أتمنّى لو أنّك أحببتني - 1
الفصل الأول 🩷
قد لا تصدّقون ذلك، لكن لديّ ذكرياتٌ من وقت كنتُ حديثة الولادة.
بالطبع، كانت الذكريات القليلة التي تخطر ببالي تتضمن البكاء بصوتٍ عالٍ في المهد أو أن يتم حملي بين ذراعيّ المربية وأتدحرج مرّةً تلو الأخرى. كانت تلك المشاهد الغائمة، بالكاد يمكن اعتبارها ذكريات، مجرد شذراتٍ عابرة من الماضي. كنتُ أحتفظ بها لنفسي، وكأن البوح بها أمام والديّ أو إخوتي سيجعلهم يسخرون مني.
لكنّ هناك شذرةٌ واحدةٌ كانت واضحةً تمامًا.
سقفٌ مملوءٌ بالدّخان الأسود.
الحرارة الشّديدة التي تُلامس بشرتي.
ما أنقذني من النيران كان شخصًا ذراعيه باردة كالثلج. سمعتُ صوتًا أشبه بالغناء، وسرعان ما وجدتُ نفسي بين ذراعيّ شخص آخر. كطفلةٍ لم تعرف النطق بعد، بدأت أفهم أصوات ذلك الوقت عندما بلغت السابعة من عمري.
الرجل قال لي بوضوح:
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
بدا وكأنني سمعتُ بضع كلماتٍ قصيرة أخرى بعد ذلك، لكن مهما حاولتُ تذكّرها، بدت غائمة وبعيدة. ما أعرفه يقينًا هو أن صوته عَكَـسَ سنواتٍ طويلةٍ من الشكوك ومشاق الحياة. بدا لي واضحًا أن الشخص الذي أنقذني، والذي أنكر وجودي في ذات الوقت، كان رجلًا مسنًا.
وفقًا لما قالته والدتي، فقد بقي المنقذ بجانبي لبعض الوقت، كفارس، بعد أن أنقذني من الحريق. ماذا كان يقصد بذلك؟
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
لماذا أحبّني بمنحه الحياة لي لكنهُ أنكرني بكلماته؟
احتفظتُ بهذا السؤال لنفسي دون أن أخبر أحدًا. وكأنه بداية قصّةٍ بوليسية أو مغامرةٍ للبحث عن القطع المفقودة من الأحجية، كانت تلك الشكوك تراودني بين الحين والآخر.
كان هذا السؤال شيئًا أرغب بشدّةٍ في طرحه على ذلك الشخص يومًا ما.
لماذا وُلدتُ؟
لماذا أنقذتني رغم أنه ما كان يجب أن أُولد؟
كلاك، كلاك.
خطواتٌ صغيرةٌ متتالية تردّد صداها عبر الممر الهادئ.
استمرّت الأصوات بخطٍ مستقيم دون تردد، لكنها توقّفت للحظة عند نقطةٍ ما، وأحيانًا بدت مشوشة واتخذت طريقًا ملتفًا عائدةً من حيث أتت.
نعم، هذه هي أصوات خطواتي.
كنتُ أجري بهدوء.
هل أنا مشغولةٌ بأمرٍ ما؟ لا.
هل يطاردني أحد؟ أمرٌ مُستبعَد.
ومع ذلك، عند التدقيق، كان من الصعب نفي كلا الاحتمالين تمامًا.
ومع ذلك، كان هدفي واضحًا: ‘الهروب دون أن يتم القبض عليّ.’
لم يتبقَ الكثير للوصول إلى المنطقة المرتفعة. مستعينةً بقدرتي الممتازة على استيعاب المساحات ورشاقتي، نزلتُ بسلاسةٍ من الطابق الرابع، الذي كان أشبه بالسجن، إلى الطابق الثاني. الآن، عند مفترق الطرق أمامي، إذا انعطفتُ يمينًا ونزلت الدرج…
“هل اختفت لاريسا؟”
في لحظةٍ، توقّفت خطواتي بشكلٍ غريزي عند سماعي صوتًا قريبًا.
“نعم، تلقّيتُ للتو خبرًا من أستاذ التاريخ الخاص بها. لقد مرّت حوالي عشر دقائق منذ غيابها.”
“لماذا تخبرني بعد عشر دقائق؟”
“إنه أمرٌ روتينيٌّ أن يتأخّر اثنان من كل ثلاثة طلابٍ لمدة ثماني دقائق لأسباب تتعلّق بالحمام. لكنهم دائمًا يحافظون على حدّ الثماني دقائق بدقّة، لذا بما أن هذه هي المرة الأولى التي تتجاوز العشر دقائق، اعتقدت أنه يجب إبلاغكَ فورًا.”
“ميخائيل.”
“نعم…”
ورطة.
لم أتوقّع أن يكون هناك عائقٌ في الممر الأيمن المؤدي إلى الدرج.
“الأمر متروكٌ لكَ لتقرر. هل ننتقد الأستاذ على حكمه الحاد؟ أم نطرده بسبب عدم كفاءته؟”
“هلّي أن أُدلي برأيي؟”
“تفضل.”
“أنا أفهم تمامًا قلقكَ، يا صاحب السمو ولي العهد. أليس أستاذ التاريخ الخاص بها قد تم تغييره أكثر من أربع مرات في عامٍ واحد؟ إذا حدثت تغييراتٌ أخرى، فسيكون من الصعب على صاحبة السمو التركيز في دروسها، وأهم من ذلك…”
خلعتُ حذائي وجواربي بحذر. البرودة التي شعرت بها تحت باطن قدميّ العاريتين جعلت القشعريرة تمتد حتّى عظامي، لكنني أدرت ظهري وتجاهلتها.
اتخذتُ عشر خطواتٍ أو إحدى عشرة خطوةٍ بسرعة، لكنني لم أستطع إجبار نفسي على الابتعاد أكثر عن الدرج. كان الهدف قريبًا جدًا، ومع ذلك كان عليّ العودة من حيث أتيت!
لكن الفاكهة الحلوة تُقطف بالصبر. بمجرد أن أتغلّب على هذا العائق، ستأتي الفرص مرّةً أخرى. انعطفتُ يسارًا عند التقاطع الذي مررت به.
لكن، لسببٍ ما، يبدو أن هذا الخيار لم يكن جيدًا جدًا. كان هناك تحدٍّ آخر يقترب، ليس بعيدًا، من الجانب الآخر من الممر.
‘خادمٌ ملكي؟ أهو خادمٌ ملكي؟’
لا، لم يكن كذلك. الشخص الذي كان يسير من الجانب الآخر لم يكن يرتدي ربطة العنق السوداء غير الأنيقة (التي تشبه ملابس الجنازات) أو الزي الرسمي الذي يرتديه الخدم الملكيّون. حتى حضوره افتقر إلى الرزانة المعتادة.
‘من يكون؟’
أمسكتُ الحذاء بكلتا يديّ وركضتُ وكأنني أطير، مما قلّص المسافة بيني وبين خصمي. وعلى الرغم من أن الشخص لاحظ وجودي، إلا أنه لم يبد متفاجئًا أو متجمّدًا في مكانه. بدلاً من ذلك، كانت تعابيره غريبةً بعض الشيء، تشبه شخصًا يراقب عرضًا بهلوانيًّا.
“لا تثر أيّ ضجةٍ، وابلغ المسؤول. على أي حال، لم تكن لتتمكّن من الخروج من القصر حتى الآن.”
يا إلهي! الأشخاص الذين كانوا يبحثون عني كانوا طوال القامة، لذا كانت خطواتهم واسعة، وسرعان ما قلّصوا المسافة.
لم يكن لدي الوقت الكافي لتأكيد ملامح وجه الشخص الغريب الواقف على بعد خطواتٍ قليلة مني. كل ما استطعت تذكّره هو أن هذا الشخص كان رجلًا، وليس امرأة، وعمره كان غامضًا بين صبيٍّ وشابٍّ بالغ… رجلٌ وسيمٌ بشعر فضي قصير يلمع ووجه جميلٌ يكاد يخطف الأنفاس.
عندما كان على وشك المرور بجانبي، أمسكتُ يده وسحبته نحو النافذة. وكأن السّماء ساعدتني، كان المكان الذي سحبته إليه ممرًا يحتوي على نافذةٍ كبيرةٍ بارزة، وكانت هناك ستائرٌ طويلةٌ غير موجودة عند النوافذ الأخرى، مرتبة بجانب أريكة قريبة من الجدار. وبين الستائر الكثيفة والنافذة البارزة، اختبأتُ وطلبت منه.
“رجاءً، أخفني هنا.”
لكن، بدلاً من أن يُفاجأ بطلبي المفاجئ، ضيّق الرجل عينيه وأظهر تعبيرًا وكأنه يقول: ‘أعتقد أنكِ اختبأتِ بالفعل بشكلٍ جيّد. ما الذي تريدين مني إخفاءه أكثر؟’
بصراحة، كنتُ متفاجئةً قليلاً أيضًا. هذا الوسيم ذو الشعر الفضي كان غريبًا بالنسبة لي، شخصًا لم أُقابله من قبل.
لكن هذا ليس مهمًا الآن. وقفتُ أراقب مفترق الطرق، وفتحتُ فمي بسرعة.
“الأمير فاسيلي سيمرُّ بهذا الممر قريبًا. أحتاج إلى الوصول إلى الطابق الأول دون أن يراني! لا تحتاج إلى إخفائي، لكن إذا سألكَ إن كنتَ قد رأيتني، فقط قُل لا، ورجاءً، لا تقل شيئًا آخر. هل فهمت؟”
نظرة الوسيم ذو الشعر الفضي بدت وكأنها تقول: ‘من أنتِ لتطلبي مثل هذا الطلب؟ هل تعرفينني؟ آه، لا أعرفكِ أيضًا!’
في الواقع، كان هذا أفضل. التعامل مع نبيلٍ شابٍّ يبدو أنه يظهر في القصر لأوّل مرّةٍ كان أسهل بكثيرٍ من التعامل مع نبيلٍ عجوز. على الرغم من أن هدوءه المفرط أزعجني قليلاً، إلا أنني كنت أعلم أنني إذا اختلقتُ قصةً معقولة، فإن تسعة من كل عشرة أشخاص سيصدقونها.
ارتسم على وجهي أتعس تعبيرٍ يمكن أن أُظهره وأمسكتُ بكمّه بإحكام.
“أنا لا أفعل شيئًا سيئًا. أُريد فقط أن أُعطي بعض الحلوى للارا. لارا هي كلبتنا من نوع يوركشاير تيرير، لكن فاسيل لم يعطها أي وجبةٍ خفيفةٍ منذ أكثر من أسبوع لأنها اكتسبت وزنًا. لذلك، كانت تشعر بالحزن الشديد مؤخرًا. بالطبع، تسللتُ خلال حصة التاريخ، لكن… لا يمكنني رؤية لارا إلا الآن. أعتقد أن فاسيل كان قلقًا من أنني سأعطيها وجباتٍ خفيفة. لقد منعني من لقاء لارا لأكثر من عشرة أيام الآن!”
التسلّل من حصة التاريخ لمقابلة كلبة يوركشاير تيرير المحبوبة سرًّا! ألا يُعتبر هذا من براءة ولطف فتاةٍ تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا؟
ما لم يكن الشخص بلا قلب، فلا يمكنه الرفض.
لكن لماذا أشعر بعدم الارتياح؟
“ما نُخفيه اليوم، سأبقيه سرًّا طوال حياتي.”
غطَّيتُ جميع الاحتمالات التي قد تساور الشخص الآخر.
“سأُعطي لارا وجباتها الخفيفة وآخذ درسًا تكميليًّا في التّاريخ.”
لكن الغريب في الأمر أن الجمال الفضّي لم يظهر عليه التعبير المعتاد من الحيرة أو الشك.
عادةً ما يبالغ النُّبلاء الشباب في ردود أفعالهم حتى لأصغر الأمور بسبب الضغط الذي يتعرّضون له في القصر. ومع ذلك، كان الجمال الفضّي يرف عينيه بهدوء، وكان يتفحّص وجهي وكأنه يبحث عن شيء.
بدأ الأمر يصبح محبطًا. إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، لم يكن أمامي خيار سوى اللجوء إلى الملاذ الأخير، حتى وإن بدا ذلك مشبوهًا قليلًا!
“أنا الأميرة لاريسا نيكولاييفنا نوفاروف! من الآن فصاعدًا، أُصدر لكَ أمرًا. اخفِني. العصيان هو أقبح العقوبات، سأعاقبكَ بأكثر العقوبات إهانةً -بحلق رأسك…”
“فالنتين؟”
يا إلهي!
توقفتُ عن التنفّس، بسرعةٍ أطلقتُ يد الرجل وأسرعت للاختباء خلف الستار. تأكّدت من أنني أرمقه بنظرةٍ تهديديّة قبل أن ألتفت برأسي.
مسحَ الغبار عن كمّه المتجعد بازدراء، كما لو كان إمرأةً جميلةً تزيل الغبار عن وجهها، ثم انحنى بإيجازٍ أمام الرجل الذي وقف أمامه.
“سموّكَ، الأمير فاسيلي.”
الآن كان الشكلين يقفان بجانب بعضهما البعض. حبستُ أنفاسي، مشدودة الأذنين، مُجمَّدًة في مكاني.
“لم أتوقع أن ألقاكَ هنا. ألم يكن من المفترض أن تكون مع والدي؟”
“أرسلني بعيدًا، قائلاً إنه متعب. يبدو أن وجهي غير مرحبٍ به.”
“حسنًا، بالنظر إلى وضعك، لم يكن أمام والدي خيارٌ سوى ذلك. فالنتين، لا تبدو لي في حالٍ جيّدةٍ أيضًا. هل ترغب في العودة إلى غرفتك للراحة؟ لا، قبل ذلك، أود أن أسألك شيئًا. لا تأخذها كمفاجأة.”
“نعم، سموّكَ. إذا كنتَ تسألني إن كنت قد صادفتُ الأميرة لاريسا نيكولاييفنا نوفاروف، فإن الإجابة نعم، قد فعلتُ.”
ماذا؟!
انتظر لحظة.
“صادفتما بعضكما البعض؟”
“اختبأتْ عندما تقاطعنا. هنا بالضبط.”
لم أُصدّق ذلك!