أتضحَ أنّ أمي كانت مُتجسدةً! - 1
__ الفصل الأول __
ظللتُ أُحَدِّقُ بصمتٍ في الصبيِّ النائمِ على السريرِ، لا، بل الصبيِّ الذي يحملُ اسمَ كلوديل.
لقد مرَّ يومٌ كاملٌ منذ أنْ أحضرتْهُ والدتي.
“ابْقِ بجانبهِ حتى يستيقظَ. أليسَ منَ الأفضلِ أنْ
تكوني أولَ منْ يراهُ حينَ يفتحُ عينيهِ؟”
غادرتْ والدتي القصرَ بعدَ أنِ ابتسمتْ قائلةً إنَّهُ يجبُ عليَّ أنْ أتركَ انطباعًا جيّدًا لهذا الفتى فورَ أنّ يستيقظ، كما يخرجُ فرخُ الطائرِ منَ البيضةِ ويرى والدتهُ مُباشرةً.
كانَ الخدمُ يدخلونَ بينَ الفينةِ والأخرى ليسألوا إنْ كنتُ بحاجةٍ إلى مساعدةٍ، لكنَّني كنتُ أهزُّ رأسي بالرفض.
باستثناءِ لحظاتِ ذهابي إلى الحمَّامِ، بقيتُ
بجانبِ كلوديل طوالَ الوقت.
كنتُ أتساءلُ في داخلي إنْ كانَ حقًا منَ الضروريِّ أنْ أظلَّ جالسةً بجانبهِ كما أمرتني أمي، لكنَّ هذا كلَّهُ كانَ بدافعِ فضولي الشخصيِّ.
هل هو حقًّا الابنُ غيرُ الشرعيِّ للإمبراطور؟ وكيفَ انتهى بهِ المطافُ هنا؟
كنتُ أرغبُ في سؤالِ أمي، لكنَّها غادرتْ قبلَ أنْ أتمكَّنَ منْ طرحِ أيِّ سؤالٍ.
لذلك، قرَّرتُ الانتظارَ.
لقد ظننتُ بما أنَّهُ كانَ نائمًا، فسيستيقظُ
بعدَ ليلةٍ واحدةٍ…
لكنْ، بعدَ مرورِ يومٍ كاملٍ، والغروبُ قد أخذَ يلامسُ أسوارَ مزرعةِ العمِّ آيل خلفَ التلالِ، لمْ يظهرْ على كلوديلَ أيُّ علامةٍ تدلُّ على استيقاظهِ.
حينئذٍ، بدأتُ أقلقُ.
أنَّهُ لمْ يتناولْ طعامهُ حتى الآن…هل هو مَريضٌ؟
بينما كنتُ أفكِّرُ في ما إذا كان ينبغي ليّ إيقاظهُ، سمعتُ طَرَقًا على البابِ، وفُتِحَ على الفورِ.
“إليانا!”
كانَ صوتًا مألوفًا ونبرةً تُنادي باسمي.
عندما استدرتُ، رأيتُ والدتي، سيسيليا، وهي تبتسمُ ليّ بشعرها الأشقرِ اللامعِ، وكانت تحملُ دفترَ ملاحظاتٍ في يدها.
اقتربتْ والدتي مني وربَّتتْ على رأسي
وهي تحدِّقُ في كلوديل.
“لمْ يستيقظْ بعدُ؟”
“نعم. أمي، هل تعتقدينَ أنَّ هناك شيئًا خاطئًا فيهِ؟ هل هناك شيءٌ غيرُ طبيعيٍّ في هذا الطفل؟ لعلهُ تحتَ تأثيرِ لعنةٍ أو يعاني من أعراضٍ غريبةٍ؟”
“أوه!”
نقرتْ أمي بلطفٍ على أنفي وبدتْ عيناها حزينةً للغاية.
“أنا فخورةٌ بابنتي الذكيةِ التي تعرفُ وتستخدمُ الكلماتِ الصعبةَ والرسمية للآداب النبيلةِ كهذه، لكن لا تنسي أنَّكِ ما زلتِ طفلةً في العاشرةِ منْ عمركِ. منَ الآنِ فصاعدًا، لا تُناديني بـ ‘أمي’ بطريقةٍ رسميةٍ كهذه، وإلّا سأشعرُ بالحزنِ.”
