن أرجلي الصغيرة لا تقوى على شيء أمامه. كنت معلقةً، وكأنني منشفة نسيتها الريح على حبل غسيل، وجسدي يهتز بلا حول ولا قوة.
“كااانغ! (تذوق أنيابي!)”
في محاولة يائسة للهرب، غرزت أسناني الصغيرة في معصمه القوي. تمنيت أن تؤدي عضتي هذه إلى إطلاق سراحي، وأن أفلت هاربةً إلى أمان الغابة.
التقت عينانا، وعندها حدث شيء غريب. عينيه الحمراوان بدأتا تتغيران ببطء، ليحل محلهما لون أزرق صافٍ كسماء خريفية هادئة. نظرته أصبحت أقل وحشية، وشيئًا ما حوله بدا مختلفًا، كأنه خرج من ظلال الماضي إلى نور لا يوصف.
“لا أصدق… بسبب عضة ثعلب صغير، بدأت طاقتي تستقر.”