استدع الكون - 03
6
حين فتحتُ عيني للمرة الأولى هنا، شعرتُ بالذهول والارتباك، تمامًا كما يحدث لأبطال القصص الذين يجدون أنفسهم فجأة في عالم غريب.
بعد مرور بعض الوقت، استطعت بسهولة استنتاج أن هذا العالم هو نفسه عالم الرواية التي كتبتها. لكن قبول الأمر كان شيئًا مختلفًا تمامًا.
عبثت بهاتف كيم جو يون، أبحث بجنون عن أي معلومات قد تُفسر ما حدث. المدهش أن كل شيء بدا كما كان: نفس أسماء المشاهير، نفس عناوين الأغاني، نفس القضايا المتداولة…
باستثناء أمرٍ واحد.
الحي الذي كنت أعيش فيه اختفى تمامًا. ليس وكأنه تغيّر أو أعيد تشكيله، بل بدا وكأنه لم يكن موجودًا منذ البداية.
عندما أدركت ذلك لأول مرة، بدأت أتقيأ دمًا. لم أشعر بالألم، لكنني ظللت قابضة على المرحاض، أتنفس بصعوبة لفترة طويلة.
ومنذ ذلك الحين، باتت نوبات التقيؤ بالدم تتكرر بشكل متقطع. لم أُعطِ كيم جو يون في قصتي أي مرض مزمن، لكن كلما شعرت بالغثيان، كان ذلك الطعم المعدني اللاذع يملأ حلقي.
لو علم والدا كيم جو يون بالأمر، لعمّت الفوضى. لذا بذلت قصارى جهدي لإخفاء ذلك. لم يكن الأمر مؤلمًا على أي حال.
كان والدا كيم جو يون لطيفين. أناس ودودون ومرِحون. لم يصرخوا في وجهي، ولم يعاقبوني حتى وأنا أتمدّد في السرير طوال اليوم، متجاهلة الذهاب إلى المدرسة. ومع ذلك، كنت أشعر بالثقل حين أحاول الحديث معهما.
كان الشعور وكأن وجودي في هذا العالم قد انتُزع بالكامل. رغم أنني كنت أصف حياتي السابقة بأنها فوضى عارمة، لم أتمنَّ يومًا أن تُمحى تمامًا. تمنيت الموت مرارًا، لكنني لم أرغب أبدًا في أن يُنكر وجودي.
الآن، أنا أعيش بجسد كيم جو يون، لكنني أشعر بالموت أكثر من أي وقت مضى.
عندما أستيقظ من نومٍ غير واعٍ وأغرق في شرودٍ لا نهاية له، تتسلل فكرة الموت بهدوء فوق رأسي. لكنها كانت دائمًا فكرة مرهقة للغاية، تجعلني أستسلم للكسل وأتجاهلها.
استقر شعور مريع من الفراغ داخل صدري. لم أكن من النوع الذي يذرف الدموع بسهولة، لكنني بكيت حتى شعرت بألم في عينيّ.
“جو يون، أرجوكِ، ما الأمر؟ هل حدث شيء ما؟”
كانت والدة كيم جو يون طيبة. لكنني كنت أشعر بالغثيان كلما نظرت إليها. لم أستطع استيعاب أن شخصية رسمتها ببضع كلمات يمكن أن تكون حية بهذا الشكل.
عندما رأتني أبكي بصمت، شعرت بالخوف. اقتربت مني وكأنها تتوسل قائلة:
“جو يون، أرجوك. كيم جو يون، تحدثي… أي كلمة. هل يضايقك أحد؟ هل الدراسة صعبة عليكِ؟”
لماذا تبكين بهذه الطريقة المؤلمة؟ عيناها البنيتان الدافئتان كانت تمتلئان بالدموع، ثم تتساقطان بغزارة على وجنتيها المحمرتين.
ووسط ذلك، تفلت مني الكلمات التي لم أتمكن من حبسها.
“أريد أن أموت.”
في تلك اللحظة، تهشّم بريق عينيها. ورغم أن الأمر كله كان مجرد خيال، علمت أنني ارتكبت خطأً فادحًا.
بدأت يداها المرتجفتان، التي كانت تمسح بها على كتفي، تلامس وجهي بحذر. نظرت إليّ بذهول وكأنها لا تعرف ما الذي يجب فعله.
“لماذا؟”
“…”.
“جو يون، يبدو أنني كنت غافلة تمامًا. لم أكن أعرف أنكِ تعانين بهذا الشكل. لقد كنت مشغولة للغاية بعملي… ما الذي يُرهقكِ إلى هذا الحد؟”
صعدت يدها التي كانت تمسك كتفي إلى وجهي، وبدأت تمسح على عيني المتورمتين بإبهامها بحنان. كانت يدها تفوح برائحة صابون لطيف. في تلك اللحظة، شعرت بوخزٍ في أنفي من شدة التأثر.
كل هذا القلق كان موجهًا إلى كيم جو يون. لم يكن لي مكان هنا.
ورغم ذلك، كنت بحاجة إلى هذا الدفء، حتى لو كان وهميًا. كنت بحاجة إلى عزاء زائف. لذلك وضعت يدي فوق يدها الملامسة لوجهي، وانفجرت بالبكاء.
“أريد أن أموت…”
“…”.
“إنه… مرهق للغاية.”
في تلك اللحظة، احتضنتني والدة كيم جو يون فجأة. شعرت بالذهول، وتجمّد جسدي تمامًا.
