أتضحَ أنّ أمي كانت مُتجسدةً! - 2
__ الفصل الثاني __
يا أُمِّي، لا يجبُ أنّ نقول عن الإنسان إنَّهُ ‘أصليٌّ’.
بينما كُنتُ أعبِّرُ عن إعجابي البريءِ باختيارِ أُمِّي للكلماتِ التي لا تخضعُ للمنطقِ المعتادِ، وضعتْ يدَها بلطفٍ على رأسي، قائلةً:
“وأيضًا، هو الفتى الذي سيجعلكِ إمبراطورةً.”
ثم قبَّلت أُمِّي جبهتي قُبلةً قصيرةً
وتراجعتْ خطوةً إلى الوراء.
“آه، لم أُخبركِ بالأمسِ، لكن لا تذكري
اسمهُ أمامَ أيِّ أحدٍ.”
“ماذا؟ ولماذا؟”
“لأنَّهُ لا يعلمُ حتَّى أنَّهُ ابنٌ غيرُ شرعيٍّ
للإمبراطورِ. هذا سرٌّ بيني وبينكِ فقط.”
من أين جئتِ بهذا السرِّ أصلًا؟
“سأُخبرهُ في الوقت المناسبِ، وحتى يحين ذلك الوقت، احتفظي بهذا السرِّ جيّدًا. أليس من الأفضل أن يظلَّ الأمرُ سرًّا، ليبدو أكثرَ جاذبيةً ومتعة؟”
“أُمِّي…”
“أوه، يبدو أنَّهُ يستيقظُ.”
بينما كنت أردُّ عليها ببطءٍ، أطلقت أُمِّي تنهدًا خفيفًا.
وعندما التفتُّ، رأيتُ كلوديل وهو يحاولُ فتحَ عينيه بتجهُّمٍ على وجههِ.
حينها لمستْ أُمِّي كتفي بلطفٍ وهي تقول:
“حسنًا، سأغادر الآن، حاولوا أن تنسجموا معًا.”
“ننسجم؟ ماذا تعنين بهذا؟”
ابتسمتْ أُمِّي قبل أن تطبع قُبلةً أخرى على جبيني.
“أعني أن تُروِّضي زوجكِ المستقبليَّ.”
“ماذا؟!”
لوَّحت أُمِّي بيدها مستمتعةً بارتباكي، وقالت
وهي تغادرُ الغرفةَ:
“سأكونُ بالخارج، تعالي بعد أنّ تُرتبي الأمور معهُ.”
حاولتُ الإمساكَ بها ومنعها من المُغادرةِ، لكن الباب أُغلق خلفها بلا اكتراثٍ وبصوتٍ خافت.
و…ماذا يحدثُ هنا بحق…؟
“آآآه!”
ماذا عن كلوديل؟
التفتُّ لأجدهُ يعاني وهو يفتحُ عينيه ببطءٍ، لتظهرَ عيناهُ الجميلتان بلون الكهرمان.
نظر نحو السقفِ قبل أن يُحوِّلَ بصرهُ نحوي.
“آه…مرحبًا؟”
بمجرد أن التقت أعينُنا، خرجت
التحيةُ مني بشكلٍ تلقائيٍّ.
لكن كلوديل لم يردَّ بأيِّ كلمةٍ.
هل هو عاجزٌ عن الكلامِ؟ أم أنَّ
تأثيرَ الدواءِ ما زال قائمًا؟
بينما كنتُ أفكِّر في ذلك، فتح كلوديل فمهُ ببطءٍ.
“أُمِّي…”
“أُمِّي؟”
نظرتُ حولي بسرعةٍ، لكن أُمِّي كانت قد غادرتْ بالفعل.
هل يقصدني أنا؟ لكنني لم أتجاوز العاشرةَ من عمري بعد!
“…أين أنا؟”
تسارعت أفكّاري عندما سمعتُ صوتهُ الحاد.
حينها نظرت أمامي مُباشرةً إلى عينيه التي كانت تُراقبني بتجهُّمٍ، حينها فجأةً ملأ عينيهِ عداءٌ شديدٌ نحوي جعل تلك الأعين تبدو وكأنها عادت إلى الحياةِ من جديدٍ.