تنهدتُ بصوتٍ خافتٍ وأجبتُ قائلةً:
“حسنًا، فهمتُ يا ماما.”
فما كانَ من أمي إلّا أن ابتسمتْ
مجددًا وكأنَّ شيئًا لمْ يكنْ.
ثمَّ عادتْ لتربِّتَ على رأسي وأدارتْ
نظرها نحوَ كلوديل.
“أفهمُ ما تفكرينَ فيهِ، إليانا، ولكن ليسَ الأمرُ
كذلكَ. ربما كانَ تأثيرُ الدواءِ قويًّا عليهِ بعضَ الشيءِ فقط.”
“دواء؟”
رفعتُ رأسي بدهشةٍ عندما سمعتُ تلكَ
الكلمةَ تخرجُ منْ فمِ أمي.
كانتْ والدتي تحدِّقُ في الصبيِّ بتركيزٍ وهي تُسندُ ذقنَها على يدها، لكنَّها لاحظتْ نظرتي المتفاجئةَ والتفتتْ نحوي، قائلةً:
“أوه، لا تقلقي. أنا أتحدَّثُ عن المهدِّئِ الذي أعطوهُ لهُ عندما أحضرناهُ. عادةً، يتمُّ إعطاءُ العبيدِ المهدِّئاتِ لأنَّهم يميلونَ إلى التمرُّدِ.”
“مهدِّئ؟…عبيد؟”
“نعم. لقد حاولتُ إحضارهُ قبلَ أنْ يصبحَ عبدًا، لكنَّني لمْ أتمكنْ من العثورِ عليهِ في الوقتِ المناسبِ، فاضطررتُ إلى شرائهِ.”
كانتْ أمي تتحدَّثُ بلا اكتراثٍ، بينما كانتْ تخرجُ دفترَها وتكتبُ فيهِ شيئًا ما، في حين أنَّني شعرتُ بالدهشةِ تتصاعدُ داخلي.
إذًا، لقد اشترينا هذا الطفلَ منْ سوقِ العبيدِ؟
“تبدو عليكِ ملامحُ الفضولِ، يا ابنتي.”
ابتسمتْ أمي برفقٍ وكأنَّها قرأتْ أفكاري.
وبينما كنتُ لا أزالُ متجمِّدةً منَ الصدمةِ، جذبتني
بحنانٍ نحوها واحتضنتني.
“لا تقلقي، كما قلتُ لكِ سابقًا. أنتِ أغلى شيءٍ في هذا العالمِ. هل تتذكرينَ لماذا قلتُ إنَّكِ مميزةٌ؟”
“…لأنني ابنتكِ.”
“صحيحٌ! أنتِ مميزةٌ لأنَّكِ ابنتي، وهذا ما يجعلكِ الوحيدةَ التي تستحقُّ أنْ تكونَ زوجةَ الإمبراطورِ. هل فهمتِ؟”
أنا لمْ أفهمْ شيئًا على الإطلاقِ.
ليسَ فقط لأنَّ والدتي أحضرتْ ابنًا غيرَ شرعيٍّ للإمبراطورِ، بل لأنَّهُ أيضًا عبدٌ.
والآنَ، هي تتصرَّفُ وكأنَّ الأمرَ عاديٌّ
تمامًا، وهذا ما يزيدُ من ارتباكي.
“أمي، هل حقًّا هذا الفتى هو ابنُ جلالةِ الإمبراطور؟”
“همم؟ أوه، نعم، هذا صحيح.”
“حقًّا؟”
“أليسَ شعره الرماديُّ دليلًا على ذلك؟”
حسنًا، هذا صحيح.
الشعرُ الرماديُّ كان السمةَ البارزة لعائلةِ أديبويل الإمبراطورية.
ولكن هذا لا يعني أن كلَّ من لديه شعرٌ
رماديٌّ هو من العائلةِ الإمبراطورية…
“ربما يكون مجرَّد تشابهٍ في الشكلِ
فقط. كيفَ تعرفينَ ذلكَ يا أمي؟”
حتى لو لم تحظر الإمبراطوريةُ تجارةَ العبيدِ بشكلٍ صريحٍ، إلا أنَّها لم تكن تحدثُ بشكلٍ علنيٍّ أو متكرِّر.
بل، سمعتُ أنَّهم يناقشونَ إلغاءَ نظامِ العبوديةِ برمتهِ.
وبالتالي، لا يعقلُ أنْ يتمَّ تقديمُ ابنٍ غيرِ شرعيٍّ للإمبراطورِ علنًا في سوقِ العبيد.
إغلاقُ السوقِ بين ليلةٍ وضحاها لا يكفي، بل حتى لو طافَ هذا الفتى على سطحِ نهرِ ليفينت، لكانَ الأمرُ مشينًا بشكلٍ أقل.
[توضيح/ هنا، يستعمل نهر ليفينت كجزء من تعبير مجازي. المعنى الضمني هو أن بيع ابن غير شرعي للإمبراطور كعبد في سوق العبيد أمر مشين للغاية، لدرجة أن حتى التصرفات الأكثر غرابة وغير المعقولة، مثل أن يطفو الفتى على نهر ليفينت ليُشاهد من قبل الجميع، ستكون أقل إثارة للجدل مقارنة بما يحدث فعليًا.]
هذا يعني أنَّ هويَّةَ هذا الطفلِ لم تكن معروفةً في
المزادِ حينَ بيعَ. فكيفَ عرفَتْ أمي بذلك؟
نظرتْ أمي إليَّ بابتسامةٍ رقيقةٍ وراحتْ تُحرِّكُ أصابعها بخفَّةٍ وكأنَّها تقرأُ تعابيرَ وجهي المعقَّدة.
“هناكَ طريقةٌ لمعرفةِ كلِّ شيء.”
“وكيفَ ذلك؟”
“لأنني أمكِ بالطبع!”
“…”
أطلقتُ تنهيدةً عميقةً بعدَ هذه
الإجابةِ التي لم أفهمها أبدًا.
وضعتْ أمي القلمَ والمفكِّرةَ على الطاولةِ بجانبِ رأسِ الفتى المستلقي على السرير، ثمَّ أمسكتْ بخدّيَّ بكلتا يديها ونظرتْ إليَّ بعينينِ حازمتين، بقولها:
“ابنتي العزيزة، لقد زادت تنهداتكِ في الآونةِ الأخيرة. ألم أقل لكِ دائمًا؟ إذا تنهدتِ، ستفقدينَ حظَّكِ. ابقي مُبتسمةً دائمًا. الابتسامةُ تجلبُ الحظَّ، وإذا ابتسمتِ باستمرارٍ، ستحدثُ لكِ أشياءٌ جميلةٌ للغايةِ.”
لكنَّ تلكَ <الأشياءِ الجميلةِ> ليست بالتأكيدِ أنْ نحضرَ ابنًا غيرَ شرعيٍّ للإمبراطورِ ونتركهُ ينامُ في سريرِ منزلنا.
ابتلعتُ الكلماتَ التي كانت على وشكِ
أنْ تفلتَ من فمي.
في هذه الأثناءِ، اعتدلتْ أمي في وقفتها وراحتْ تنظرُ إلى كلوديل.
“لا داعيَ للقلقِ يا إليانا.”
كانت تلكَ النبرةُ الجادةُ التي نطقتْ بها أمي وهي تبتسمُ باحترافٍ غيرَ ما كانت عليهِ عندما كانت تُداعبُ خديَّ بلطفٍ منذُ قليل.
كانت أمي بين الحينِ والآخرِ تتخذُ هذا الموقفَ الجادَّ، وحينَ تفعلُ ذلك، كانتْ دائمًا تخرجُ بأفكارٍ عظيمةٍ أو بمفاجآتٍ غيرِ متوقعة.
تطلَّعتُ إليها بفضولٍ شديدٍ منتظرةً ما ستقول، فما كان منها إلا أنْ التفتتْ نحوي بابتسامةٍ واسعةٍ، قائلةً:
“هذا الفتى أصليٌّ.”
“…”
مرةً أخرى، أصابتني كلماتُها الغريبةُ بالدهشة، فبقي
فمي مفتوحًا دونَ أنْ أنطقَ بكلمة.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي