استدع الكون - 06
16.
تقدمت نحوه بخطوات واثقة
لا، ربما كنت أركض دون أن أدرك
كيف يعرف ذلك؟ بحق السماء، كيف؟
حين اقتربت منه وكأنني على وشك الإمساك بتلابيبه، ارتسمت على وجه الصيدلاني ابتسامة باردة، مفعمة باللامبالاة. كانت عيناه الذهبيتان تشعان بوهج غريب، يكاد يُشعرني بأنه يرى ما لا أستطيع رؤيته.
“جو يـــــون آه.”
نطق باسمي بصوت ودود، وبدلاً من أن أُصدم، شعرت براحة مفاجئة.
كان وجوده مختلفاً عن كل شيء في هذا العالم المزعج الذي لا أجد نفسي فيه.
شعور غريب بالأمان تسلل إليّ، رغم سخافة الموقف.
بالكاد تمكنت من فتح شفتيّ
“هل… تعرفني؟”
“بالطبع.”
“مَن تكون إذن؟”
“ومن يــــدري؟”
رسم ابتسامة غامضة قبل أن يمزق فتحة كيس دواء كان يحمله. بدا داخله فارغاً باستثناء حبة واحدة بيضاء، مستديرة، تبدو عادية للغاية. مدّ يده لي قائلاً
“إذا كنت تعانين من مــــشاكل في الهضم، فهذا الدواء لك.”
حدقت به بحيرة
“وهل هذا هو الأمـــــر الأهم الآن؟”
“بل هو الأهم. فأنت تواصلين رفض ذاتك.”
“رفض ذاتي؟ ما الذي تعنيه؟”
“عادةً، عليّ أن آخذ وقتك مقابل هذا الحديث، لكن حـــالتك استثنائية، خذي الحبة، وابتلعيها.”
تأملت الحبة بين أصابعي، ونظرت إليه بشــــك، لكن ثقته كانت مهيمنة، كأن قراري الوحيد هو الامتثال. وضعتها في فمي وابتلعتها، صغيرة بما يكفي لتمر دون ماء.
ما إن مرت لحظات حتى شعرت بشيء يتغير.
الثقل الذي كان يجثم على معدتي ذاب كأنه لم يكن، والصـــداع المزعج الذي يلازمني منذ أيام اختفى تماماً. شهقت بدهشة، لكن قبل أن ألتقط أنفاسي، شعرت بضباب خفيف يتسلل إلى رؤيتي.
لكنه لم يكن ضباباً مزعجاً. على العكس، بدت الأمور واضحة، كأن حجاباً ثقيلاً قد انزاح عن روحي. للمرة الأولى منذ زمن شعرت بأنني أتنفس بحرية.
“هل تشعرين بتحسن؟”
هززت رأسي بالإيجاب، ما زلت في حالة من الذهول.
“إنه دواء فعّال بشكل لا يُصدق. هل يمكنك أن تعطيني المزيد؟”
أمال رأسه قليلاً وقال
“ما أخذته الآن يكفيك مؤقتاً. إن أفرطتِ في تناوله، ستحتاجين إلى جرعات أكبر لاحقاً، ولن تكون حبة واحدة كافية.”
رغم استيائي، قبلت كلامه وسألته مباشرة
“حسناً… إذن، مَن تكون؟ وكيف تعرف اسمي؟”
صمت للحظة، وكأن الكلمات تُنسَج داخله قبل أن تُقال
“أنا مجرد صــــيدلاني.”
رغم بساطة جوابه، كانت ملامحه تفيض بغموض لم أستطع اختراقه. أكمل
“أنا لا أبيع سوى أدوية الهضم. فقط أولئك الذين يعــــجزون عن هضم ما يمر بهم هم من يصلون إلى هنا.”
نظرت إليه بصمت، لا أفهم ما يقصده تماماً. ولكنه ناداني مجدداً، هذه المرة بنبرة أكثر هدوءاً
” جو يـــون آه . . . ”
ارتعش جسدي لا إرادياً عندما نطق باسمي. تابع بنبرة عميقة
“لكنكِ حالة خاصة.”
“أنا؟”
أومأ برأسه ببطء، وعيناه تلمعان كما لو أنه يرى ما أرفض رؤيته.
“أنتِ تنكرين هذا العالم بأسره. إذا اعترفتِ به كـ’واقع’، فإن وجودك ذاته سيختفي. لأن هذا الواقع يعني أنه لم يكن هناك جو يون آه من الأساس. وعندما يُدفع الإنسان إلى حافة كهذه، فإن ذاته…”
رفع إصبعيه ليشير إلى الطاولة بجانبه. جعل أصابعه “تمشي” بخفة على سطحها حتى وصلت إلى الحافة، ثم سقطت سريعاً
“تنهار حتماً.”
ثم نظر إلي مجدداً وقال بوضوح
“لهذا تحتاجين أن تنظري إلى هذا العالم كما لو أنه مجرد ‘رواية’. أليس كذلك؟”
لم أجب. كلماته أصابت الهدف تماماً، لكنها لم تسبب لي أي اضطراب داخلي. بفضل الحبة التي ابتلعتها، شعرت وكأنه يخبرني بأمر بديهي.
“الحبة التي أعطيتك إياها ستجعلك ترين هذا العالم على أنه مجرد قصة لبعض الوقت. وأنت تعرفين الفرق، أليس كذلك؟ بين أن تعيشي قصة وبين أن تقرئيها.”
رمشت بعينيّ، محاولة استيعاب ما يجري. شعور عجيب اجتاحني. الهدوء الذي تسلل إلى داخلي كان كفيلاً بإزالة أي توتر. أمامي، بدت المشاهد كأنها صفحات مطبوعة.
نظرت إلى الصيدلاني بشيء من الحيرة، بينما ارتسم على وجهه يقين غامض.
“إذن، هل ترين الآن جو يون آه الحقيقية؟ أم جو يون آه التي صنعتها أنتِ؟”
ابتسم بخفة وأومأ لي بهدوء
“في هذه اللحظة، أراكِ الحقيقية.”
ابتلعت أسئلتي العديدة حين رفع يده ليوقفني قائلاً
“هذا يكفي لليوم. إذا احتجتِ إلى المزيد من دواء الهضم، عودي إلي.”
“لكن…”
لم يترك لي فرصة للاعتراض. قال بهدوء
“وداعاً.”
بدأت أشعر بجسدي يُسحب إلى الوراء. المساحة المحيطة بي اهتزت وكأن الصيدلية نفسها تطردني. في لحظة، وجدت نفسي خارج الباب، أتنفس الهواء البارد.
نظرت حولي، وصوت إغلاق الباب خلفي كان أشبه بنهاية حاسمة. تأملت اللافتة القديمة المعلقة فوق الباب.
“جو يون آه.”
كان ما حدث أقرب إلى حلم، لكنه تركني مختلفة. الغثيان الذي كان يُرهقني اختفى، والحزن الذي كان يجثم على صدري تبخر كأنه لم يكن.
تملكني شعور غريب بالسكون، وكأن كل شيء حولي بات بسيطاً، مجرّد نص مكتوب.
ثم استدرت ببطء، وبدأت أمشي عائدة إلى المنزل.
17.
“يا رفـــاق!، هل يمكن أن تســـتيقظوا قليلاً؟ العام القادم ستكونون في السنة الأخيرة من الثانوية!”
ضرب المعلم سطح الطاولة بعنف، وكأنه يحاول طرد كســـلنا المتراكم في هذا الفصل
“الاختبارات النهائية على الأبواب، ومع ذلك تبدو وجوهكم بلا أدنى إحساس بالمسؤولية.”
أخذ نفـــس عميق وهو يرمقنا بنظرة تفوح بالإحباط. ثم أردف بنبرة صارمة
“هل تذكرون نتائج اختـــبارات منتصف السنــة؟ ”
تبادلت مجموعة من الطلاب النظرات، مع ابتسامات خبيثة. بدا واضحًا أن نتائجنا لم تكن لتُشعر أي أحد بالفخر. فجأة، ارتفع صوت أحدهم، مشيرًا بضحكة إلى يو سونغ وو، الجالس قرب النافذة
“أستاذ، معدل صفنا تدهور بسببه!”
سرعان ما تحولت هذه الجملة إلى شرارة لتعليقات ساخرة
“ألم يحصل في الرياضيات على 18 درجة فقط؟”
“والمضحك أنه كان يـــحلّ الأسئلة بنفسه، لا بالتخمــــينات!”
“بصراحة، لولا يو سونغ وو، لما احتلت صفوفنا المركز الأخير في المدرسة!”
انفجرت ضحكات الطلاب في كل زاوية، بينما اكتفى يو سونغ وو برفع حاجبيه بابتسامة ساخرة، وأطلق تعليقًا المدرس
“كفى أيها الأوغاد. أنا فقط ضعيف في الرياضيات!”
قال أحدهم
“لكن يُقال إنك جيد في اللغة الكورية.”
“جيد؟ بل فقط في اللغة الكورية!”
أصبح يو سونغ وو محور الحديث، والفوضى تتفاقم. اضطر المعلم إلى ضرب الطاولة مجددًا ليستعيد السيطرة.
“كفى! وأنت يا يو سونغ وو، لماذا دائمًا تتسبب بالفوضى؟”
“آسف، أستاذ.”
ردّ بابتسامة مرحة لا تخلو من الاستهزاء. وضع المعلم يده على جبينه بتعب واضح، ثم قال بنبرة متهكمة
“اجلس بجانب كيم جو يون وتعلم منها شيئًا!”
“حاضر.”
بينما كان يتحرك نحو مقعدي، رمقني يو سونغ وو بابتسامة واسعة بدت أقرب إلى تحدٍ طفولي.
كيم جو يون، حسب الرواية، كانت الطالبة المثالية التي يتغنى الجميع بذكائها وإنجازاتها، دائمًا في طليعة قائمة المتفوقين. ولكن في الحقيقة، كنت أنا الكاتبة، ودرجاتي الحقيقية لم تكن سوى امتداد لقائمة الفشل.
مال يو سونغ وو نحوي، وهمس بصوت منخفض
“سمعت أنك كنتِ الأولى في اختبارات منتصف الفصل.”
أجبته بجفاف
“لم أدرس جيدًا هذه المرة.”
ضحك بصوت خافت
“دائمًا مَن يدرسون يقولون ذلك.”
غمز بعفوية وأضاف بنبرة ماكرة
“بالتفكير فلأمر، لم أبلغ عنكِ بالأمس.”
“ماذا تقصد؟”
“حين تركتِ غرفة الموسيقى دون تنظيفها كما طلب المعلم، لم أخبره بذلك.”
“…شكرًا.”
راقبته وهو يدير عينيه بتراخٍ، تلك النظرة التي تُشعرك بأنه دائمًا ما يحتفظ بشيء لنفسه.
لم يكد المعلم يغادر الصف حتى عادت الفوضى لتحتل المكان، وبينما كنت أراقب المشهد بصمت، قاطعني صوت خطوات مقتربة.
“يو سونغ وو.”
كانت لي تشاي أون، بشعرها الطويل المربوط وملامحها الهادئة. جمالها لم يكن مبالغًا فيه، لكنه بارز بما يكفي لجذب الأنظار.
نظر إليها يو سونغ وو بابتسامة مرحة، كمن يتساءل
“ماذا تريدين الآن؟”
“ماذا تفعل؟”
“أتحدث مع جو يون.”
“هل أستطيع الانضمام؟”
“بالطبع.”
نقلت لي تشاي أون نظراتها إلي، وابتسمت ابتسامة لم تخفَ عليّ نواياها.
“هل تناولتِ طعامك جيدًا البارحة؟”
رغم أن كلماتها كانت تبدو عادية، إلا أن نبرتها الحادة وابتسامتها الساخرة كانت تحمل أكثر مما يظهر على السطح.
حدقت بها للحظات دون أن أجيب. لي تشاي أون، وفق الرواية، لم تكن سوى “الشريرة”، شخصية أحادية البعد، لا تقدم سوى إثارة المشاكل.
تذكرت التعليقات التي كُتبت عن شخصيتها في الرواية:
– “أرجوكِ، تخلصي من لي تشاي أون.”
– “لم أعد أطيقها.”
– “متى ستختــــفي؟”
قطعت الصمت أخيرًا
“نعم، تناولت طعامي.”
ارتفعت زوايا شفتيها، وكأنها شعرت بالنصر
“مع جو ري؟”
“نعم.”
“لماذا لم تأكلي مع أون تشانغ؟ المسكين دائمًا ما ينتهي وحيدًا في المكتبة.”
كان أون تشانغ، الجالس في مقعد قريب، يسمع كلماتها بوضوح. رغم أن صوتها لم يكن مرتفعًا، إلا أن نبرتها كانت كافية لخرق صمته المألوف.
نظرت حولي، فرأيت أعين الطلاب تتابع الحوار، تنتظر رد فعلي. على عكس المعتاد، لم أشعر بالاضطراب. أفكاري كانت واضحة، ومعدتي لم تنقبض كما تفعل عادةً.
نظرت إليها بثبات وقلت بهدوء
“هل تعلمتِ ذلك من يو سونغ وو؟ يبدو أنك، مثله، تحاولين استخدام أون تشانغ كذريعة لكل شيء.”
فكرت للحظة، وأدركت الحقيقة: لي تشاي أون كانت “الشـــــريرة”، وأون تشانغ لم يكن أكثر من “الضحية”. مجرد شخصيات تؤدي أدوارها بلا عمق أو غاية حقيقية.
“بصراحة، هذا الحديث مقزز. هل يمكنكِ التوقف عن هذا السلوك الطفولي؟”
تجمدت ملامح لي تشاي أون للحظة. لم تكن تتوقع ردًا مباشرًا بهذه الحدة. لكنها لم تكن لتستسلم بسهولة أمام أعين الجميع، فقد كُتبت لتكون شخصية عنيدة.
“آسفة، هل غضبتِ لأنني انتقدت صديقكِ؟”
قالتها بابتسامة نصفية، بشفاه وردية رسمت مزيجًا من الاستفزاز والسخرية.