كانت ذراعاها اللتان تحيطان بي دافئتين بشكل لا يُصدّق. شعرت بشيء غريب جدًا، شيء لم أستطع تفسيره. بقيتُ ساكنة، محبوسة داخل ذلك الحاجز الصغير من الحنان.
في ذلك اليوم، أجلت فكرة الموت.
دقَّ جرس الغداء، وما إن رنَّ حتى احتشد عدد من الطلاب حول ذلك الفتى مجددًا. جرّوا كراسيهم ليجلسوا بجانبه، بينما أخرج آخرون أكياس الحلويات التي اشتروها من المقصف. وحدي كنت أجلس هناك كالغريب في المشهد.
لهذا أكره الأمر. عضضتُ على شفتي. إنها مجرد رواية، ولكن كل ما يحدث من حولي الآن يبدو حقيقيًا بشكل مزعج.
وقفتُ من مكاني، ولم تمضِ لحظة حتى قفز فتى آخر ليشغل الكرسي الذي كنت أجلس عليه، وكأنه كان ينتظر الفرصة. فكرت بالخروج من الفصل، وما إن أدرت جسدي للمغادرة حتى جاء صوته:
“كيم جو يون.”
تجاهلت النداء وتابعت السير، لكن صوته هذه المرة حمل نفحة من الضيق.
“كيم جو يون!”
توقفت والتفتُّ ببطء. كل العيون، بما فيها عينه، كانت تحدق بي.
شعرت فجأة أنني أفهم ما مر به “كيم أون تشانغ” حين كان في هذا الموقف. مجرد شخصيات داخل رواية، ومع ذلك… لماذا بدت تلك النظرات وتلك التعابير واقعية إلى هذا الحد؟
أسند يون سيونغ وو جسده على كرسيه بتكاسل، وابتسامة متكلفة ترتسم على وجهه.
“إلى أين أنت ذاهبة؟”
“ليس من شأنك.”
“أإلى الكافتيريا لتناول الطعام؟”
ارتفعت زاوية فمه بابتسامة مغرورة. كان شخصًا طفوليًا ومزعجًا لدرجة مقززة.
“هل لديكِ أصدقاء لتتناولي الغداء معهم؟”
كان سؤاله استفزازيًا بشكل ساذج، لكنني لم أجد إجابة. لم أكن أعرف شيئًا عن أصدقاء كيم جو يون، إذ لم أضع تفاصيل كثيرة عن علاقاتها الاجتماعية. تدور القصة حولها وحول يون سيونغ وو ضمن إطار محدود داخل الصف.
ساد صمت. شعرت به يتثاقل فوق رأسي. وفجأة، قهقهة مكتومة اخترقت الأجواء. التفت نحو مصدرها. فتاة ترتدي سترة بغطاء رأس مزينة بشعار علامة تجارية شهيرة، وعينيها محددتان بظلال حمراء داكنة.
من تكون؟ لم أستغرق وقتًا في التفكير، إذ سرعان ما أوضح المحيطون بها الإجابة.
“يا فتاة، لا تضحكي بهذا الشكل الصريح!”
“ماذا أفعل؟ الأمر مضحك حقًا.”
كانت “لي تشاي أون”، الشخصية التي كتبتها لتكون “الشريرة” في القصة. وصفتها بالجمال الأخاذ، وبالفعل، كانت لافتة للنظر بشكل لا يمكن إنكاره، بل لدرجة شعرت بالذنب لمنحها هذا الجمال. كيف جعلت فتاة مثلها تعشق يون سيونغ وو؟
ضحكتها جذبت موجة من الضحكات الخافتة من حولها. ضحكات باردة حملت معها شظاياها لتصيبني مباشرة. شعرت بالانزعاج، بالغضب. لم تكن تلك السخرية من حقي أنا، بل من حق كيم جو يون القوية الجريئة، التي خلقتها لمواجهة هذه المواقف.
قال يون سيونغ وو بينما أسند مرفقه على الطاولة ووضع ذقنه على كفه:
“إذن، ليس لديكِ؟”
“…”
“كم هذا مؤسف. لا أصدقاء لتتناولي الطعام معهم.”
ثم أضاف بابتسامة مستفزة:
“ما رأيك أن تتناولي الغداء مع أون تشانغ؟ يبدو أنه وحيد أيضًا.”
كانت طريقته في الحديث متعمدة لإثارة الضحك، وبالفعل، تعالت الضحكات مجددًا. البعض كان يضحك بحرية، وآخرون كانوا يبتسمون بتوتر، متطلعين نحو رد فعلي. كل ضحكة كانت تسدد ضربة لمشاعري، وتثقل كاهلي أكثر.
شعرت بالغثيان. تلك المرة، كان الأمر أشد، وكأنني على وشك التقيؤ. وفجأة، صوت جديد قاطع هذا المشهد.
“جو يون!”
التفتُّ بسرعة، وكذلك فعل الجميع. كان الصوت لوجه لم أتوقع رؤيته. رئيسة الفصل، “جونغ وو ري”، تقف هناك، ترتسم على وجهها ابتسامة مرتبكة.
نظرت إليّ مباشرة، ثم نادت بصوت مرتجف كمن يحاول إقناع نفسه:
“جو يون، تعالي!”
“إلى أين؟”
تلعثمت للحظة، كأنها تحاول اتخاذ قرار، لكنها أخيرًا نطقت بجملة جعلتني أُصْعق.
“لتناول الغداء!”