“مَن أنتِ؟ أنا كنتُ بالتأكيد…”
وبينما كان يكملُ كلامهُ، بدأ ينظرُ حولهُ قبل أن يمسكَ رأسهُ بيدهِ وكأنَّهُ يعاني من ألمٍ شديدٍ، ثم فقد توازنَهُ وسقط على المنضدةِ.
وأصدر أنينًا منخفضًا.
حينها نهضتُ بسرعةٍ معتقدةً أنَّ هناك مشكلةً.
“هل أنتَ بخير؟!”
اقتربتُ من كلوديل الذي كان يمسكُ برأسه.
لماذا يحدثُ هذا فجأةً؟
وعندما حاولتُ الاقترابَ منهُ، أمسكَ بمعصمي فجأةً وكأنَّهُ كان ينتظرني، ثم رفع قلمًا حادًا كان على المنضدة إلى عنقي.
“أين نحن؟ أنتِ…آآهه!”
بمجرد أن اخترقتْ صرختُهُ الحادة أذني، سقط مرةً أخرى على السرير وهو يتألم.
كان هناك ضوءٌ خافتٌ يخرجُ من كتفِهِ، حيثُ كان يظهرُ بوضوحٍ وسمُ العبوديةِ الصغير الخاصُّ به.
“آه…مؤلمٌ…مؤلمٌ للغاية!”
وقفتُ مترددةً، خائفةً من أن تكونَ هذه حيلةً أخرى منهُ.
لكن مع مرورِ الوقتِ، بدا أن الألمَ الذي يظهرهُ حقيقيٌّ.
في تلك اللحظة، اقتربتُ بحذرٍ منه.
“كلود…أمي!”
عندما لمستُ كتفهُ بحذرٍ، توقَّفَ عن الحركةِ فجأةً.
لم يصرخْ مجددًا، لكنَّ عيناهُ بدتا نصفَ مغلقتين.
ما الذي يحدثُ له؟ هل هذا بسببِ الوَسْمِ؟
حينها تذكرتُ ما قرأتُهُ من قبلُ، أنَّ وسمَ العبوديةِ ليس مجردَ علامةٍ، بل هو قوةٌ تمنعُ العبدَ من معارضةِ سيِّده.
هل يمكن أن يكونَ هذا ما يحدثُ هنا؟
“هل أنتَ بخير؟”
سألتهُ بحذرٍ، بينما كنتُ أراقبُ وجهه، ليتحرَّكَ ببطءٍ نَحْوي بنظرةٍ فارغةٍ.
فتح فمهُ بصعوبةٍ بعد لحظاتٍ من الصمتِ.
“أينَ نحن؟”
“أنتَ في قصرِ عائلةِ كارلشت.”
“كارلشت…”
“بالمناسبة، هل أنتَ بخير؟ لقد كنتَ تبدو متألمًا جدًّا.”
أومأ برأسهِ ببطءٍ، بينما عضَّ شفتيه.
ومن ثم تراجعتُ خطوةً للخلفِ عندما حاول النهوضَ.
‘هوووه…’
أطلقتُ تنهيدةً خفيفةً بينما كنتُ أراقبهُ بصمتٍ.
‘لم أتوقعْ أن يُهددني بهذه السرعةِ. لقد أخافني. لكنَّ الأهمَّ هو هل هو بخيرٌ حقًّا؟’
رغمَ تهديدهِ المفاجئِ، فإنَّ ما صدمَني
أكثرُ كان مشهدهُ وهو يتألمُ.
لم أكن قد رأيتُ طفلًا في عُمري يتلوَّى
على السريرِ من الألمِ بهذه الطريقةِ من قبلُ.
لم أفكّرْ حتى في سؤالهِ لماذا رفعَ القلمَ نَحْوي.
حتى لو سألته، كان سيردُّ بأنَّهُ كان يحاولُ الهروبَ أو تهديدي ليتمكنَ من الفرار.
“…لقد تم بيعي، أليس كذلك؟”
سمعتُ صوتَهُ المليءَ بالسخريةِ والاستسلامِ، مما أثار في داخلي مشاعرَ مُختلطةً.
كلمةُ ‘بيع’ عادةً لا تُستخدمُ لوصفِ شخصٍ، وخاصةً طفلٍ في مثلِ عُمِرِه.
بدأتُ أشعرُ بأنَّ غضبي الذي بدأ يخفُّ تدريجيًّا قد ذابَ تمامًا عند سماعِ هذه الكلمة.
بالطبع، استيقظَ فجأةً في مكانٍ غريبٍ، لا بد أنَّه كان في حالةِ صدمةٍ.
حتى أنا كنتُ سأشعرُ بنفسِ الشيءِ لو كنتُ مكانه.
“مرحبًا…”
“…”
“كم عُمركَ؟”
لم أتمكنْ من السيطرةِ على لساني، وطرحتُ سؤالًا غيرَ لائقٍ تمامًا.
العمر؟! في موقفٍ كهذا؟ بدلًا من محاولةِ مواساته؟!
لكنَّ على عكسِ توقعاتي، ردَّ كلوديل ببرودٍ.
“أنا في الثانيةَ عشرةَ.”
“أكبرُ مني بعامين إذًا.”
لكنني لم أكن أنوي معاملتَهُ كأخٍ أكبرَ.
فالعالمُ الذي تعلَّمتُ فيهِ تحتَ إشرافِ أمي جعل عُمري العقلي أكبر حتى من طفلٍ في الثانيةَ عشرةَ.
وبينما كنتُ أتأملُ في أفكّاري، سألني كلوديل بنبرةٍ حادةٍ، وكأنَّهُ يحاولُ التأكدَ من شيءٍ ما.
“هل اشتريتِني؟”
“لا، أمي هي التي اشترتْكَ.”
“أمُّكِ…؟”
عضَّ كلوديل على شفتيه وكأنَّهُ يفكرُ
في أمرٍ ما، ثم زفر بهدوءٍ.
بعدها رفعَ رأسهُ ونظر إليَّ بنظرةٍ
جانبيةٍ مع ميلٍ خفيفٍ لشفتيهِ.
“إذاً، أنتِ ستكونين سيدتي.”
“سيدتُكَ؟”
“لقد قيل هناك: العبدُ عندما يفتحُ عينيهِ للمرةِ الأولى، يعتبرُ أولَ شخصٍ يراهُ سيده. وبما أنَّ أولَ وجهٍ رأيتُه عند استيقاظي هو وجهكِ، فأنتِ سيدتي.”
وبعد أن انتهى أطلقَ تنهيدةً ساخرةً كانت تلك تنهيدةً ساخرةً لشخصٍ يدركُ أنَّهُ في موقفٍ غيرِ مرغوبٍ فيه.
“إذًا، هل ستختارينَ ليّ اسمي أيضًا؟”
“اسمُكَ؟”
“العبيدُ ليس لديهم أسماءٌ. أو بالأحرى، لا أتذكّرُ اسمي. لا أعرفُ من كنتُ، ولا ما كان اسمي، ولا حتى من أين أتيتُ…لا شيء.“
يبدو وكأنَّهُ فقدانُ ذاكرةٍ.
كنتُ قد قرأتُ في وقتٍ سابقٍ أنَّ العبدَ الذي يحملُ وسمًا لا يستطيعُ الهربَ.
ربما كان هذا هو السببَ؟
لكن بالنظرِ إلى أنَّهُ كان يبحثُ عن والدتهِ قبل قليلٍ، فإنَّهُ يبدو وكأنَّهُ يعرفُ شيئًا ما.
“أنتَ…”
بينما كنتُ على وشكِ أن أنطقَ، توقفتُ فجأةً.
لحظةً، ألم تقلْ أمي ليّ ألا أخبرهُ؟
بصراحةٍ، لم أفهم السببَ تمامًا.
ما الضيرُ في إخبارِ شخصٍ لا يعرفُ ماضيهُ باسمِهِ؟
قد لا يكونُ الأمرُ ذا أهميةٍ كبيرةٍ، ولكن الأفضلُ أن أسألَ أمي عن التفاصيلِ أولًا قبل أن أقررَ ما إذا كنتُ سأخبرهُ باسمهِ الحقيقيِّ أم لا.
“أنتَ ريغيل.”
“ريغيل؟”
“نعم، ريغيل. وكما قلتُ سابقًا، أمي هي من اشترتكَ، وأنا لا أعرفُ التفاصيلَ. فقط أخبرتني أنَّها اشترتكَ. سأخبركَ بما أعرفُ عندما أسمعُ المزيدَ من أمي.”
“حسنًا…”
شعرتُ ببعضِ الذنبِ لكذبي عليه.
ولكن لم يكن لديَّ خيارٌ آخرُ الآن.
لم أستطعْ إخبارهُ باسمهِ الحقيقيِّ دون أن أفهمَ الأسبابَ وراءَ ذلكَ من والدتي.
سأخبرهُ في الوقت المناسبِ.
كما كان ريغيل يبدو وكأنَّهُ يعاني من صعوبةٍ في تقبُّلِ الموقفِ، فأغمضَ عينيه ببطءٍ.
مما جعلني أشعرُ ببعضِ الأسفِ تجاهَه.
أن تُختطفَ وتصبحَ عبدًا فجأةً ليس بالأمرِ السهلِ.
‘لكن، ماذا يجبُ أن أفعلَ الآن؟’
هل يُمكنني الاحتفاظُ بهِ هنا؟
إذا كان حقًّا ابنًا غيرَ شرعيٍّ للإمبراطورِ، فقد
يُورطنا هذا في مشكلةٍ كبيرةٍ.
ربما يجبُ أن أعيدَهُ سرًّا إلى القصرِ الإمبراطوريِّ؟ لكن ماذا عن الوَسْمِ؟
بينما كنتُ غارقةً في هذه الأفكارِ، فتحَ ريغيل عينيه فجأةً وأطلقَ أنينًا متألمًا وهو يمسكُ بكتفهِ.
“ماذا بكَ؟!”
“الوسم…!”
صَرَّ ريغيل على أسنانهِ وهمسَ بصوتٍ منخفضٍ.
شعرتُ بالذعرِ، ولم أكن أعرفُ كيف أساعدهُ.
لاحظتُ وميضًا غريبًا ينبعثُ من كتفهِ، فرفعتُ طرفَ ملابسهِ بحذرٍ لأرى الوسمَ الصغيرَ ينتشرُ ببطءٍ حتى وصلَ إلى عنقهِ.
“إنَّهُ مؤلمٌ جدًّا…!”
انحنى ريغيل على ركبتيه وهو يقطرُ عرقًا من وجههِ المتألمِ.
لم أكن أفهمُ سببَ هذا الألمِ، لكن بدا واضحًا أنَّ الأمرَ مرتبطٌ بالوسمِ.
أدركتُ بسرعةٍ أنني لا أستطيعُ فعلَ أيِّ شيءٍ لمساعدتهِ.
“انتظر قليلًا! سأحضرُ أمي والطبيبَ…!”
بينما كنتُ على وشكِ مغادرةِ الغرفةِ لاستدعاءِ أمي، أمسكَ ريغيل بيدي.
كان يتألمُ بشدةٍ وركعَ على الأرضِ، محاولًا بالكادِ النطقَ بكلماتٍ.
“أنا…آه…!”
“ريغيل؟ هل أنتَ بخير؟”
“أ…أنا…”
بينما كان يهمسُ بتلك الكلماتِ المليئةِ بالمعاناةِ، بدا وكأنَّ عينيه تعكسانِ عدمَ الفهمِ لما يحدثُ له.
كان يحاولُ بذلَ كلِّ جهدِهِ لمقاومةِ شيءٍ ما، لكنَّ وجههُ تحوَّلَ إلى اللون الأحمرِ بسببِ الضغطِ.
“أُقرُّ…أُقرُّ…بأنني عبدكِ…”
وأخيرًا، تفوهَ ريغيل بتلك الكلمات التي كانَ
يُقاوم الألم لكي يقولها.
“…وأُقسمُ بأنني سأخدمكِ كسيدتي.”
وبعدَ أنّ انتهى مِن هذهٍ الجملة، انهارَ ريغيل
على الأرض، حتى أنّ أنينهُ قد توقفَ تمامًا.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي